بأيادي النساء ومن أجل النساء.. من هي “مهرة” التي أتاحت حياة جديدة للسوريات اللاجئات في إسطنبول

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/11 الساعة 16:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/12 الساعة 08:33 بتوقيت غرينتش

في الطابق السفلي من مركزٍ اجتماعي يقع بحي الفاتح في مدينة إسطنبول التركية، تنشغل نحو 24 امرأة بالعمل بمقصّاتٍ وخيوط وإبر في أياديهن.

كُنَّ يسابقن الزمن لإنتاج أقراط، وقمصان، وأوشحة، وحقائب يدوية، وغيرها من الأدوات المنزلية والملحقات قبل إطلاق موقع على شبكة الإنترنت يعرض أحدث منتجاتهن تحت اسم "مهرة".

اللهجة السورية هي الطاغية بين النساء، يساعد بعضهن بعضاً بسهولةٍ وثقة، يُبيِّنان أنَّ بينهن الكثير من الأمور المشتركة. فمعظمهن لاجئاتٌ سوريات فررن من أوطانهن التي مزقتها الحرب. وفي بعض الأحيان، يمكن سماع ضحكهن في أثناء أوقات الراحة القصيرة أو لحظاتٍ مسروقة وسط الخياطة والتطريز.

لودي، مُصمِّمةٌ سورية تعول والديها وأخوين أصغر منها، تعتبر أنها تعمل من أجل أسرتين؛ إحداهما داخل المنزل والأخرى خارجه، وفي كل يوم تقابل أشخاصاً جدداً من مجتمعاتٍ أخرى، وتتعلم منهم، "يجب أولاً أن أشعر بالحب تجاه كل امرأةٍ وأفهمها".

إسطنبول.. حياة جديدة

ويقع مبنى منظَّمة Small Projects Istanbul الأهلية غير الحكومية، المكوَّن من 5 طوابق في مدينة إسطنبول بالقرب من أسوار القسطنطينية التاريخية، وتُعَد هذه المنظمة واحدةً من عدة منظمات اجتماعية تُمثِّل نقطةً مرجعية في المنطقة للاجئين الذين يحاولون إعادة بناء حياتهم من الصفر. تدعم المنظمة حالياً أكثر من 200 أسرةٍ لاجئة وافدة من مناطق النزاع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك بتوفير تدريبٍ يُمكِّن المشاركين من تعلُّم المهارات اللازمة لكسب الدخل وإعالة أسرهم، بالإضافة إلى فرصٍ لتولِّي أدوارٍ قيادية.

يُركِّز أحدث مشروعات ريادة الأعمال التابعة للمنظمة على الأمهات النازحات بسبب الحرب؛ إذ يكرِّس كل جهوده من أجل رفاهية الأسر اللاجئة.

وأطلقت المنظمة مؤخراً علامة أزياء تجارية جديدة مع منتجاتٍ مصنوعة يدوياً بأيدي أمهاتٍ لاجئاتٍ، ستتوافر عبر الإنترنت في وقتٍ لاحق من العام الجاري (2018).

شانون كاي، مُساعدة مدير المنظمة، تسجل أنهن يعملن على تطوير مهارات أكثر من 50 امرأةٍ من سوريا والعراق ومصر، يطورن منتجاتهن وترابطهن الاجتماعي.

المنظمة أطلقت في عام 2016، خط إنتاج يعمل في المكان نفسه بأيدي النساء أنفسهن تحت اسم Drop Earrings Not Bombs، أو "القوا الأقراط لا القنابل". ومن أجل توسيع نطاقها وتوافر منتجاتها والأنشطة النسائية، قرَّرت المنظمة إضافة منصة جديدة في العام الجاري (2018) باسم مجموعة المنتجات الجديدة: مُهرة.

"مهرة" بألوان الربيع

وبعد المعرض الخارجي الأول للمنظمة الذي أقامته في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017، ببازار برلين في ألمانيا، وعَرَضت فيه مجموعة منتجات العام الماضي (2017)، حفَّزتها التعليقات الإيجابية على إطلاق منصة مُهرة ومجموعةٍ جديدة بألوان الربيع والزخارف الملموسة، ما يُتيح لهؤلاء النساء اللاتي يعملن بجد، فرصةً ثانية لمشاركة أعمالهن وتوسيع تصميماتهن وتنويعها بعيداً عن الأقراط فقط.

يخضع فريق مُهرة للإدارة والتوجيه من جانب نساء من مختلف أنحاء العالم، فعضوات الفريق الإداري من تركيا والولايات المتحدة وأستراليا. وبصفتهن مغترباتٍ أجنبيات في تركيا ذوات خلفيةٍ مشتركة في العمل الإنساني، كان من السهل عليهن إيجاد هدفٍ مشترك والتجمُّع لإطلاق هذا المشروع الاجتماعي المتعلق بالموضة.

وقالت شانون، المواطنة الأسترالية، لموقع Middle East Eye: "تعني كلمة مُهر الحصان الصغير، وشعارنا (نعمل معاً بلا حدود)، وتُمثِّل كلمة (مُهرة) طاقةً جديدة لبدايةٍ جديدة قوية والتحرُّك بإيجابية. وتُعبِّر عن أصلنا؛ لأنَّها تنتهي بتاء مربوطة".

أغلب المُصمِّمات أمهاتٌ سوريات تتراوح أعمارهن بين 26 و65 عاماً. وتضم ورشة العمل 50 عاملةً بدوامٍ جزئي تحت قيادة شيماء، وهي أمٌّ سورية لـ3 أطفال تغمر المكان بقيادتها اللطيفة وسلوكها الإيجابي.

تُعَد شيماء إحدى العضوات المجتهدات في فريق مهرة، وتعلَّمت بنفسها صُنع منسوجاتٍ من المكرمية (وهي أسلوب نسجٍ بالحبال والجدائل يعود تاريخه إلى سبعينيات القرن الماضي) كالحقائب اليدوية والسلال المعلَّقة والأساور وإبداعاتٍ أخرى. وتشمل أحدث روائع شيماء مُعلَّقاتٍ جدارية، وأوعيةً مُعلَّقة للنباتات، وتصميم حقيبة شاطئ ضمن مجموعة المنتجات الصيفية لفريق مُهرة.

"بأيدي النساء ومن أجل النساء"

كان اختيار التركيز على الموضة فكرةً رئيسية للمشروع مستوحاة من أحد المشاهد الأولى التي رآها الفريق الإداري في ورشة العمل تلك.

وتذكرت شانون هذا المشهد، حيث كانت مجموعةٌ صغيرة من النساء يجلسن في دائرة ويصنعن أساور على طراز المكرمية بعضهن مع بعض.

وأضافت: "نُركِّز على النساء بسبب وضع الأمهات في مجتمعنا هنا. لقد بدأنا كمركزٍ مجتمعي يستضيف الأمهات وأطفالهن. وضغوط النزوح تعني أنَّ هؤلاء النساء الآن بحاجةٍ إلى كسب الدخل؛ للمساهمة في النفقات المنزلية أو حتى إعالة البيت بأكمله".

يُعَد مشروع مُهرة نموذجاً "بأيدي النساء ومن أجل النساء". إذ يدعو المشروع سُكاناً محليين إلى ورش العمل، ما يُعزَّز التفاهم المتبادل ويسمح للاجئين والسكان المحليين بلقاء بعضهم.

مواقف عنصرية.. لكن فردية

كان تسجيل منظمة Small Projects Istanbul على أنَّها مؤسسةٌ اجتماعية تركية خطوةً حاسمةً في تمكين مشروع مُهرة من ضمان أعلى الفوائد لعاملاته. ففي بلدٍ يعمل فيه العديد من اللاجئين السوريين بطرقٍ غير شرعية، وحتى الأطفال يضطرون إلى العمل لكسب عيشهم والبقاء على قيد الحياة -مع أنَّ تركيا تحظر عمل الأطفال تحت سن الخامسة عشرة- ثمة تحدياتٌ واجهت تسجيل المُنظَّمة على أنَّها مؤسسةٌ اجتماعية تركية؛ إذ فرَّ نحو 3.5 مليون لاجئ سوري إلى تركيا؛ هرباً من الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2011، ونصفهم تقريباً دون سن الثامنة عشرة.

ولأنَّ المنظمة تسعى جاهدةً لتوفير أرقام تسجيل ضريبية لجميع النساء المشاركات، وما تزال هذه العملية مستمرة، حتى يمنحهن القانون التركي الأحقية الكاملة بالحصول على تصاريح العمل القانونية والأجور، قالت شانون إنَّهم "يواجهون تحدياتٍ تتمثل في مواقف عنصرية فردية من بعض العاملين داخل النظام البيروقراطي التركي".

وأضافت أن التحوُّل إلى مؤسسةٍ اجتماعية لا يُضفي الشرعية على عملهن فحسب؛ بل يمنحهن القدرة على ضمان حق المرأة في العمل.

وسيمكِّن الموقع الإلكتروني فريق مُهرة قريباً من التواصل مع عملاء من جميع أنحاء العالم، وسيمنح هؤلاء النساء الرائدات القدرة على تحقيق هدفهن الجماعي المتمثل في الاستقرار المالي، وبين منتجاتهن التي تتراوح أسعارها ما بين 70 و180 ليرة تركية (15 و40 دولاراً).

جذور الوطن

الملابس والإكسسوارات مستوحاةً من الطبيعة والتقاليد والقصص الشعبيبة؛ إذ تُمثِّل معظم تصميماتهن في الواقع نُسَخاً طبق الأصل من أنماط الطباعة وألوان المناظر الطبيعية بتركيا وسوريا، مثل مجموعة الأقراط التي تحمل اسم "لوز"، والمصنوعة من إطاراتٍ نحاسية مطليةٍ بالذهب أو الفضة ومغطاةٍ بخيطٍ مُعالج بالمرسرة مصنوعٍ من القطن التركي.

وتستوحي الأقراط اسم "لوز" من أحد أنواع المكسرات المستخدمة في المطبخ السوري؛ إذ كان مصدر إلهام النساء اللاتي صمَّمنها يدوياً يتمثل في ازدهار أشجار اللوز الراسخ في ذكرياتهن عن حياتهن في سوريا. لقد كانت هذه الأشجار مزدهرةً في وقتٍ كانت فيه سوريا قادرةً على الحفاظ على ألوانها الطبيعية التي اتشحت الآن بلون الدمار الرمادي.

ولهذا السبب اخترن اسم "بداية جديدة" لمجموعة الحُلي، وذلك فضلاً عن مجموعةٍ أخرى من الإكسسوارات تحمل اسم "زهرة"، مستوحاة كذلك من التراث النسائي الجماعي. وتضم هذه المجموعة حقائب يدوية صغيرة مصنوعة من قماشٍ تركي منسوج، وقطنٍ عضوي مصبوغ يدوياً، وهي موادٌ بسيطة تقليدية من المنطقة تصنع إكسسواراتٍ متينة وأصلية.  

زينب، وهي سيدةٌ سورية لاجئة تبلغ من العمر 35 عاماً شاركت في المشروع منذ البداية، تؤكد أن النساء في حاجة لاستخدام الكثير من الطاقة والوقت والتركيز لإنهاء كل زوج، "الأمر كُلُّه يعتمد على أيادينا وعيوننا وتركيزنا".

بينما قالت عضوةٌ أخرى من مجموعة "زهرة"، إنَّ الشيء الأكثر إيجابيةً في المشروع هو أنَّه يُمكِّنها من دعم أسرتها بإبداعها، "لم أكن أتخيُّل قط قبل المشروع أنَّ بإمكاني صنع شيءٍ إبداعي بيدي".

في الورشة يستمر تواصل النساء بعضهن مع بعض لإتمام العمل والتيقُّن من أنهن يعرف بالضبط ماهية المنتج المطلوب وكيفية تنفيذه بجودةٍ ممتازة، وبين الحين والآخر تتعالى ضحكاتهن حينما يستحضرن ذكرى مشتركة أو تُلقي إحداهن بنكتة.. "كنا على عتبة حياة جديدة بعد مآسي الحرب في سوريا".