يعيد المخرج مارتن سكورسيزي من خلال فيلم The Departed، صناعة فيلم Infernal Affairs، ليتحفنا مرّة أخرى من خلال الإبداع بنسج تفاصيل عالم الجريمة.
وشارك في بطولة الفيلم عدد كبير من النجوم، أبرزهم ليوناردو دي كابريو، مات ديمون، جاك نيكلسون، مارك ويلبرغ ومارتن شين.
وقد أنتج مؤلف السيناريو وليام موناغان نصاً قوياً اقترن ببراعة الممثلين في رسم الشخصيات.
فما هي قصة فيلم The Departed، ولماذا يعدُّ واحداً من أفضل أفلام الجريمة والإثارة في التاريخ؟
تنويه: يحتوي هذا التقرير على حرق لبعض أحداث الفيلم.
فيلم The Departed: اختراق مزدوج في بوسطن!
تدور أحداث الفيلم بأزقّة مدينة بوسطن الأميركية بولاية ماساتشوستس في أقصى الشرق؛ حيث يتواجد مقرُّ عصابة الأيرلندي فرانك كوستيلو (جاك نيكلسون)، الذي تطارده الشرطة بسبب جرائمه الكثيرة.
كاستيلو ومن أجل تأمين نفسه يقوم بوضع جاسوس داخل شرطة الولاية، وهو كولن سوليفان (مات ديمون).
وفي الوقت ذاته تزرع وحدة التحقيقات الخاصة التي يرأسها النقيب كونين (مارتن شين)، والملازم دينغم (مارك والبيرغ) أحد عناصرها بين رجال عصابة كوستيلو وهو بيلي كوستيغان (ليوناردو دي كابريو).
وفي أحداث الفيلم ينجح بيلي في كسب ثقة كوستيلو، ويتمكن سوليفان من اختراق شرطة الولاية والتجسس لصالح كوستيلو.
وتدور الأيام حتى يدرك كل من كوستيلو وشرطة الولاية أن بينهما جواسيس، لينتهي الأمر بكل من بيلي وسوليفان وهما في سباق مع الزمن، لاكتشاف بعضهما البعض قبل أن يفتضح أمرهما.
تمكّن المخرج سكورسيزي من رسم أحداث الفيلم بشكل دقيق، وخاصة أنه اختار أن يكون كل من كوستيلو وبيلي وسوليفان أيرلنديين.
ليضع في إحدى الحبكات طبيبة نفسية، تذكر مقولة العالم فرويد حول أن الإيرلنديين هم الجنس الوحيد الذي يصعب تحليله نفسياً.
في لقطة بارعة من سكورسيزي حول أبطال الفيلم الغامضين الذين يصعب التنبؤ بردود أفعالهم.
شخصيّات متقلبة!
اعتمد سكورسيزي على شخصيات متقلبة نفسياً وغير مستقرة ولا يمكن التحكم بها.
ونذكر أحد الأمثلة عندما انفجر بيلي أمام طبيبته النفسية أثناء زيارته لها، طالباً منها مهدئاً لحالات الهلع التي تراوده من آنٍ لآخر، ثم نراه قد أحبها ووثق بها في النهاية.
كما أنَّ سوليفان يبدو هادئاً ويمكنه ضبط انفعالاته إلى حد كبير، ولكنه يعيش اضطراباً نفسياً من نوع آخر، تجلى في علاقته غير المستقرة بحبيبته.
بالإضافة إلى خوفه الدائم من كوستيلو، الذي يعيش أيضاً اضطرابات نفسية كانت تظهر في رسوماته بأقلام الرصاص.
وفي إحدى تلك الرسومات التي خطها بعد شكه بوجود واشٍ بين أفراد عصابته يرسم كوستيلو لوحة تضم مبنى القبة الذهبية، وهو مبنى ولاية ماساتشوستس في أعلى الصفحة، بينما تتجمع الفئران في الأسفل لتقتات على كل شيء.
في مشهد بارع يثبت أن المجتمع برمته غارق في المستنقع، وأن الفئران ستنهش قريباً بنية المجتمع ليصل إلى حافة الانهيار.
وهو الأمر الذي يمكن استكشافه بالمزيد من الوقت، حين نعلم أن كوستيلو هو مخبر فيدرالي، وأن الشرطة متورطة بشكل كبير في الجرائم التي تحدث في بوسطن.
لقطات حبست أنفاس المشاهدين
مالَ المخرج سكورسيزي في بعض الأحيان إلى لقطات الكاميرا المقربة، من أجل نقل الحالة المزاجية للأبطال على امتداد مقطوعات موسيقى تصويرية.
ليقدم لنا الفيلم لقطات مكثفة نقلت الحالة العاطفية للأبطال، والمشاعر التي اختلجت داخلهم.
ولم يلجأ سكورسيزي إلى استخدام الكاميرا بزاوية 180 درجة إلا في القليل من المشاهد، التي اعتمد فيها التقاط كل شيء في إطار الصورة، أو في حال كانت رغبته هي إبطاء وتيرة الفيلم.
أمّا حركة الكاميرا السريعة فكانت مُمنهجة لأجل غمس المشاهدين في الشعور بالسرعة.
فقُبيل مقتل كوستيلو على يد سوليفان في النهاية، وبعد معرفته بتتبع الشرطة لطريقه في إكمال صفقة المخدرات يُصور المشهد بالكامل داخل سيارة كوستيلو، دون الاهتمام بشكل كبير بالمشهد الخارجي، وذلك للتركيز على حدة الموقف وتكثيف إثارته.
وبعد مشاهدة هذه اللقطات يمكننا توصيفها بكتاب دراسي حول حركة الكاميرا، فلا أحد فعلاً استطاع توظيف الكاميرا بشكل أكثر فاعلية مثلما فعل سكورسيزي.
حوار مكثف وموسيقى متداخلة!
تركّز الفيلم بشكل كبير على الاستخدام المكثف للحوار؛ ولأن الحوار يطغى على مشاهد بأكملها، فقد استخدمت الموسيقى بكثافة في الخلفية.
وهنا يتبادر إلى ذهننا، مشهدان على وجه الخصوص:
الأول: موعد العشاء بين سوليفان وصديقته الطبيبة
الثاني: حوار كوستيلو مع بيلي بالغرفة الداخلية
في كلا المشهدين استخدمت الموسيقى بشكل كبير، إضافة إلى تقريب الكاميرا من الأبطال، وهو ما جعل المشاهدين يشعرون وكأنهم جزء من عالم سكورسيزي، الذي يدور وراء الكاميرا.
في مشاهد الفيلم الأخيرة وتحديداً في المعركة بين الشرطة وعصابة كوستيلو، وأثناء الحوار الأخير بين الأب الروحي كوستيلو وولده سوليفان، ارتفعت وتيرة الموسيقى.
هذه المؤثرات الصوتية العاليّة، كانت كافية لرفع درجة الإثارة، ثم فجأة ثم انخفض صوت الموسيقى بالتدريج بعد القضاء على كوستيلو، لإيهام المشاهد بأن المعركة انتهت وقُضي على الشرير.
ومن ثمَّ عادت وتيرة الموسيقى للارتفاع مرّة أخرى، في إشارة إلى استمرار معركة بين أطراف لم نعد نعلمهم.
اختصر سكورسيزي كل الكلام، وأطلق لموسيقاه العنان من أجل تحفيز المشاهد وإبقائه على نفس حالة التركيز حتى النهاية.
تصوير فساد جهاز الشرطة وازدواج عالم المدينة في بوسطن
بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم نتأكد أن حالة الازدواجية لم تكن تطغى فقط على بيلي، الذي حاول التخلص من ماضي عائلته المتجذر في الجريمة عبر الالتحاق بالشرطة.
ولا حتّى سوليفان الذي ظلَّ يحمل سجلاً نظيفاً طوال الفيلم، فضلاً عن عمله جاسوساً لرجل عصابات خطير في الخفاء.
كما أن الازدواجية لم تتجسد فقط في شخصية كوستيلو، الذي اتضح في النهاية أنه يعمل مخبراً للمكتب الفيدرالي.
فبعد كثير من الوقت يتضح أن الازدواجية كمنت في المجتمع ذاته، والفساد لم يطل وحدة التحقيقات الخاصة وحسب، وإنما طال المجتمع بأكمله.
وهو ما تجلّى في رسمة كوستيلو بالقلم الرصاص لشكل المجتمع الحالي الذي تسيطر عليه حفنة من الفئران.
وبمرور أحداث الفيلم يترسخ تأكيد فكرة أن سوليفان لم يكن المخبر الوحيد في الشرطة، إذ لم يعد بمقدور المشاهدين معرفة رجال الشرطة الحقيقيين من المتورطين في أعمال غير قانونية.
وهو ما عكسه سكورسيزي ببراعة حتى آخر لقطة من فيلمه، إذ يظهر المحقق دينغم وهو يقتل سوليفان.
لتأتي كلمة نهاية الفيلم مصحوبة بظهور فأر على حافة نافذة منزل سوليفان، وهو ما يؤكد إلى أي مدى استطاعت الفئران السيطرة على زمام الأمور في المجتمع.
يُذكر أن فيلم The Departed حصد 4 جوائز أوسكار، هي أفضل إخراج لسكورسيزي، وأفضل كتابة سيناريو مقتبس لوليام موناهان، وأفضل مونتاج، بالإضافة إلى جائزة أفضل فيلم.
كما فاز الفيلم أيضاً بجائزة اختيار النقاد لأفضل فيلم، وحصد سكورسيزي جائزة الغولدن غلوب لأفضل مخرج.
