منذ وقتٍ ليس ببعيد، وفي منطقة غربي نيبال الريفية، كانت الفتاة غوري كوماري باياك شرارة قريتها. إذ تردَّد صدى صوتها القوي عبر الحقول وهي تُقشِّر الذرة. وحين كانت تسير بخُطى سريعة بمحاذاة الطريق متجهةً إلى بعض النساء لتعطيهن دروساً في كيفية تحديد النسل، أُعجَب الكثيرون بثقتها بنفسها.
ولكن في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، نُقِلَت جثتها إلى أعلى أحد التلال، وكان وراءها حشدٌ من الناس يصرخون. وأُحرِقَت بقاياها وتم التبرِّع بملابسها. وحُطِّم الكوخ الصغير، الذي أجبرتها الضغوط على عزل نفسها فيه أثناء فترة الحيض وماتت فيه، لتُمحى بذلك آخر علامةٍ على حياة شابةٍ أخرى ماتت بسبب خُرافاتٍ قاتلة، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
والد زوجها دامبار بودا، كان يجلس على إحدى الصخور ويُحدِّق في التلال ويردد: "ما زلتُ لا أصدق أنَّها ميتة".
هذا التقليد الذي يستهدف الحائض تسبب في موتها
في هذا الركن من نيبال داخل أعماق جبال الهيمالايا، تُطرَد النساء من منازلهن كل شهر حين يأتيهن الحيض. إذ تُعتَبَر الإناث في هذه الفترة ملوثات بل ومُضِرَّات. ونشأ نظامٌ قمعي حول هذا الأمر المُحرَّم، يتضمَّن بناء كوخٍ منفصل للحوائض كي ينمن فيه. بعض هذه الأكواخ ضيقٌ كخزانة ملابس، وجدرانها مصنوعةٌ من الطين أو الصخور، ويُمكن اعتبارها في الأساس حُفراً للحيض.
ماتت غوري من جرَّاء استنشاق الدخان في كوخها، حين كانت تحاول تدفئة نفسها بشعلة نيران صغيرة، وسط برودة الشتاء القارسة في جبال الهيمالايا.
يشهد كل عام موت امرأة أو فتاة واحدة على الأقل في هذه الأكواخ، بل وأكثر من ذلك في أغلب الأحيان، سواءٌ بسبب التعرُّض للبرد القارس، أو استنشاق الدخان، أو التعرُّض لهجمات الحيوانات المفترسة.
وفي الشهر الجاري يونيو/حزيران 2018، عُثِرَ على امرأةٍ شابة أخرى ميتة في أحد أكواخ الحيض بعد تعرُّضها للدغة ثعبان.
وقالت الشرطة إنَّ أسرتها حاولت التستر على موتها بتدمير الكوخ ودفن جثتها بسرعة، لكنَّ السلطات أخرجت الجثة وتُحقِّق فيما حدث.
تُسمَّى هذه الممارسة "تشوبادي" باللغة النيبالية، وتعني هذه الكلمة الشخص الملوث، وهي مستمرةٌ منذ مئات السنين. ولكن في الوقت الحاضر، تحاول الحكومة النيبالية والمدافعون عن حقوق المرأة إنهاء ذلك الوضع. فاعتباراً من شهر أغسطس/آب القادم، ولأول مرة، سيُعَد إجبار الحائض على عزل نفسها جريمةً تصل عقوبتها إلى السجن لمدة ثلاثة أشهر، ولكن لم يتضح بعد ما إذا كان ذلك سيُقلِّل هذه الممارسات.
بعضهن يخرجن إلى أكواخ الحيض دون إجبار
أطلعت امرأةٌ نيبالية تُدعى مانسارا نيبالي مراسل صحيفة New York Times على كوخها بخجل. كان مصنوعاً من الحجر، ولم يتجاوز طوله ثلاث أقدام (90 سنتيمتراً). وبينما انحنت مانسارا إلى منتصف طول جسدها تقريباً لدخول الكوخ، اصطدم رأسها بإطار الباب الصغير.
وقالت وهي تفرك جبينها بعد الاصطدام: "لقد بنينا ذلك بأنفسنا، لذا فهو ليس جيداً جداً".
ومثل العديد من النساء الأخريات اللواتي التقيتهن، كانت مانسارا -التي تعتقد أنَّ عمرها 35 عاماً- أُميَّة. فهي لم تذهب إلى أي مدرسةٍ قط، وبَدَت محرجةً من فقرها. كان وجهها مليئاً بالتشقُّقات العميقة، ووجنتاها مكسوتين باللون الأحمر بسبب العمل يومياً خارج المنزل، عند سفح الجبل الذي تضربه الرياح والعواصف باستمرار.
تحمل النساء في هذه القرى أعباء عملٍ بالغة؛ إذ يقول مراسل الصحيفة رأيتُ امرأةً في منتصف عمرها تقريباً تمشي بصعوبةٍ في أحد الأسواق وهي تحمل حمولةً يُعادل وزنها مئتي رطل (91 كيلوغراماً) من التفاح، على ظهرها، في صناديق مربوطة بحبالٍ حول صدرها.
وقال عُمَّال إغاثة إنَّ إحدى المشكلات الأخرى التي تواجهها العديد من النساء في هذه المنطقة هي تدلِّي الرحم، الذي يُمثِّل حالةً مؤلمة ينزلق فيها الرحم ويبرز من المهبل. ويمكن أن تُصاب النساء بذلك بسبب رفع أحمالٍ ثقيلة والولادات العسيرة، وكلا الأمرين شائعٌ هنا.
وقالت باشوباتي كونوار، التي تدير مجموعةً إغاثية صغيرة لمساعدة النساء: "كل ذلك جزءٌ من المعاناة والذل اللذين تقاسيهما النساء بسبب تقاليدَ قاسية. فالعنف المنزلي لا يزال منتشراً، ومعدل زواج الأطفال لا يزال مرتفعاً. وصحيحٌ أنَّنا نحاول إقناع الناس بأنَّ الزمان يتغير، لكنَّ الخُرافات ما زالت قوية".
ويعتقون أن الحيض يجلب ثلاث مصائب للبيت
ويبدو التخلُّص من ممارسة تشوبادي على وجه الخصوص صعباً، إذ يتعلَّم الناس هنا منذ أقدم العصور أنَّ أي احتكاكٍ مع المرأة الحائض يجلب الحظ السيئ، ومعظمهم لا يشكُّون في ذلك.
وأوضح المزارع رانكو ذلك قائلاً: "إذا دخلت أمراةٌ منزل عائلتها وهي حائض، ستحدث ثلاثة أشياء: سيأتي نمرٌ إلى المنزل، وستشتعل النيران في البيت، وسيمرض ربُّ المنزل".
وتحدَّث رانكو بلا أي شكٍ أو تجميلٍ للكلام، وحين سُئِل عمَّا إذا كان قد رأى نمراً في قريته من قبل، ابتسم ولم يُجِب، لكنَّه بعد ذلك سَرَد قصةً طويلة وقعت أحداثها منذ 10 سنواتٍ تقريباً، قال فيها إنَّه فقد بصره لعدة أيام بعدما لمس ابنته بالصدفة وهي حائض.
وقال: "لقد كان كابوساً".
والبديل قد يكون مخزناً تحت الأرض
وفي أثناء حديثه، كانت ابنة أخيه المراهقة الحائض تستعد للانتقال إلى مخزنٍ يقع أسفل المنزل. كانت الشمس آنذاك مختبئةً خلف الجبال، والرياح الباردة تعصف بقوة. وكان المخزن مُظلماً وبارداً وضيقاً، ورائحته مثل الفراء المبلل، وكان مليئاً بالحشرات التي تُسبِّب حكة القش.
وقالت ديفيكا، ابنة أخي رانكو: "يُسعدني الذهاب إلى هناك، لأنَّني لا أريد أن يمرض أبي ولا أمي".
وكان عمُّها ينظر إليها عن كثب.
وأضافت: "المشكلة الوحيدة هي أنَّ هواتفنا لا تعمل هناك. إذ نضطر إلى الخروج من المخزن للتحقُّق من تحديثات صفحاتنا الرئيسية على موقع فيسبوك".
وحين سألتُ رانكو عمَّا إذا كان يقبل النوم في المخزن، ضحك قائلاً: "ولماذا يجب عليَّ النوم هناك، إنَّه مخصصٌ للنساء".
أكواخ الحيض في مرمى الوحوش المفترسة
وفي بعض القرى، تُرسَل الحائض إلى حظائر الأبقار. وتعتبر النساء اللواتي ولدن حديثاً نجساتٍ كذلك، ويبقى العديد منهن معزولاتٍ مع أطفالهن الجدد لعدة أيام. وقالت باشوباتي إنَّ إحدى هؤلاء الأمهات تركت وليدها وحيداً قبل عامين في إحدى الحظائر لبضع دقائق لتغسل ملابسها، فتسلل ابن آوى إلى الحظيرة والتهم الطفل بسرعة.
تضع العديد من الديانات قواعد بشأن الحيض، وتُركِّز الهندوسية تركيزاً خاصاً على الطهارة والنجاسة. ومع ذلك، فالعلماء ليسوا متيقنين من سبب تحريم الحيض بهذه الشدة في غربي نيبال، حيث ما زال عددٌ لا حصر له من القرى الممتدة عبر منطقةٍ يبلغ طولها مئات الأميال يؤمن بهذا التحريم.
قد يكون السبب في ذلك هو أنَّ نيبال فقيرة ونائية، وسكانها متجانسون نسبياً لأنَّ أغلبهم من الهندوس، وبيوتها تميل إلى أن تكون صغيرة. (جديرٌ بالذكر أنَّه في بعض الثقافات الفرعية الهندوسية الأخرى، يُمكن عزل الحوائض بدرجةٍ ما داخل منازلهن).
والطهي غير مسموح به في فترة الحيض
تضطر بعض النساء إلى النوم في الأكواخ لمدة أسبوعٍ كامل، أمَّا بالنسبة للطعام، فلا يُسمح لهن بالطهي، وهو ما قالت عنه عدة نساء إنَّه راحةٌ لهن في الواقع، لذا غالباً ما يبقين في أكواخهن، وينتظرن أن يُدخِل إليهن أفراد أسرهن أطباق الطعام من أسفل الباب.
ولا يُفترض كذلك أن يلمسن الماشية، فإذا تسلَّل عِجلٌ أو ماعز إلى أكواخهن، يجب عليهن استصراخ شخصٍ آخر ليُخرجه خوفاً من أن يُصاب الحيوان بالمرض. وفي النهار، تعمل الحوائض في الحقول كأي شخصٍ آخر، ولكن مع ضمان عدم احتكاكهن بالقرويين الآخرين، ثم يذهبن إلى أكواخهن في الليل.
هناك من يناضل الآن لوقف ظاهرة تشوبادي
وقالت كاثرين مارش، أستاذة علم الإنسان في جامعة كورنيل، التي عملت على نطاقٍ واسع في نيبال: "تُجرى هذه الممارسات باسم حماية طهارة المجتمع، لذا يصعُب جداً على الأفراد تغييرها".
هناك عدد متزايد من الناس يحاول تغييرها بالفعل.
يُعَد دارما راج قضيات واحداً من المتمردين على هذه العادة. نشأ دارما في قريةٍ جبلية صغيرة بغربي نيبال، تقع على بُعد ساعتين بالسيارة من المكان الذي ماتت فيه غوري، حيثُ ما زالت النساء يسحقن حبوب القمح بلوحٍ خشبي يُشبه الأرجوحة الثنائية التي ترتكز على محور ارتكاز عند منتصفها. ثم أمضى ما يقرب من 20 عاماً في كاتماندو، العاصمة النيبالية التي تضم سكاناً متنوعين نسبياً.
وحين عاد إلى قريته مؤخراً ليعمل مديراً في أحد المستشفيات، قال إنَّه شعر بالخجل من أنَّ أقرباءه ما زالوا يمارسون هذه العادة.
وقال: "إنَّها عادةٌ متخلفة للغاية".
وقبل بضع سنواتٍ في أثناء مهرجانٍ هندوسي، وقف أمام القرية بأكملها، وألقى خطاباً قال فيه "إنَّ منزله مفتوحٌ أمام أي امرأةٍ حائض لا تريد الذهاب إلى الأكواخ".
فصاح رجلٌ من الحشد قائلاً: "هل أنت ثَمِلٌ؟".
وقال دارما إنَّ بعض الناشطين أقنعوا العديد من الأسر في قريته بتدمير أكواخهم. ولكن منذ بضعة أشهر، شعرت بعض هذه العائلات بالخوف، وأعادت بناءها.
ويستشهدون بحادثة بشعة لإقناع أصحاب القرار
وقال العديد من المُشرِّعين إنَّ موت تولاسي شاهي، وهي امرأةٌ عمرها 18 عاماً تعرَّضت للدغة ثعبان في العام الماضي 2017، حين كانت مُقيمةً في إحدى حظائر الأبقار، هو الذي دفع بعض المُشرِّعين إلى صياغة القانون الجديد الذي يُجرِّم هذه العادة.
ومع أنَّ هناك حوائض من جميع الأعمار يَنمن في الأكواخ، يبدو أنَّ هذه العادة تقتل الشابات على نحوٍ غير متناسب.
وقال ناشطون إنَّ ذلك قد يرجع إلى أنَّ الشابات لَسن على درجةٍ كافية من الفطنة بشأن حماية أنفسهن؛ فعلى سبيل المثال، ربما لا يعرفن نوع الثعابين السامة، ولا مدى أهمية إبقاء باب الكوخ مفتوحاً بعض الشيء إذا كانت هناك نيرانٌ مشتعلة.
وقال رواتي رامان بندري، أحد الأعضاء السابقين في البرلمان النيبالي: "توصَّلنا إلى أنَّنا إذا تركنا للمجتمع حرية التغيير، سيستغرق الأمر مئات السنين".
وبعد حادثة الناشطة النسوية غوري حطموا كوخ الحيض
أمَّا بودا، والد زوج غوري، الفتاة التي ماتت في شهر يناير/كانون الثاني، فيخبر الآن أكبر قدرٍ ممكن من الناس بمخاطر هذه العادة.
وقال: "لكنَّ الناس لا يكترثون. أقول لهم: 'لقد ماتت ابنتي، وبناتكن مُعرضَّاتٌ للموت كذلك'، فيقولون لي: 'نحن آسفون، لكن تلك هي ثقافتنا'".
كان بودا يُدرك أنَّ غوري، التي قالت الأسرة إنَّها ماتت عن عمرٍ يناهز العشرين عاماً، كانت تؤمن بأفكار النسوية إلى حدٍّ ما، إذ كانت تُعطي دروساً بشأن كيفية تحديد النسل، وتُشجِّع النساء على الدفاع عن أنفسهن.
واستدرك قائلاً: "لكنَّها ظلَّت تتبع هذه العادة، فالضغوط قويةٌ للغاية. ولو لم تذهب إلى الكوخ في أثناء حيضها، لشعرت بالحرج".
وقال إنَّه يفتقد كل تفاصيل حياتها: الطريقة التي كانت تقرأ بها الكتب، وحماسها للحياة وصوتها.
جديرٌ بالذكر أنَّ غوري انتقلت إلى العيش مع أسرة زوجها بعدما تزوجت وتوطَّدت علاقتها مع أفراد الأسرة كثيراً. وبعد وفاتها، حطَّم والد زوجها الذي يشعر بذنبٍ هائل كوخ الحيض بيديه.
ومنذ ذلك الحين، يُصر على أن تنام زوجته في البيت الرئيسي في أثناء حيضها.
وقال لي: "أتعرف؟ لم يُصبنا مكروه. لقد كُنَّا طوال هذه السنوات كلها مخدوعين بتصديق خُرافةٍ كاذبة".