«الرسالة».. للمرة الأولى أحد أبطال الفيلم يكشف كواليس تصوير النسخة العربية مع أنتوني كوين

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/21 الساعة 12:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/21 الساعة 12:01 بتوقيت غرينتش

شاهد المخرج الهوليوودي مصطفى العقاد فيلم "لورانس العرب­" في عام 1962 وكان من إخراج ديفيد لين، وترك مشهد تقديم شخصية عمر الشريف فيه لأول مرة أثراً كبيراً في نفس العقاد، يظهر المشهد الممثل عمر الشريف خارجاً من بين الرمال كشبح على ظهر الخيل، لأول مرة رأى العقاد بطلاً سينمائياً عربياً!

يقول العقاد متذكراً ذلك المشهد: "أعتبر المشهد الذي قدم فيه ديفيد لين (عمر الشريف) من أفضل المشاهد التي رأيتها في حياتي، لقد حرك هذا المشهد شيئاً في داخلي، وكنت أحاول أن أحاكي ذلك المشهد في أعمالي اللاحقة".

عزم مصطفى العقاد -السوري الأصل- على أن يصنع فيلماً ملحمياً عربياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وقرر أن يتحدث الفيلم عن حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ونشأة الإسلام في القرن السابع للميلاد.

أراد العقاد للفيلم أن يعمل كجسر تواصل بين الإسلام والغرب، لكن تصوير الفيلم كان صعباً جداً وتعرَّض لموجة انتقادات حادة في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، وزاد الأمر سوءاً ارتباط عرض الفيلم بأحداث عنف قامت بها مجموعات مسلحة إسلامية في العاصمة واشنطن.

يقول العقاد في مقابلة أجريت معه سنة 1976: "نظراً لكوني مسلماً يعيش في الغرب، شعرت بأن عليّ مسؤولية وواجباً دينياً لأروي الحقيقة عن الإسلام، وأردت أن أروي القصة التي ستبني جسر التواصل بين الإسلام والغرب".

استعد العقاد للعمل على الفيلم القرآني بعد أن تم جمع المال اللازم لتمويله من مصادر مختلفة في الشرق الأوسط، وبمستوى إنتاجي يُضاهي أفلام هوليوودية إنجيلية مشهورة في تلك الفترة كفيلم "الوصايا العشر" وفيلم "بين هور".

وبالفعل بدأ العقاد تصوير الفيلم في أواخر سنة 1974، وصور الفيلم بنسختين على التزامن، نسخة عربية ونسخة إنكليزية، حتى يصل الفيلم للعالمين الإسلامي والغربي. ومثّل في النسخة العربية مجموعة من أكبر نجوم السينما العربية والإسلامية آنذاك.

تم ترشيح النسخة الإنكليزية من فيلم الرسالة لجائزة أفضل توزيع موسيقي أصلي، وكانت النسخة الإنكليزية من بطولة النجم أنتوني كوين والذي لعب دور "حمزة" وهو عم الرسول، كما لعبت إيرين باباس دور "هند"، وهي امرأة من مكة لطالما وقفت في وجه أتباع الرسول لكنها دخلت لاحقاً في الإسلام.

واجه العقاد تحدياً رئيسياً أثناء تصوير الفيلم، فأي تصوير مرئي للرسول يعتبر محرماً في الإسلام. ولذلك فإن الشخصية الرئيسية لم تظهر بالفيلم قط.

يقول أنتوني كوين موضحاً هذه النقطة لـ People Magazine:

"لن تستطيع أن ترى النبي محمد في الفيلم، لن تستطيع أن ترى حتى ظله".

حل العبقري العقاد هذه المعضلة بالتلميح لوجود النبي محمد في الفيلم حين تتكلم الشخصيات باتجاه الكاميرا مباشرة، وكانت تلك المشاهد أشبه بمن يرى وحياً روحياً، وكان يقوم مَنْ يحدثه بترديد كلماته حيث لا يسمع صوت الرسول أيضاً.

يقول الباحث الإسلامي خالد أبوالفضل وهو صديق مقرب من العقاد: "أن تجد طريقة لتجعل من الرسول شخصية في الفيلم دون أن تظهره، كان إنجازاً ذكياً، بل كان إنجازاً عبقرياً. لقد أراد العقاد للمشاهدين أن يشعروا بوجود الرسول كإنسان في الفيلم، لكنه احترم في نفس الوقت أن معظم المسلمين لا يريدون أن يتم تجسيد النبي محمد بممثل أو بآخر".

ويوضح الممثل جاريك هاغون الذي قام بتمثيل دور "عمار"، أحد أتباع الرسول: "في ذلك الوقت لم نكن نعرف الكثير عن الإسلام، لقد كان محمد بالنسبة لنا لا يزيد على كونه مجرد اسم، ولذلك كان هذا الفيلم بمثابة درس تنويري".

قدم مصطفى العقاد الإسلام في الفيلم على أنه دين عالمي عظيم متناغم مع التقاليد الروحية الأخرى، فتقول إحدى الشخصيات بالفيلم: "لقد خاطبنا الله من قبل عبر إبراهيم ونوح وموسى"، وتتابع شخصية أخرى بالقول: "وعبر عيسى المسيح".

كما يستجوب ملك الحبشة المسيحي أتباع محمد الهاربين من مكة في مشهد من مشاهد الفيلم، ويطلب منهم أن يقنعوه بدينهم وإلا كان مصيرهم الهلاك بالعودة إلى مكة، فيقول أحدهم: "علمنا محمد أن نعبد إلهاً واحداً وأن نتكلم بصدق وأن نحب جيراننا كما نحب أنفسنا".

مالك وهو ابن مصطفى العقاد تكلم عن هذا الموضوع في أحد اللقاءات: "إن رسالة التعايش المشترك المقدمة في هذا الفيلم كانت شديدة الأهمية بالنسبة لوالدي، وكان مشهد ملك الحبشة من مشاهده المفضلة في الفيلم، كان يريد للغرب أن يرى أنّ معتقداتنا ليست مختلفة تمام الاختلاف".

كان مصطفى مدركاً أنه سيواجه الكثير من النقاد، وبالفعل تمت دراسة نصّ السيناريو صفحة بصفحة من قبل علماء الأزهر في القاهرة، وتم حذف اسم الرسول من العنوان الأساسي "محمد رسول الله" وأعيدت تسميته ليصبح الاسم ببساطة "الرسالة".

ابتدأ العقاد تصوير الفيلم في المغرب العربي، لكن تعرض الفيلم لضغوط سياسية سعودية أدت به إلى التخلي عن مواقع تصويره الباهظة الثمن في المغرب، وقام بنقل عملية التصوير إلى ليبيا بعد حصوله على دعم مادي أثار جدلاً كبيراً من معمَّر القذافي. يقول مالك مفسِّراً سبب قبول العقاد لمساعدة القذافي: "كان والدي مُصرّاً على إنهاء هذا الفيلم، ولذلك لم يمانع تلقي أي مساعدة في سبيل تحقيق هذا الهدف".

تزايد الجدل حول الفيلم وحتى علماء الأزهر الذين وافقوا على النص قبل تصويره، تراجعوا عن دعمهم له واعتبروا الفيلم الذي عرض عام 1976 أنه إهانة للإسلام، وتبع ذلك الأمر موجات انتقاد أخرى، أدت إلى امتناع العديد من الدول عن عرض الفيلم.

عرض متأخر لمدة 50 عاماً

ذكرت شركة "front row" منتجة الفيلم والمسؤولة عن حقوق توزيعه، أن السلطات السعودية أخطرتها بموافقتها على عرض الفيلم في الصالات السينمائية بالمملكة خلال عيد الفطر الماضي.

وأكد مسؤول للشركة في بيان رسمي أن هذا القرار يُسعِد الشركة ومن شاركوا في "الرسالة" ممن لا يزالون على قيد الحياة، مشيراً إلى أن الفيلم جرى عرضه بنسخته الجديدة الرقمية بتقنية 4k.

ويأتي عرض الفيلم في السعودية بعد سنوات المنع استمراراً لسياسات المملكة العربية السعودية نحو مزيد من الانفتاح واتخاذ خطوات لتعزيز الثقافة والإعلام والفنون، كان أبرزها مؤخراً الموافقة على تراخيص دور العرض السينمائية وإقامة حفلات لنجوم الغناء العربي والعالمي بحسب موقع "المصري اليوم".

وأثار عرض التريللر الدعائي للفيلم ردود أفعال كبيرة من السعوديين الذين عبّروا عن ترقبهم لمشاهدته، وتوقعهم تحقيقه أعلى الإيرادات. "الرسالة" ترشّح لجائزة الأوسكار لأحسن موسيقى تصويرية، وتم عرضه فى أكثر من 2400 دار للسينما في الولايات المتحدة الأميركية وحدها، وقدّمه العقاد بنسختين: إحداهما للمنطقة العربية شارك فيها عدد من الممثلين العرب، كان بينهم عبدالله غيث ومنى واصف وأحمد مرعي ومحمد العربي.

وأخرى عُرضت فى الدول الأجنبية بمشاركة الفنان الشهير أنطوني كوين، وشكّل تجسيد شخصيات الصحابة على الشاشة، عقبة كبيرة أمام الفيلم، وحال ذلك دون عرضه في السعودية والعديد من الدول العربية.

أما في الكويت فقد وافقت النخب الدينية على الفيلم بداية ولكن القرار صدر مخالفاً في الدقيقة الأخيرة، وذلك نتيجة لتدخل الحكومة الكويتية التي أفشلت محاولة عرض الفيلم للمرة الثانية خلال 40 عاماً، ما أبقى على حظر عرضه في البلاد.

إنتاج ضخم وجائزة أوسكار

إنتاجياً، تخطت التكلفة التي تحملها المخرج مصطفى العقاد بصفته منتج الفيلم أيضاً مبلغ ١٧ مليون دولار، ذهب معظمها في الديكورات الطبيعية والملابس والإكسسوارات وأماكن التصوير، بالإضافة إلى كم هائل من المجاميع والمعارك واسعة النطاق.

واستخدم العقاد في تصوير العمل كاميرات حديثة وقتها عالية الجودة، لكنها لم تخل من الرقع العرضية وبعض الهالات الحادة والقليل من الضوء التى يمكن التغاضي عنها نظراً لإمكانيات كاميرات التصوير في سبعينيات القرن الماضي.

وأظهر الفيلم أن العقاد كان متمكّناً بشدة من فنّ تصوير المعارك، ومتصرّفاً جيداً في موارده رغم ضخامتها، ما جعل من المشاهد الحربيّة تشكيلاً بصرياً مُدهشاً يرتقي بمشاهدها إلى مصافِّ الحروب المقدّسة التي تخُاض دفاعاً عن الدين وتكريساً للعدالة ورفعاً من الإنسانية، فكأنه بهذه المعارك يخوض معركته الثقافيّة الشخصية.

كتب سيناريو فيلم "الرسالة" ٤ من كبار الكتاب العرب، هم: محمد علي ماهر، وعبدالرحمن الشرقاوي، وتوفيق الحكيم، وعبدالحميد جودة السحار، واشترك معهم الكاتب الأيرلندي هاري كريج في نسختي الفيلم العربية والإنكليزية.

كما حصل الملحن الأميركي موريس جار على جائزة "الأوسكار" لأفضل موسيقى تصويرية أصلية عن موسيقى الفيلم، التي رسّخت بجانب الديكور والمساحات الواسعة التي عرضها العقاد في مشاهده للمتلقي الغربي استكمال الصورة الذهنية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، لذا صارت بدورها جزءاً من أيقونية الفيلم في السينما العالمية.

كواليس الفيلم: ما حدث بين عبد الله الغيث وأنتوني كوين

جسد الراحل عبدالله غيث شخصية "حمزة بن عبد المطلب"، وأبدع فى تمثيل الدور، ونال من خلاله إشادة الجميع بلا استثناء، بمن فيهم الممثل العالمي أنتوني كوين الذي جسد نفس الشخصية لكن في النسخة الأجنبية، حتى نشأت بينهما صداقة قوية للغاية استمرت سنوات طويلة قبل رحيلهما.

وفى حوار نادر، قال النجم الكبير الراحل عبد الله غيث وهو يحكي أدق كواليس تصويره للفيلم، وكيف جاء الحديث بينه وبين أنتوني كوين، وسر العلاقة القوية التى جمعتهما فيما بعد، قال غيث :"لقيتهم بيصورا المشهد الأول فى الفيلم بالانجليزى وبعدين يدخل العرب يمثلوا نفس المشهد فى نسخة الفيلم العربى، وأنا قولت هشوف "أنطونى كوين"، بيمثل إزاى، وأدخل أمثل نفس المشهد، هعرف أقلده وإذا قدرت أضيف حاجة من عندى فى المشهد هضيف، أنا برضه بعرف أمثل".

نهاية حزينة

وقع العقاد في الـ١١ من نوفمبر ٢٠٠٥ وابنته بين ضحايا التفجير الذي جرى في فندق جراند حياة بعمّان في الأردن، وكانا قد حضرا إلى عمّان لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء، وكان الانفجار نتيجة عملية انتحارية، وكان العقاد موجوداً في بهو الفندق بانتظار ابنته القادمة للتوّ من السفر، وقد توفيت ابنته، بينما مات هو بعد العملية بيومين متأثراً بجراحه.