أسفرت سلسلة من الغارات الجوية الإسرائيلية يوم الخميس 9 أغسطس/آب 2018، عن التدمير الكلي لمركز سعيد المسحال الثقافي بقطاع غزة. وفي ظل كون المركز أحد الأماكن الثقافية المعدودة للغاية المتبقية لدى الفلسطينيين في القطاع المحاصر، يُعد هذا التدمير مهلكاً لأحلام الكثيرين.
وكان المبنى، المكون من 5 طوابق، يضم مسرحاً ومكتبةً ومكاتب للجمعيات الثقافية، وكان به مقر للجالية المصرية في غزة.
الفنانون لا يصدقون، فقد عاشوا حياتهم في هذا المكان!
تساءل إدريس طالب، (27 عاماً)، وهو مخرج مسرحي مشهور وأحد العاملين بالمركز في حواره مع موقع ميدل إيست آي: "هل تعرف ماذا يعني أن تعمل في مكان ما لمدة تزيد على 8 سنوات، حتى إنه يُخيل إليك أنَّك صرت تعرف كل شبر فيه مثل كف يدك، وفي غمضة عين لا تجده أمامك!".
وأضاف: "طوال الشهرين الماضيين، كنا عاكفين على التحضير لمسرحية جديدة تحمل اسم (حقنة مخدر) لكي تُعرض في إجازة عيد الأضحى، وانتهينا من تركيب الديكور قبل بضع ساعات من استهداف المبنى".
لم يكن إدريس قادراً على تصديق أن المبنى أضحى أنقاضاً إلا بعد أن رآه بأم عينيه.
وقال إدريس: "أمضينا يوم الخميس بأكمله نستعد للعرض التجريبي يوم السبت (11 أغسطس/آب). كلفتنا أعمال الديكور أموالاً كثيرة، لكننا كنا نأمل أن يغطي المردود المالي للعرض قيمة النفقات، أنهينا التجهيزات في نحو الساعة الثالثة والنصف مساءً، وعدت إلى منزلي للحصول على قدر من الراحة. وعند عودتي في نحو الساعة السادسة مساءً كان المبنى قد دُمِّر بالكامل. أنا مصدوم وأشعر بالاختناق".
قال إدريس، الذي كان يعمل بالمركز منذ أن كان في الثامنة عشرة من عمره، إنَّه لا يستوعب السبب الذي يجعل القوات الإسرائيلية تستهدف مبنى "ليس له علاقة بالفصائل السياسية الفلسطينية".
والمبنى ليس له علاقة بأي فصيل مسلح!
وأضاف: "تقول إسرائيل إنَّ قواتها استهدفت المبنى لأن حركة حماس كانت تستخدم جزءاً منه. لكنني كنت (أعمل) هناك لأكثر من 8 سنوات، لم يكن هناك مطلقاً أي شيء ينتمي إلى أي حزب سياسي. لا في الماضي ولا مؤخراً".
وقالت آلاء قديح، البالغة من العمر 18 عاماً، والمعروفة بأنَّها أصغر مصورة في غزة، إَّنها كانت تنتظر بفارغ الصبر إجازة عيد الأضحى لمشاهدة العرض المسرحي؛ وهي كوميديا سوداء تتناول الوضع السياسي والاقتصادي في قطاع غزة.
وتابعت: "تعودت الذهاب إلى مركز المسحال بانتظام؛ لشغفي بالفن والمسرح، خاصةً أنَّه لا توجد دور عرض للأفلام حقيقية في غزة، فبدلاً من مشاهدة الأفلام على الإنترنت، أفضّل دوماً الذهاب الى هناك ومشاهدة أشخاص في مثل عمري يُمثلون ويحاكون الواقع (الذي نعايشه) في غزة".
وأضافت آلاء: "هذا ليس المركز الثقافي الوحيد الذي استهدفته إسرائيل. دُمرت عدة أماكن أخرى في السابق، وهذا فقط يعكس إصرار إسرائيل على استهداف الثقافة الفلسطينية".
كتب أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي، في تغريدة على حسابه بموقع تويتر، بعد فترة وجيزة من استهداف المبنى: "استهدفت طائرات حربية مبنى مكوناً من 5 طوابق يخدم قوات الأمن الداخلي في حي الرمال شمال قطاع غزة… تُعتبر الوحدة الذراع التنفيذية للقيادة السياسية التابعة لمنظمة حماس الإرهابية، التي تتحمل مسؤولية إدارة جميع نشاطات الأمن الداخلي في قطاع غزة".
قامت طائرات حربية باستهداف مبنى مكون من ٥ طوابق والذي يخدم قوات الامن الداخلي في حي #الرمال شمال قطاع #غزة.
تعتبر الوحدة الذراع التنفيذية للقيادة السياسية التابعة لمنظمة #حماس الإرهابية والتي تتحمل مسؤولية إدارة جميع نشاطات الامن الداخلي في قطاع غزة pic.twitter.com/qGai06U3rx
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) August 9, 2018
لكن الإسرائيليين هدموه لأنه يمثّل الحياة!
أما حنين الحولي (23 عاماً)، فقد قالت إنَّ المبنى استُهدف لأنَّه يُمثّل مصدراً لرفع الروح المعنوية لسكان غزة، الذين عانوا أكثر من 10 سنوات، الحصار الإسرائيلي.
وقالت حنين: "لقد استهدفوا (القوات الإسرائيلية) المبنى؛ لأنهم يصرون على تدمير أي شيء يعيد الحياة إلى سكان غزة، مركز المسحال كان رمزاً للثقافة، وشيئاً يعزز الهوية الفلسطينية. استهدفوه لأنَّ الفن أيضاً هو إحدى صور المقاومة".
كتبت حنين ذات مرة قصيدةً أهدتها للسجناء الفلسطينيين، حملت عنوان "رسالتي الأخيرة" وألقتها على خشبة مسرح المسحال. وتعتقد أن القصيدة تعكس الواقع الذي يواجه الشباب الفلسطيني الآن. وجاء في أحد أبياتها: "في كل مرة أردت الكتابة عن فَرحنا، يأبى قلمي. أصير عاجزة".
وقالت حنين إنَّ القوات الإسرائيلية دمرت مكاناً منحها "إحدى أثمن اللحظات" في حياتها.
وتروي حنين: "أحب الوقوف على خشبة المسرح. لا يمكنني أبداً نسيان كيف كان شعور أول مرة ألقيت فيها قصيدتي وأديت (عرضاً) أمام جمهور، أتذكر أعينهم، وكيف أصبحوا عاطفيين وهم يصغون في صمتٍ إلى قصيدتي، واللحظة التي وقفوا فيها جميعاً مصفقين عند انتهائي. هذه لحظات ستظل عالقة بذهني طوال الحياة".
فحرب إسرائيل لا تستهدف المقاومة العسكرية فقط
عقدت وزارة الثقافة الفلسطينية مؤتمراً صحافياً في غزة على أنقاض المبنى، الجمعة 11 أغسطس/آب 2018، لإدانة استهداف إسرائيل المركز الثقافي. واحتشد أيضاً العشرات من الشباب رجالاً ونساءً وأطفالاً للاحتجاج على الهجوم الإسرائيلي.
وكان من بين المتظاهرين بعض أعضاء فرقة العنقاء للغناء المكونة من 110 أفراد، والذين فقدوا مقراتهم، وآلاتهم وأزياءهم من جراء الهجوم على المبنى.
وقال عيد مصبح (28 عاماً)، وهو مدير الفرقة: "رسالة إسرائيل واضحة. تدمير مبنى ثقافي بارز في غزة له معنى واحد فقط؛ أنَّ حربها ليست فحسب ضد الفصائل المسلحة والفلسطينيين؛ بل أيضاً ضد أي شيء يمت بِصلة إلى الهوية الفلسطينية".
وأضاف مصبح أنَّه عليی الرغم من شعورهم باليأس والصدمة من جراء رؤية ضياع كل ما أنجزوه على مدى 13 عاماً الماضية، فإنهم "لن يتوقفوا".
وتابع: "استُلهم اسم الفرقة من الطائر الخرافي الذي ينبعث من الأنقاض. وهكذا سنعود من جديد، لا يمكننا الاستسلام الآن حين أصبح فننا أداةً للمقاومة".
ويعتبر مبنى المسحال هو الحاضنة الوحيدة في قطاع غزة الساحلي المحاصر بالنسبة لعشرات المراكز والجمعيات المعنية بتعزيز الهوية الفلسطينية.
والفنانون يرون الحرب ضدهم سرقة لأصواتهم
وقالت آلاء الغرباوى (26 عاماً)، وهي منسقة أنشطة في قصر الثقافة الفلسطيني وكان مقره بالدور الرابع من مبنى المسحال، إنَّ المركز لم يكن فحسب مجرد مبنى؛ بل كان "معلماً ثقافياً" أيضاً.
وأضافت آلاء في حديثها: "جمعيتنا تعمل على دعم الأطفال الفلسطينيين من خلال الثقافة والفن. كل المكاتب والفرق الأخرى التي تعمل من داخل المبنى كانت تقدم فقط مثل تلك الخدمات، بتدمير المبنى ضاع كل شيء، بما في ذلك مكاتبنا والأزياء التي يرتديها الأطفال في الدبكة".
واستدركت: "لكن هذه ليست النهاية. سنجد مكان عمل آخر؛ لكي نواصل تدريب الأطفال وتأدية العروض حتى ولو على أنقاض المبنى المتهدم".
فيما وصفت مارا بسيسو (15 عاماً)، وهي مغنية وعضوة في قصر الثقافة الفلسطيني، استهداف مكانها المفضل في غزة بأنه حطم قلبها.
وقالت: "تعودت إنشاد أغان لفلسطين وللسلام والطفولة، وهذا المكان منحني منبراً كي يصبح صوتي مسموعاً، الأمر يشبه سرقتهم (القوات الإسرائيلية) لأصواتنا".