أليس من الغريب أن يبنى سيناريو لفيلم خيال علمي على أساطير ومعتقدات دينية؟ ونحن نعلم أن الكثير من الناس يرى أن العلم يتعارض مع الأديان. لعل ذلك بحد ذاته سبب كاف ليجعل فيلم الخيال العلمي The Matrix بأجزائه الثلاثة أحد أهم أفلام الخيال العلمي المشوقة والمثيرة!
صدر الفيلم في العام 1999، من إخراج وتأليف الأخوات وتشاوسكي (لانا وليلي)، وبطولة كيانو ريفز، لورنس فيشبورن، وكاري آن موس. وتم تصويره في سيدني/أستراليا بإنتاج شركة وارنر برذر وفيليج رودشو بكتشرز.
فكرة فيلم الخيال العلمي The Matrix
ماذا لو راودك ذلك الحلم المتكرر بأن عالمك ليس حقيقياً وأنك نسخة شبيهة بالآخرين، وأنكم جميعاً جزء من برنامج كمبيوتر، تمكن من السيطرة على عقولكم؟ ثم استيقظت فجأة ليعاودك التساؤل نفسه: هل ما رأيته كان حلماً أم حقيقة؟ هل نحن أحرار أم أسرى لقوة أكبر منا تسيطر علينا؟
لا تفزع، فمنذ قديم الأزل راودت عقول البشر تلك الفكرة؛ هل حياتنا مجرد حلم لن نلبث أن نستيقظ منه أم أنها حقيقة؟ وكيف يمكن تعريف الحياة الحقيقية؟
من هذه الفكرة تحديداً انطلق فيلم the Matrix بأجزائه الثلاثة، التشكيك والتساؤل الدائم عن العالم الحقيقي.
الخيال العلمي ببعدٍ فلسفي بالغ العمق
خلال القرن الـ 21 احتفل العالم بأعظم إنجازٍ شهده العلم، وهو تقنية الذكاء الاصطناعي، الذي أدَّى لإنتاج جيشٍ ضخمٍ من الآلات.
بدأت الآلات في مساعدة الإنسان، ثم تفوَّقت عليه لتتمكَّن في نهاية المطاف من السيطرة على عقول البشر بشكل كامل، هكذا تبدأ القصة.
توماس أندرسون (كيانو ريفز) يعيش حياة مزدوجة؛ فهو موظف في إحدى شركات نُظم البرمجة صباحاً ومخترق لتلك الأنظمة ليلاً.
إذ يحمل خلال الاختراق اسم "نيو"، ويتلقَّى اتصالاً من مورفيس الذي يحاول تجنيده من أجل الانتقال للعالم الحقيقي.
مورفيس يحاول إقناع نيو بأن العالم الذي يعيش فيه ليس حقيقياً وأنه مجرد "عبد" داخل برنامج كمبيوتر تسيطر عليه الآلات، وتستخدم البشر بمثابة بطاريات من أجل الحصول على الطاقة اللازمة لتشغيلها، وذلك عبر إبقائهم على قيد الحياة من خلال عالم افتراضي يُسمى الـ matrix أو المصفوفة.
مورفيس جلب نيو إلى العالم الحقيقي بسبب الحرب الدائرة بين البشر الحقيقيين والذين يسكنون في مدينة زيون تحت الأرض وبين عالم الآلات.
يؤمن مورفيس إيماناً كبيراً بأن نيو هو المُخلّص للبشرية من استعباد الآلات، ولذلك يُخضعه لبرنامج تدريبي مُكثف يرتكز على تحرير العقل والتفكير. خاصةً وأن نيو كان يعيش في حالة "الـ Matrix"؛ أي في حالة من سجن الذهن لسنوات طويلة.
الرموز الدينية والعناصر الفلسفية في الفيلم
في المشاهد الأولى ظهر نيو وهو يحمل كتاب "النُسَخ الشبيهة والمُحاكاة" Simulation & Simulacra للمفكر الفرنسي جان بودريار، الذي استهلّ كتابه بحكمةٍ توراتية منسوبة لسليمان:
"لا تخفي النسخ الشبيهة الشيءَ الحقيقي أبداً، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي".
وارتكزت فلسفة بودريار على مفهوم الواقع الفائق Hyper Reality، وهو ما يعني أنّ العالم الواقعي مزيجٌ بين الافتراض والحقيقة.
وعليه صارت الحياة ملعباً بين الذكاء الاصطناعي للعالم الافتراضي وعقول البشر.
خلال أحداث الفيلم، وبعد أن فتح نيو الكتاب تبيَّن أنه مجوف، ولا يحتوي على كلمات وإنما فقط أقراص كمبيوتر مدمجة.
وهو ما يعني أنَّ الحياة لم تعد مزيجاً بين الافتراضي والحقيقي، وإنما سيطرت الآلات على العالم بشكل كبير.
وبذلك يصبح البشر محاصرون داخل برامج الحواسيب الآلية.
وقد ظهرت الرموز الدينية والفلسفية بشكلٍ كبير داخل أحداث الفيلم؛ فعلى سبيل المثال، المبدأ الأساسي الذي يحكم عالم الماتريكس هو "الوهم"؛ فما يعتبره معظم الناس "الواقع" هو محاكاة يتم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر.
وهو ما ينسجم بشكل وثيق مع العقيدة البوذية التي ترى أنَّ ما نعيشه هو وهم وأننا يجب أن نعلو على ذواتنا حتى نصل لمرحلة التنوير.
ووفقاً للبوذية: أكبر مشكلة تواجه البشرية هي عدم قدرتها على رؤية هذا الوهم.
"There is a natural order to this world, and those who try to upend it do not fare well."From the creators of The Matrix, Cloud Atlas is available May 14.
Gepostet von The Matrix am Montag, 22. April 2013
العقيدة البوذية جزء رئيسي في الفيلم
عندما ذهب نيو لأوراكل "العرافة" التي ستنبِّئه بمستقبله شاهد هناك صبياً صغيراً يرتدي ملابس راهب بوذي، يلعب بملعقةٍ صغيرة ويستطيع ثنيها بمجرد النظر إليها.
وعندما تحدث معه نيو أخبره الصغير بأنه يستطيع عمل ذلك عبر إقناع نفسه بأنه لا توجد معلقة أصلاً!
وهي أيضاً فكرة بوذية مفادها أن قدرتنا على تغيير العالم من حولنا تبدأ من قدرتنا على تغيير عقولنا.
أمّا اسم السفينة التي كان يستقلها المتمردون بقيادة مورفيس فمن الممكن أن تكون إشارة مباشرة إلى الملك البابليّ الأول الذي حاصر مدينة القدس عام 587 قبل الميلاد "نبوخذ نصّر".
وهو شخصية في التوارة، ومذكور أيضاً في سفر دانيال الذي أعلن عن مجيء المسيح المخلِّص.
وقد تجلَّت العقيدة المسيحية في شخصية نيو مخلص البشرية من حربها الشرسة ضد الآلات، والذي سيضحي بنفسه في سبيل أن يسود السلام بين البشر والآلات.
مورفيس خلال أحداث الفيلم مسؤولٌ عن إعادة البشر من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي.
ولكنَّه ينتظر دوماً التوقيت المناسب، فهو يعتقد بأن عقول الناس الذين يحاول إنقاذهم لا تزال جزءاً من نظام الماتركس.
كما أن معظم هؤلاء الناس غير مستعدين لرفع القابس عنهم والكثير منهم جامدون واعتادوا على نظام الماتركس لدرجة أنهم قد يحاربون لحمايته.
ومورفيوس في الأساطير الإغريقية هو إله الأحلام، وواحد من أبناء إله النوم هيبنوس.
لكل لون في الفيلم معنى ورسالة مختلفة!
في العام 1982 أخرج ريدلي سكوت فيلم Blade Runner الذي مزج بين الخيال العلمي والديستوبيا، إذ صوَّر الفيلم شكل الحياة في المستقبل، والذي اتسم بالغموض والوحشية.
وقد عبَّر الفيلم عن الاغتراب الموحش للإنسان في المستقبل، من خلال استخدام الأضواء المكثفة.
تلك الأضواء التي عكست طُغيان الجانب الاصطناعي على البشر، إذ بدا العالم كما لو كان غير حقيقي؛ لأنه مُضاء بصورة تزيد عن الحد.
اعتمدت سلسلة The Matrix على الفكرة ذاتها، إذ كانت الإضاءة تتغيَّر تبعاً للعالم الذي تدور فيه الأحداث.
ولكن ظلت الإضاءة الزائدة عن الحد تُعبِّر عن الحياة غير الحقيقية؛ فاللون الأخضر كان لوناً مخصصاً لعالم الماتركس، والذي يمثل عالم سيطرة الآلات، أو الوهم، أو العالم الافتراضي.
أما اللون الأزرق فقد كان لون العالم الحقيقي، وهو ما تَجسَّد في مشاهد مدينة زيون القابعة تحت الأرض.
وعلى الرغم من حقيقية عالم اللون الأزرق إلا أنه كان باهتاً وبه مَسحة من البرودة؛ تجسيداً لحقيقة أن العالم الواقعي ليس بالضرورة أن يكون ساحراً.
اللون الأصفر كان الأكثر إضاءةَ بين جَميع الألوان؛ فهو لَون عالم الآلات الافتراضي.
وهو الذي كان يظهر باستمرار خلال المعارك القتالية بين نيو وحراس البوابات، الذين يحمون نظام الماتركس من الاختراق.
وحمل الأصفر طابع العنف، والحرارة، والنيران، وربما الضرر والأذى بشكلٍ عام.
النظارات الشمسية أيضاً لها دلالات عديدة
استخدمت النظارات الشمسية خلال أحداث الفيلم للترميز البصري بكثافة لأكثر من دلالة.
وحتَّى عدسات النظارات كانت تحمل مغزى ضمني؛ إذ يرتدي رجال عالم الماتركس نظارات شمسية ذات عدسات مستطيلة الشكل، بينما يرتدي المتمرِّدون نظارات شمسية دائرية.
وتبدو العدسات الدائرية حقيقيَّة أكثر من المستطيلة التي تحمل طابعاً عملياً للغاية.
وحين قرر سايفر مغادرة العالم الحقيقي والعودة لعالم "الماتركس" تغيَّر شكل نظارته من المستدير إلى المستطيل.
وكما أن ارتداء النظارات الشمسية له دلالة؛ فإن إزالتها أيضاً تدل على أمرين أساسيين؛ إما أن الشخصية تكتسب منظوراً جديداً أو مختلفاً، أو أنها سَتتجرَّد وتقوم بأمرٍ محوريّ.
بذلك يبدو البطل أكثر إنسانية وبوجهٍ عارِ ومكشوف أمام الآخرين، وهو ما تجلَّى في مشهد استجواب سميث لنيو في الجزء الأول من الفيلم.
إذ قام بخلع نظارته الشمسية، وبدا حينها أكثر إنسانية، كما ظهر أيضاً في مشهد تعذيب مورفيس إذ انكشف حينها أمام حرّاس البوابات.
ربما تحمل النظارات معنى مُختلفاً وهو أن العالم الذي يراه البطل ليس سوى انعكاس للعالم الذي ينتمي إليه.
فخلال ارتداء النظارات ينتمي البطل بشكلٍ أعمى لعالمه وهو ما دفع بمورفيس إلى إخبار نيو أن عينيه تؤلمانه بِشدة بعد انتقاله للعالم الحقيقي، لأنه لم يستخدمهما أبداً من قبل.
45 دقيقة كاملة من الأسئلة الفلسفية!
الفكرة الفلسفية الأساسية التي يرتكز عليها فيلم The Matrix هي التشكيك والتساؤل الدائم؛ لذلك طوال 45 دقيقة الأولى من الجزء الأول للسلسلة يأتي حوار نيو على شكل أسئلة فلسفية، وهو ما يخدم الفكرة الأساسية للفيلم.
وحتى عند مقابلة مورفيس يذكّر نيو بأن الولوج في العالم الحقيقي يشبه زيارة أليس إلى بلاد العجائب بسبب شغفها الدائم بالمعرفة.
لماذا صور الفيلم في أستراليا؟
صوِّرت أحداث الفيلم في مدينة سيدني بأستراليا، بسبب الميزانية المنخفضة للفيلم.
إذ أنَّ الضرائب في أستراليا أقل بكثير منها في أميركا، كما استعان فريق العمل بمدرب الفنون القتالية الصيني يوين وو بينغ، ليخرج مشاهد القتال بشكل إبداعي. وتدرب أبطال العمل على يد بينغ مدة ستة أشهر.
عُرض دور نيو على ويل سميث وتوم كروز ونيكولاس كيج وجوني ديب وليوناردو دي كابريو، قبل أن يستقر الاختيار على كيانو ريفز، الذي طلب منه الأخوان واتشوسكي أن يقرأ كتاب النسخ الشبيهة والمحاكاة للمفكر الفرنسي جان بودريار.
هكذا ساهم The Matrix بانتشار DVD
حتى العام 1999 كان مشغل أقراص DVD غير منتشر بشكل كبير.
ولكن عندما صدر The Matrix على شريط الفيديو المنزلي بعد ستة أشهر من عرضه في السينمات، ساعد ذلك -من دون قصد- على انتشار برنامج تشغيل الفيديو الجديد.
وأصبح الفيلم أول من باع مليون نسخة DVD، وبدون سلسلة The Matrix ربما كانت أقراص الفيديو الرقمية أبطأ قليلاً في الانتشار.
مشهد التصدي للرصاص الشهير
أحدثت سلسلة أفلام The Matrix ثورة كبيرة في عالم صناعة السينما وخاصة في اعتماده على تقنية المؤثرات الخاصة والحركة والإثارة.
فالتصوير البطيء لمشاهد نيو في التصدِّي للرصاص كان بارعاً، كما أن مشاهد القتال في الجزء الأخير من الفيلم بين نيو وسميث كانت فائقة الجودة.
الانتقال من الطرفين بين الاقتتال على الأرض ثم الصعود للسماء ثم النزول مرة أخرى للأرض جسَّد صورة حركية وبصريَّة، جعلت المشاهد مشدوهاً طوال القتال.
ليتخلله في النهاية سؤال سميث لنيو: لماذا تفعل كل هذا؟ هل من أجل الحقيقة؟ لا توجد حقيقة في هذا العالم يا نيو.
وبلمح البصر ينقلنا المخرج من تأثير الحركة والصورة للتساؤل العقلي.