رغم الشهرة الواسعة التي نالها، فإن فيلم "الناصر صلاح الدين" للمخرج المصري يوسف شاهين لا يُمكن أن يُعتمد كمصدرٍ تاريخي لتلك الحقبة، بالنظر إلى كثرة الأخطاء والمغالطات التي وردت في مشاهده.
ولهدفٍ ما، لجأ صنّاع الفيلم إلي استبدال بل وتشويه بعض الحقائق المعروفة عن القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، واستبدالها بأخرى.
تلك القرارات التي اتخذها المؤلف يوسف السباعي وكل من عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ في الفيلم الذي عُرض للمرة الأولى في العام 1963، وأثار نقد كثير من المتابعين والنقاد.
الفيلم من بطولة أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وحمدي غيث وليلى فوزي وإخراج يوسف شاهين.
فما هو الفارق بين قصة صلاح الدين في الفيلم والقصة الحقيقية؟
"الناصر صلاح الدين" يوحِّد العرب لتحرير أرض المقدس
تبدأ أحداث "الناصر صلاح الدين" من مصر أثناء الهدنة التي عقدها صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين، ومحاولاته لمّ شمل العرب من أجل استرجاع أورشليم (الاسم القديم للقدس).
وبالتزامن مع تلك المحاولات، تعرَّضت قوافل الحجاج لهجوم من قبل الأمير الفرنسي رينالد دي شاتيون الشهير بـ "رينو" كما جاء في أحداث الفيلم.
وكردّة فعل على تعرّض رينو للحجَّاج العزَّل، قرَّر القائد الإسلامي الكردي محاصرة قلعة الكرك معقل الصليبيين، والبدء بمحاربتهم.
استطاع صلاح الدين الأيوبي بمساعدة المسيحي عيسى العوام وحسام الدين الصارم التكريتي الانتصار في معركة "حطِّين" على الصليبيين، كما تمكَّن من أسر رينو والملك جاي دي لوزينان.
ومن ثمّ أطلق سراح الملك لوزينان، ولكنَّه قتل رينو بعد مبارزة بينهما، كما تمكّنَ من استرداد عكا ويافا وبيروت وصيدا وعسقلان، وحرَّر القدس، وبهذه التفاصيل انتهت الحملة الصليبية الثانية.
الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد "قلب الأسد"
فور الهزيمة توجَّهت فرجينيا – زوجة رينو المقتول – إلى أوروبا، للاستنجاد بملوكها للسيطرة مرة أخرى على بيت المقدس.
إذ زارت إنكلترا من أجل إقناع ملكها ريتشارد الملقب بـ "قلب الأسد" بالمشاركة في حملةٍ صليبيةٍ جديدة من أجل استرداد المدينة المقدسة.
بعدها، ذهبت إلى فرنسا لمقابلة ملكها فيليب، لتبدأ الحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك ريتشارد بحراً، من ولاية عكا.
ليقوم والي عكا بتسليمها المدينة للصليبيين دون مقاومة، بعد اتفاقٍ مسبق مع فرجينيا مقابل تنصيبه ملكاً على عكا ويافا.
وبعد سقوط عكا تمكَّن الصليبيون من السيطرة على عسقلان، ومضوا قدماً صوب بيت المقدس بعد ذلك.
تمكَّن صلاح الدين من هزيمتهم خارج أسوار عسقلان، ليقرر "قلب الأسد" بعدها عقد هدنة مع صلاح الدين.
صلاح الدين يدعو "قلب الأسد" للحج في القدس
وأثناء تلك الهدنة دعا صلاح الدين ريتشارد "قلب الأسد" للحج في بيت المقدس.
وهي الزيارة التي أفضت إلى إصابة ريتشارد بسهمٍ عربيٍّ مسموم، كان من الممكن أن يشعل فتيل الحرب لولا تدخُّل صلاح الدين لعلاج ريتشارد بنفسه.
وبعد تعافي ريتشارد، خاض حرباً لاسترداد القدس من صلاح الدين، لكنَّه لم يتمكن من اقتحام أسوارها بسبب أسلحة جيش صلاح الدين المتطورة، التي تمكنت من إحراق أبراج الصليبيين العسكرية.
بعد عمليات كرٍّ وفرٍّ وسقوط مئات القتلى من الصليبيين، قرّر ريتشارد زيارة صلاح الدين في خيمته العسكرية، ليعرض عليه الصلح، تجنباً لإراقة مزيد من الدماء.
وافق صلاح الدين على طلب قلب الأسد، وتوقفت الحرب، ليعود "قلب الأسد" إلى بلاده بعد أن يخبره صلاح الدين أن القدس أرض ومكان مقدَّس لكافة الأديان، لكنها أرض عربية في الأساس.
والي عكا لم يكن خائناً!
خلافاً لما جاء في أحداث الفيلم من تسليم مدينة عكّا للصليبيين عبر حاكمها الخائن، واحتفاله بسقوط المدينة مع الصليبيين عبر تقديم أقداح الخمر لهم، فالأحداث التاريخية تؤكِّد أن ذلك لم يحدث.
والي عكا وقت الحملة الصليبية الثالثة كان بهاء الدين الأسدي، الشهير بـ "قراقوش"، وهو أحد وزراء صلاح الدين المخلصين، الذي بنى سوراً عظيماً حول القاهرة الكبرى. ضمَّ هذا السور قاهرة المعزّ والعسكر والفسطاط، كما بنى قلعة صلاح الدين لتأمين القاهرة من غارات الغزو الخارجية.
بعد استرداد عكا من يد الصليبيين خلال الحملة الصليبية الثانية، طلب صلاح الدين من قراقوش مغادرة القاهرة والذهاب لعكا من أجل تحصينها.
فشرع قراقوش في تجديد أسوارها وتعلية أبراجها، وهو ما مكَّنه من مقاومة الغزو الصليبي طيلة مدة الحصار التي بلغت 20 شهراً. ومن ضمن الأبراج التي استعملها قراقوش كانت أبراج الحمام الزاجل التي كان يستخدمها للاتصال مع صلاح الدين.
ليس خادماً للعرب.. وعيسى العوام لم يكن مسيحياً!
ترردت في "الناصر صلاح الدين" الكثير من العبارات والشعارات التي تتحدث عن العرب وتمجدهم، بل وتصور صلاح الدين الأيوبي كخادم لهم.
لكن في الواقع، لكن يكن هذا حقيقياً. إذ كان صلاح الدين – كمن سبقه ولحقه من القادة – مهتماً بشأن الإسلام كدين، لا العرب كعرق. لكن يبدو أن يوسف شاهين كان يحاول استغلال القائد المسلم في التسويق للقومية العربية التي كانت رائجةً في تلك الحقبة.
وفقاً لأحداث الفيلم، فإن عيسى العوام المحارب في جيوش صلاح الدين كان مسيحياً، وكانت تجمعه علاقة حب قوية بينه مع لويزا القائدة في مجموعة "فرسان مالطة".
كما أن أحداث "الناصر صلاح الدين" انتهت ببقاء لويزا مع العوّام في بيت المقدس وعدم رحيلها مع الحملة الصليبية الثالثة إلى أوروبا.
كل تلك القصة جاءت على سبيل الحبكة الدرامية لا أكثر، فعيسى العوام كان مسلماً، ولويزا هي مجرّد شخصية خيالية لا وجود لها.
فيرجينيا خيالية.. والبابا دعا إلى الحملة الصليبية الثالثة
في الفيلم، توجَّه ملوك أوروبا إلى الشرق بإيعاز من فيرجينيا جميلة الجميلات أرملة رينو. لكن في الواقع كانت شخصية فيرجينيا من وحي خيال المؤلف، كون الحملة الصليبية الثالثة انطلقت من أوروبا في العام 1189 بدعوة من البابا كليمنت الثالث.
وعليه استعدَّ كل من ريتشارد "قلب الأسد" من إنكلترا، وفريدريك بارباروسا من ألمانيا، وفيليب من فرنسا لغزو الشرق. وكان كلٌّ منهم في طريق منفصل، وليس كما جاء في الفيلم بأنهم جاؤوا من أوروبا معاً.
"قلب الأسد" استولى على قبرص، وسَلَك بارباروسا طريق البلقان وغرق أثناء عبوره لنهر صقلية، فيما توجَّه فيليب مباشرة إلى عكا عبر جبال الألب.
وعلى غرار ما جاء في "الناصر صلاح الدين"، دبَّت الخلافات السياسية بين ملكي فرنسا وإنكلترا بعد الاستيلاء على عكا، ورجع فيليب إلى فرنسا ليستكمل "قلب الأسد" الحرب بمفرده.
وفي حين أن فيلم يوسف شاهين ذكر أن الملك ريتشارد أوقف الحرب، وعقد الصلح مع صلاح الدين حقناً للدماء، فإن الوقائع التاريخية تثبت أن "قلب الأسد" أوقف الحرب في العام 1192، خوفاً على مُلكِهِ المهدَّد في إنكلترا، بعد أن علم بالمؤامرة السياسية التي حاكها أخوه جون مع فيليب ملك فرنسا.
هل يشبه صلاح الدين ما أدّاه أحمد مظهر؟!
في أحداث الفيلم، وبعد الانتصار الساحق في معركة "حطين"، بارز صلاح الدين رينو بالسيف قبل قتله، لكن تلك المبارزة لم تقع في الحقيقة. فصلاح الدين قام بقتل رينو مباشرة، بينما قام جنوده بقطع رأس رينو عقاباً له على قتل مئات المسلمين العزل في قوافل الحج والتجارة.
كما أن فيلم "الناصر صلاح الدين" شهد أحداثاً خيالية آخرى؛ مثل معالجة صلاح الدين لـ "قلب الأسد" بعد إصابته بسهم مسموم، كما أن ريتشارد لم يمرض أثناء الحرب.
لكنّ ذلك لا يمنع أن العلاقة بين الملكين كانت قائمة على الاحترام المتبادل، بسبب معاملة صلاح الدين الجيدة للأسرى الصليبيين. وحتى بعد مغادرة ريتشارد إلى أوروبا ظلَّ الملكان يتبادلان الهدايا بينهما.
دعاية سياسية لجمال عبد الناصر؟
خلال حوار أجراه الممثل بطل فيلم "الناصر صلاح الدين" أحمد مظهر مع مجلة "المجلة" السعودية في العام 1980، ذكر أنه لا يحب الفيلم!
وأضاف أنه يكره المخرج يوسف شاهين أيضاً، بسبب المبالغة في تناول الفيلم لشخصية القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي.
وقال، "شعرت بأن الفيلم يُسقط نفسياً على شخص جمال عبد الناصر، وأنه مطبوخ. وأنا مجرد أداة في يد المخرج".
أما كواليس الفيلم، فقد ذكر مظهر أنها كانت سخيفة، وكانت هناك مبالغة في إظهار عظمة صلاح الدين، وبأنه شعر أنه "يُطبِّل" لعبد الناصر رغم أنه يكره التطبيل.
وعن سبب قبوله لدور البطولة في فيلم "الناصر صلاح الدين"، ذكر أنه لم يكن يدرك بُعده السياسي إلا بعد الانتهاء من الفيلم وعرضه.
كما وقع صناع الفيلم في أخطاء فادحة لا علاقة لها بالحبكة الدرامية.
فعلى سبيل المثال، لم يكن العرب يطلقون اسم "أورشليم" على مدينة القدس كما جاء في الفيلم، لكن كانوا يقولون بيت المقدس أو القدس.
أمّا الخطأ الآخر فإن صلاح الدين لم يكن يُطلق عليه اسم "سلطان العرب" وإنّما سلطان المسلمين.
تركيز الفيلم بشكل مبالغ فيه حول تجميع العرب ووحدتهم تحت لواء قائد واحد جعل الشكوك تحوم كثيراً حول الإسقاط السياسي في الفيلم الذي أُنتج – على ما يبدو – للتسويق للقومية العربية.
شارك الجيش المصري في تصوير الفيلم بأكثر من 20 ألف عسكري قاموا بتمثيل مشاهد المعارك داخل الفيلم.
وبالنظر الدقيق إلى السياق السياسي المصري أثناء عرض الفيلم، فنرى أن الفيلم أُصدر خصيصاً للربط بين صلاح الدين وجمال عبد الناصر، خاصة عبر إلحاق لقب "الناصر" باسم الفيلم، علماً بأن كتب التاريخ الإسلامي لم تصف القائد الكردي بـ "الناصر".
أزمة ماليّة!
عُرض فيلم "الناصر صلاح الدين" في العام 1963، ولم ينجح جماهيراً في دور العرض المصرية.
لكن فور عرضه على شاشات التلفزيون المصري حقَّق الفيلم نجاحاً مدوياً، إلى الدرجة التي جعلته يحتل المرتبة 11 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
وبدأ التحضير للفيلم قبل تاريخ عرضه بـ 5 سنوات، وكان من المفترض أن يخرج الفيلم عز الدين ذو الفقار، لكن ظروف مرضه حالت دون ذلك.
وعليه فقد أوصى ذو الفقار منتجة الفيلم آسيا داغر، بأن تسند العمل للمخرج يوسف شاهين.
وبلغت تكلفة إنتاجه حوالي 200 ألف جنيه، وتعرَّضت داغر بسبب الفيلم لأزمة مالية طاحنة، أدت بها إلى رهن عمارتها الخاصة والحجز على أثاث منزلها.