صعود النزعة القومية في أوروبا يشكّل ضغطاً على مخرجي الأفلام والحكايات التي يروونها

باتت تقاليد صناعة الأفلام المميزة التي ألهمت "الواقعية الجديدة الإيطالية" و"الموجة الجديدة الفرنسية" تواجه ضغطاً جراء إعادة صياغة التاريخ والتخلص من أبطاله القدامى.

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/18 الساعة 09:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/18 الساعة 09:05 بتوقيت غرينتش
Tekirova, Turkey - October 7, 2009: Film Crew preparing a commercial video shooting on the Tahtali Mountain in Tekirova, Turkey

تعكس السينما الأوروبية قارة هزتها قضايا الهجرة والإرهاب والهوية والدين، لكن هذا يتزامن مع تصاعد الروح القومية والحركات اليمينية المتطرفة التي باتت تتحدى الحريات الفنية لصانعي الأفلام بعد قرابة 30 عاماً من سقوط جدار برلين وصعود الديمقراطية الليبرالية، حسب صحيفة The Los Angeles Times الأميركية.

لطالما واجهت أوروبا أخطاراً تهدد وجودها وأشباحاً أقلقتها رسمت ملامحها طيلة قرون، لكن الطريقة الجديدة التي يقدمها قادتها الشعبويون، والتي تتسق مع خطاب عداء المهاجرين الفج الذي يتبناه ترمب، أشعلت حروباً ثقافية تستهدف كل ما يقف في وجه روايتهم التي تخدم ذاتهم. باتت تقاليد صناعة الأفلام المميزة التي ألهمت "الواقعية الجديدة الإيطالية" و"الموجة الجديدة الفرنسية" تواجه ضغطاً جراء إعادة صياغة التاريخ والتخلص من أبطاله القدامى، حسب الصحيفة الأمريكية.

من المرجح أن يدب الهلع أكثر في نفوس المخرجين والكتاب والفنانين غداة لقاء الرئيس ترمب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي بفنلندا يوم الـ16 من يوليو/تموز. تأتي القمة بعدما أضر ترمب بالعلاقات مع حلفاء أميركا الأوروبيين من جهة وثنائه على بوتين من جهة أخرى، فالحكومة الروسية المستبدة أقدمت في السنوات الأخيرة على اعتقال مخرج مسرحي موسكوفي مرموق، وسجنت عضوات فرقة Pussy Riot المعارضة، كما اتُهمت أيضاً بقتل صحافيين، والتحذيرات ما زالت تنذر بانتشار التكتيكات القمعية.

قال المخرج البولندي بافيل بافيلكوفكسي، الذي فاز فيلمه Ida بجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية عام 2015، متحدثاً للصحافة في شهر مايو/أيار أثناء مهرجان كان السينمائي الذي فاز فيه بجائزة الإخراج عن فيلمه Zimna Wojna (الحرب الباردة): "باتت هناك قائمة سوداء بالكتب ومخرجي المسرح والأفلام، ويشرفني أن أكون على هذه القائمة. ففي ظل الحكومة البولندية الجديدة التي أحكمت سيطرتها على التلفزيون العام، صرنا كما كنا في زمن الشيوعية".

الحكومة البولندية نفت وجود قائمة سوداء لديها، لكن فيلم Ida الذي يروي قصة يتيمة يهودية تربيها الراهبات الكاثوليكيات بعد مقتل والديها في الحرب العالمية الثانية يضعُ يده تماماً على الجرح الحساس الذي هو التواطؤ البولندي في المحرقة اليهودية (الهولوكوست). كانت الحكومة الوطنية بهيمنة زعيم حزب القانون والعدالة، ياروسلاف كاتشينسكي، قد عدلت مسودة قانون الشهر الماضي تقضي بتجريم من يتهم بولندا بالضلوع بدورٍ في تلك الفظائع، وذلك ضمن إطار محاولات أوسع تحاول بها الحكومة التستر على كل خيط يشي بطغيانها، ولكي تحتفي بالهوية البولندية.

تقول أغنييشكا هولاند، المخرجة البولندية والمرشحة لنيل الأوسكار: "إنهم مهووسون بإعادة كتابة التاريخ. يريدون تغيير التاريخ ليصبح أسطورة بطولية قومية جميع البولنديين فيها رائعون، فيما كل الذنب يقع على الآخرين جميعاً"، وأضافت أن الحكومة فكرت في "الفكرة الساذجة جداً" لإنتاج فيلم ملحمي ناطق بالإنكليزية عن التاريخ البولندي يكون من توزيع هوليوود.

عندما يصطدم الفن باليمينيين

المضايقة السياسية التي تستهدف صانعي الأفلام أمر محسوس في كل أصقاع أوروبا، خصوصاً في روسيا وبلدان الكتلة الشرقية سابقاً. منظمة هيومان رايتس ووتش رصدت العام الماضي صانعة أفلامٍ تلقت تهديدات في مهرجان أفلام بموسكو من متعصبين قوميين متطرفين روس، بسبب وثائقي أخرجته عن الحرب شرقي أوكرانيا. وفي عام 2015 شجب السياسي اليميني فلاديمير جيرينوفسكي فيلم "Leviathan" من إخراج أندريه زفياغينتسيف حول الفساد الروسي، وذلك من منصة المجلس التشريعي للبلاد.

إنه عصر يصطدم فيه الفن بالمتشددين، ويفك فيه رموز شيفرة عالم بات أقل أمناً؛ نظراً للحراك السياسي والاقتصادي والتقني. ظهور جيل من القادة الأوروبيين الشعبويين والقوميين مثل كاجنسكي وبوتين ورئيس الوزراء المجري فيكور أوربان لعب على وتر الفولكلور، ودفع ببلدان هؤلاء إلى أقصى اليمين. كذلك الأحزاب المحافظة المتشددة في بلدان كألمانيا والنمسا وإيطاليا ظفرت بالمزيد من القوة في الحكومة بفضل استثمارها للمخاوف من الهجرة والجريمة والإرهاب، فعناوين الأخبار تثير في الذاكرة "الغيوم المكفهرة" من حقبة الثلاثينيات.

ويرد صانعو الأفلام بالدراما

رد صانعي الأفلام بالسخرية والتراجيديا والكوميديا والدراما. المخرج التركي الألماني فاتح أكين يلقي الضوء على الإرهاب النازي الجديد في فيلمه In the Fade الفائز بجائزة Golden Globe هذا العام عن فئة الأفلام الأجنبية.

يروي الفيلم قصة الأسى والغضب اللذين يعتريان أماً ألمانية قتل ابنها وزوجها الكردي في تفجير نفذه المتطرفون اليمينيون، في قصة تنذر الدولة التي فاز بها اليمين المتطرف بـ 13% من البرلمان في رد فعل ضد الحكومة التي سمحت بدخول مليون لاجئ.

يقول أكين، الذي ولد في هامبورغ: "طيلة حياتي وقعت اعتداءات نازية جديدة في ألمانيا. بدأت في الثمانينيات على يد حليقي الرؤوس، ولطالما شعرت بها كأنها اعتداء شخصي عليّ، ولهذا كنت بحاجة للتنفيس عن عواطفي، فصنعت فيلمي، ولكن بطريقة ما غدا مشروعي هذا يعني الكثير في كل أنحاء العالم، ومنها الولايات المتحدة. يبدو أن الحاجة للتنفيس عن المكبوت موجودة في كل مكان. ما حدث عندما سار النازيون الجدد في مسيرة بشارلوتسفيل بفرجينيا ليس محض مصادفة، فهذا عالم معولم نعيش فيه، وما يحدث في الولايات المتحدة متصل بما يحدث في ألمانيا".

فيلم بافليكوفسكي "الحرب الباردة" هو قصة حب بائسة تدور أحداثها بين أواخر الأربعينيات وحتى الستينيات، عندما كانت بولندا في قبضة الاستبداد السوفييتي. كانت حقبة ملؤها الكذب والتضليل، روجت فيها الدولة الاستبدادية للأكاذيب، وأسكتت أفواه المعارضين، وطالبت الكل بالولاء والطاعة. بالرغم من الميول الوطنية السائدة هذه الأيام، فإن بولندا وغيرها من دول كتلة الاتحاد السوفييتي السابقة تتمتع بصحافة حرة وبحملات سياسية مفتوحة، بيد أن "الحرب الباردة" يذكر بأن أشياء كهذه –حيث القيادة البولندية أحكمت قبضتها على إعلام الدولة وصفّت المحكمة العليا هذا الشهر– قد تتآكل وتذوي حينما يصل الديماغوجيون إلى سدة الحكم.

فيلم The White World According to Daliborek من إخراج المخرج التشيكي فيت كلوساك، يوثق حياة أحد حليقي الرؤوس يحب الأعلام النازية والأحذية السوداء والشعارات مثل "أهلاً بكم في جهنمي". يشرب الكثير من الجعة ويقول في تأمل: "أعلم أن عليّ إنجاب الأطفال من أجل عرقنا". يعيش مع أمه ويرفع الأثقال ولديه وظيفة طلاء بدهانات البخاخ. لكنه رغم كل تعصبه العرقي وحبه لإطلاق النار يبدو نفساً تعيسة أكثر من كونه خطراً. ولكن لعل هذه تلميحة من كلوساك إلى وجوب عدم التقليل من شأن تلك الأصوات على هامش المجتمع.

الحركات اليمينية التي هزت أوروبا –وأحياناً هزت توازن القارة الهش بين حقوق الإنسان والخوف من الآخر- تناولت قصص المهاجرين من منظور مختلف. ففي فيلم Layla M. لمخرجه الهولندي ميكيه دي يونغ، تتعرض شابة مسلمة لسنوات من التفرقة العنصرية والتمييز؛ ما يدفع بها إلى التطرف في أمستردام. كذلك فيلم A Season in France للمخرج التشادي محمد صالح هارون يروي قصة لاجئ إفريقي هو أب لطفلين تمتهن كرامته فيما يبني لنفسه حياة جديدة في بلد ظلت فيها الجبهة الوطنية طيلة سنوات أكثر أحزاب القارة كراهية وعداء للأجانب.

الفيلم المجري الجديد The Citizen لمخرجه رولاند فرانيك يتتبع مهاجراً نيجيرياً فُرضت عليه خيبات أمل أثناء تقدمه لنيل الجنسية. يقع المهاجر ويلسون أوغابي (كيك بيلي مارسيلو) في حب امرأة مجرية، ثم يؤوي إليه امرأة إيرانية حبلى. يقول عن محنته: "فتباركك أو تضربك يد الحظ. هنا عليك أن تحيا وتموت".

التداعيات عام 2004 إثر فيلم هولندي منتقد للإسلام أبرزت تأثير المهاجرين – خصوصاً من البلدان المسلمة- على ثقافة أوروبا وسياستها وصناعة أفلامها. المخرج ثيو فان غوخ تعرض للطعن وإطلاق النار على يد مواطن هولندي من أصل مغربي اعتبر فيلمه Submission (إسلام) المنتقد لمعاملة الإسلام للمرأة ازدراء وإهانة. جريمة القتل هذه زادت من جرأة صناع الأفلام والفنانين في طول القارة وعرضها؛ كي لا يهابوا التطرف الإسلامي، بيد أنها كذلك استثمرت من قبل الأحزاب الشعبوية اليمينية لإثارة الأجندات والنعرات المعادية للمهاجرين.

الحياة بعد الشيوعية في شرق أوروبا

لكن الأفلام المستفزة الآتية من شرقي ووسط أوروبا ظلت مشغولة أكثر بمعالجة موضوع الحياة بعد الشيوعية، مثل حركة "الواقعية الجديدة الإيطالية" التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ألقت الضوء على طبقة عاملة عالقة بين الفوضى السياسية والاقتصادية. المخرجان الرومانيان كريستي بويو وكريستيان مونجيو صنعا سلسلة أفلام في السنوات الأخيرة عن تبدد الأوهام والحيرة والشبهات الأخلاقية التي جاءت بها الرأسمالية والديمقراطية.

تضييقاً على صناع الأفلام

فإن الحكومات في دول مثل بولندا والمجر باتت تريد السيطرة على الرسالة بشكل متزايد. مئات المخرجين الأوروبيين شجبوا خطوة، العام الفائت،  أقدم عليها وزير الثقافة بيوتر غلينسكي لطرد ماغدالينا سروكا رئيسة معهد الأفلام البولندي، حيث زعم صناع الأفلام أن تلك محاولة من قبل الحكومة لتطهير مؤسسة مستقلة التمويل؛ فكتب المخرج الألماني فيم فيندرز رئيس أكاديمية الأفلام الأوروبية في رسالة مفتوحة يقول: إن الطرد "أظهر قصر نظر الحكومات حينما تحاول إركاع الثقافة والفن أمام مصالحها السياسية".

تزعم الحكومة أن سروكا خرقت "مسؤولياتها المهنية" و"عرضت صورة بولندا للخطر" عندما أرسل المعهد رسالة إلى مؤسسة Motion Picture Assn. of America الأميركية يطلب فيها الإذن لاستخدام مقاطع مصورة من حفل الأوسكار، بغية الترويج لصناع الأفلام البولنديين. فتح المعهد تحقيقاً اكتشف على أثره أن الرسالة أرسلت من قبل موظف صغير من دون علم سروكا، وقال صناع الأفلام: إن تلك كانت محاولة من السلطات لإرهاب الفنون، حسب صحيفة The Los Angeles Times الأميركية.

تقول هولاند التي أخرجت حلقات من مسلسل Treme على قناة HBO  و House of Cards على نتفليكس: "وزير الثقافة قال إنه ما من قائمة سوداء، ولكن طبعاً توجد واحدة. لكنهم يريدون أن يثبتوا أنهم متحررون وأنهم لا يطبقون رقابة. الأمر مشوش تسوده البلبلة، ويعتمد برمته على طول إقامتهم في القيادة وعلى قوة تضامن الوسط السينمائي. فالحكومة تحاول تغيير الأشياء شيئاً فشيئاً".

هولاند انتهت لتوها من تصوير مسلسل تاريخي تجمعه صلة وثيقة بزمننا زمن "ما بعد الحقيقة". الفيلم يتتبع صحافياً بريطانياً اسمه غاريث جونز غطى في ثلاثينيات القرن الماضي صعود الحزب النازي في ألمانيا وسافر إلى الاتحاد السوفييتي لتوثيق المجاعة التي تسبب بها تشارك المزارع التعاوني الذي طبقه جوزيف ستالين، لكن تغطيته الصحفية نفاها الاتحاد السوفييتي والمروجون له، كما شكك في موثوقيتها ومصداقيتها مراسل النيويورك تايمز، والر دورانتي.

لكن جونز كان على صواب، فالملايين من البشر ماتوا.

الفيلم يحكي قصة "شجاعة الصحافي"، حسب قول هولاند.

"لكنه أيضا يدور حول الأخبار الكاذبة والواقع البديل في العالم".


واقرأ أيضاً..

إذا لم تشاهده بعد، فأنتَ الخاسر الأكبر – لهذه الأسباب يحتلّ فيلم The Shawshank Redemption صدارة ترتيب الأفلام العالمية على IMDB منذ 24 عاماً!

يلقّبون السينما بـ "الفن السابع".. فما هي الفنون الستة الأخرى؟