ما يتناساه البعض أحياناً، أن صناعة السينما في هوليوود هي مجرد صناعة، مثلها مثل غيرها من مجالات العمل، وفي كواليسها تدور قصص، وحوادث، وشائعات.
ومن بين تلك القصص المأساوية، المثيرة للجدل، قصة المُخرج الهوليوودي بولندي الأصل "رومان بولانسكي"، الذي تحل ذكرى ميلاده، والذي أخرج العديد من أفلام هوليوود الأيقونية، وتوسّط دائرة من الأحداث والجرائم الغريبة، والمُشينة، التي جعلت من اسمه علامة مميزة بمجرد ذكره.
بولانسكي.. يهودي ناجٍ من المعسكرات النازية إلى قمة هوليوود
وُلد "رومان بولانسكي" باسم "رايموند رومان تيري بولانسكي" في فرنسا عام 1933 لأبوين يهوديَّين، وانتقلوا للعيش في بولندا عام 1937، في واحدة من أكثر الفترات توتراً واضطراباً في أوروبا، والتي سرعان ما ازدادت سوءاً وبدأ كابوس الاجتياح النازي لأوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية، والأكثر خطورة من ذلك؛ الاضطهاد النازي لليهود، ففقد أمه وعمره ستة أعوام في معسكرات الاعتقال الألمانية، وبعدها بعامين تقريباً.
قُبض على والده وُأرسل إلى أحد المعسكرات بدوره، واضطر "رومان" الطفل إلى العيش بمفرده تماماً. وبصعوبة، استطاع أن ينجو بحياته من الملاحقة النازية، وعاش مع بعض الأُسر الكاثوليكية الفارّة من الاضطهاد.
بعد انتهاء الحرب، أبدى "بولانسكي" اهتماماً كبيراً بالتمثيل والإخراج، وظهر في بعض الأفلام البولندية في بداية الخمسينيات؛ وهو ما دفعه إلى دراسة الإخراج السينمائي في إحدى مدارس السينما الحكومية، وأخرج بعض الأفلام القصيرة بفرنسا. وفي مطلع الستينيات، أخرج أول أفلامه الروائية بعنوان Knife in the Water.
اتجه بعد ذلك إلى العمل في استوديوهات إنكلترا، وهوليوود، وأخرج عدة أفلام جيدة، ولكنها لم تحظَ بالشهرة الكافية. وفي عام 1968، كانت انطلاقته الحقيقية عندما أخرج فيلمه الأيقوني الشهير Rosemary's Baby، الذي تدور قصته في إطار من الرعب النفسي، حول امرأة تكتشف أن جيرانها هم أفراد طائفة شيطانية ويخططون للتضحية بابنها الرضيع الذي حَمَلت به في ظروف غامضة، وهو الفيلم الذي جعل اسم "رومان بولانسكي" يتصدر المشهد السينمائي في هوليوود آنذاك.
الشيطانية تلاحقه.. بولانسكي في قلب أكثر جرائم هوليوود بشاعة!
الستينيات كانت إحدى الفترات الثورية في أميركا، خاصة مع حركات الاحتجاجات الشعبية ضد العنصرية، وانتشار جماعات "الهيبيز"، وظهور العديد من الطوائف الدينية الغريبة. كانت من أشهر إفرازات تلك المرحلة جماعة شهيرة بدأت من بين تجمعات الهيبيز العشوائية، تزعَّمها موسيقي مغمور وأحد المجرمين المضطربين نفسياً وهو "تشارلز مانسون"، الذي كوّن جماعة صغيرة من متعاطي المخدرات، وأقنعهم بأنه زعيم روحاني، عُرفوا فيما بعد باسم "عائلة مانسون".
في أغسطس/آب عام 1969، أقنع "مانسون" أتباعه بالقيام بعدة جرائم قتل طَقسية في قلب أحد أحياء هوليوود حيث يقطن المشاهير والأثرياء، ووضع لهم خطة التحرك، وعناوين الضحايا، وحتى وسائل القتل؛ وكان من بين المنازل التي هاجمها أتباع مانسون منزل المخرج "رومان بولانسكي" وزوجته الممثلة "شارون تايت".
وفي حين لم يكن "بولانسكي" بالمنزل وقتها؛ كانت زوجته بصحبة بعض ضيوفها عندما تسلل 4 –منهم 3 نساء- من أتباع مانسون، وقاموا بقتل الجميع خنقاً، وطعناً، تنفيذاً لأوامر "مانسون" الذي لم يكن بصحبتهم وقت ارتكاب الجرائم. الأكثر بشاعة؛ أن "شارون تيت" التي لقيت مصرعها في عمر 26 عاماً، بعدما تلقت 16 طعنة قاتلة؛ كانت حاملاً في شهرها التاسع والأخير بطفلها الأول من بولانسكي والذي لم تُكتب له الحياة ومات في رَحم أمه. أشاعت تلك المذبحة الرعب في أنحاء أميركا، وفي أوساط هوليوود بشكل خاص، وأثرت في "بولانسكي" فترة، قضاها في عزلة وحزن شديد على زوجته.
الطامة الكبرى.. تخدير واغتصاب فتاة في الثالثة عشرة!
بعدما انتهت زوبعة جرائم "عائلة مانسون"، عاد بولانسكي إلى العمل ثانية، وأخرج بضعة أفلام، كان أشهرها وأكثرها سوداوية فيلم Chinatown الشهير عام 1974، الذي قام ببطولته الممثل "جاك نيكلسون"، ودارت أحداثه حول محقق خاص يحقق في قضية خيانة زوجية؛ ليجد نفسه وسط سلسلة من الأكاذيب والأسرار الغريبة. الفيلم كان بداية لصداقة تكونت بين الممثل الشهير، والمخرج المثير للجدل؛ إذ شهد منزل صديقه "جاك نيكلسون" تفاصيل القضية الثانية التي هزت أرجاء هوليوود وتردَّد فيها اسمه.
في عام 1977، وفي أثناء قضائه بعض الوقت بجناح مخصص له في منزل الممثل صديقه، استضاف عارضة الأزياء الصغيرة "سامانثا جايلي"، بهدف تحضير جلسة تصوير لمجلة Vogue الشهيرة.
وبعد جلسة التصوير، قام بتقديم الخمر المخلوط بالمخدر لها، ثم قام بالاعتداء عليها جنسياً. وبعد أيام، قُبض على بولانسكي في أحد فنادق لوس أنجلوس، وبتفتيش غرفته عُثر على مجموعة من الصور العارية للفتاة التي لم تكن تبلغ من العمر وقتها سوى 13 عاماً فقط، ووُجِّهت له تهم هتك العرض والاغتصاب بالتخدير، وبعد قضاء بعض الوقت تحت التقييم النفسي، وافق على ترتيب اعتراف بممارسة الجنس مع قاصر، في مقابل إسقاط تهم مثل الاغتصاب والتخدير، والتي قد تزيد من عقوبته.
لكن كواليس المحاكمة شهدت العديد من التغييرات في القضاة والمُدعي العام، الأمر الذي هدد بولانسكي بحكمٍ أكثر قسوة، وإلغاء الاتفاق المُبرم. وفي عام 1978، وقبل الحكم النهائي بيوم، هرب بولانسكي إلى لندن، ومنها إلى فرنسا؛ حيث ظل باقي حياته فيها وحتى اليوم، بصفته فرنسي الجنسية، وحاملاً للجنسية البولندية.
بعد كل هذا الجدل.. بولانسكي يحصد أوسكار أفضل مخرج!
عاش المخرج البولندي رحلة من الجدل والفضائح استمرت فترات طويلة، من ضمنها مقاضاة الفتاة له بعدة تهم جديدة؛ منها الخطف، والتهديد، وكان بولانسكي الذي حكى بعض أصدقائه في وثائقي بعنوان Roman Polanski: Wanted and Desired، أنه لم يكن يشعر بفداحة هذا الجرم، وأنه أصر على أنه لم يغتصب الفتاة، وأن أصوله الأوروبية تختلف عن "العادات الأميركية"، استمر في العمل وقام بإخراج العديد من الأفلام في فرنسا، وبريطانيا، ومن بينها الفيلم الدرامي الشهير The Pianist عام 2003 والذي يسرد مأساة موسيقي يهودي بولندي، يفر من جحيم الاعتقال والتعذيب النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو ما شبهه أصدقاؤه في الوثائقي؛ بأنه حمل تقريباً معاناته الشخصية.
وفي مسابقة الأوسكار السينمائية الشهيرة لعام 2003، منحت الأكاديمية جائزة أفضل مخرج غيابياً لـ"رومان بولانسكي"، وسط عاصفة من التصفيق، والدعم من جميع نجوم هوليوود، والعام نفسه؛ حصد الفيلم جائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" الفرنسي، وكأن الجميع قد تناسى أن الرجل فارٌّ من محاكمة في قضية اغتصاب فتاة لم تبلغ عامها الرابع عشر بعد، لمجرد أن فيلمه حكى للعالم مأساة يهودية أخرى، في حين أصر البعض على أنه مهما كانت جرائمه، فهو "يستحق" الجوائز التي أُعطيت له.
وعلى مر السنوات، كان لبولانسكي العديد من الوقائع، أشهرها عام 2009 عندما قُبض عليه في "زيورخ" بسويسرا، وطالبت الولايات المتحدة بتسليمه، ولكن عاصفة من الجدل والدعم غير المسبوق أحاطت بالمخرج البولندي الفرنسي لمنع تسليمه، وسُجن شهرين في سويسرا، ثم وُضع قيد الإقامة الجبرية شهرين آخرين، عاد بعدهما للحرية مرة أخرى. وفي عام 2015، جددت أميركا طلب تسليم بولانسكي باعتباره فارّاً من حكم غير نهائي في قضية لم يُحكم فيها بعد، لكن السلطات القضائية في بولندا رفضت الطلب، باعتبار بولانسكي حوكم وقضى عقوبته في سويسرا بالفعل، وهو ما رآه بولانسكي حقيقة بالفعل؛ وطالب بإسقاط القضية بأكملها من محاكم لوس أنجلوس.
هوليوود والعاصفة.. هل هو تصحيح أوضاع متأخر؟!
في مايو/أيار عام 2018، وعلى خلفية عاصفة هوليوود الأخيرة، الخاصة بفضائح التحرش والاعتداء الجنسي التي اشتهرت بحملة #me_too (أو #أنا_أيضاً)، والتي تصدرت عناوين الصحافة العالمية مؤخراً بالاقتران مع اسم المنتج "هارفي واينستين"- شطبت أكاديمية الأوسكار عضوية "رومان بولانسكي"، وممثل كوميدي آخر هو "بيل كوسبي" سبق أن أثار عاصفة مشابهة، ووُجِّهت له عدة تهم بالاعتداء الجنسي. هذا الشطب دفع بولانسكي لإعلان غضبه، ومقاضاة الأكاديمية، ووصف الفعل بـ"النفاق" و"الهستيريا الجماعية"، وقال إن الجميع يحاولون دعم الحملة غالباً بدافع "الخوف" من فضائح شخصية.
بخلاف العاصفة الأخيرة التي أطاحت بالمنتج "هارفي واينستين"، والممثل الشهير "كيفين سبايسي" ووصلت إلى 137 اتهاماً للمشاهير وعاملين في مجال صناعة السينما والترفيه داخل هوليوود في عام 2018 وحده؛ لم تكن قضايا رومان بولانسكي، أو بيل كوسبي هي الوحيدة في هوليوود التي تحمل طابع "الاعتداء أو التحرش الجنسي للقُصّر"، كانت هناك أيضاً قضية لمخرج آخر شهير هو "وودي آلان"، الذي اتُّهم بالاعتداء الجنسي على ابنته المُتبنّاة "سون يي بريفن" عام 2014 والذي ثبت بعدها أنهما كانا على علاقة عاطفية بغير وجود اعتداء ثم تزوّجا لاحقاً، الأمر الذي يدعو إلى طرح المزيد من التساؤلات عن طبيعة العمل غير العادية في هوليوود، وكواليسها، برغم كل الأضواء البراقة، والنجوم المحبوبين، والأعمال الترفيهية التي يجتاح بها العالم.