الطنبورة.. قصة فن مصري ضيّعه التهجير وأعاده “عم زكريا”

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/08 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/09 الساعة 06:42 بتوقيت غرينتش

"آه يا لالي يا لالي يا لالي يابو العيون السود يا خِلّى" تصدح أنغام الأغنية الشهيرة على رنين السمسمية في ليلٍ دافئ معلنة عن بدء الحفلة التي ينتظرها الحاضرون، في أحد المسارح الواقعة في حارة شعبية بحي عابدين بمنطقة وسط البلد، وتحديداً على خشبة مسرح الضمة الذي كان يطلق عليه أهل المنطقة سابقاً قاعة الطنبورة .

ما إن فُتحت أبواب المسرح معلنة موعد الخروج بعد انتهاء الحفلة حتى جلس عم زكريا "مؤسس فرقة الطنبورة" في أحد أركان المسرح يحكي لنا القصة من بدايتها.

قضى عم زكريا حياته مولعاً بحب الموسيقى بشكل عام و بالسمسمية بشكل خاص وعنها قال "كنت أرى الناس في طفولتي يجلسون في حلقات لعزف موسيقى "الضمة"وهو فن شعبي مشهور، لكن لصغر سني لم أكن أستطيع الغناء معهم، ظل شكلهم عالقاً في ذهني حتى كبرت وأحييت حفلاتي بالشكل ذاته.

بعد حرب 1967 هجّر عم زكريا من مدينته بورسعيد حاملاً معه ذكريات المدينة التي احتضنت طفولته، أمراض الحنين إلى الوطن قال إن "السمسمية" هي التي عالجته منها حين كان يعزف عليها أولى الأغنيات التي علقت بذهنه "يا مسافر بورسعيد"، كانت ألحان السمسمة تعيدهم إلى حيث تركوا بيوتهم وتذكرهم بالمقاومة في وجه الاحتلال البريطاني.

الطنبورة.. البداية

29 عاماً هو عمر الفن المنبثق من المدينة الساحلية ،فرقة موسيقية غنائية راقصة، تحيي الفن الارتجالي الشعبي وتحفظ التراث بالموسيقى، تمزج بين فن"الضمة" بأصوله الصوفية والترانيم البسيطة وبين أغاني مدن البحر المتوسط مع 'السمسمية' الوترية ذات الأصول الفرعونية السائدة من قلب أفريقيا حتى سواحل البحر الأحمر، وإلى جانب آلة السمسمية تجد الناي، الرق، والطبول.

لم تكن نشأة فرقة الطنبورة سهلة، كانت نتاج رحلة طويلة وصعبة في حياة عم زكريا، فبعد أن استقر في مدينة السنبلاوين، بدأ في ممارسة الفن الذي تعلق به حتى أصبح معروفاً لدى أهالي المدينة، لكنه سرعان ما انتقل إلى القاهرة ليكمل دراسته في العاصمة، في العام 1980 عاد عم زكريا إلى بورسعيد مجدداً فوجد المدينة قد تغير شكلها تماماً منذ آخر مرة تركها، أصبحت مدينة تجارية ومنطقة حرّة وغابت بين أركانها كل ما كان يعبر فيها عن تراث وعراقة فقرر أن يحيي ما كان على وشك الموت بين أنقاض المدينة ويذكر أهلها بالتراث، وأرجع فن الطنبورة

الطنبورة.. خزنة الروح تقاوم الذوق العام

ومثل معظم الفنون التراثية التي تراجعت نظراً لتغير الذوق العام فكان لا بد من مقاومة الطنبورة لهذه الظروف حتى تضمن استمراريتها ولذلك تمسّك عم زكريا وأعضاء فرقته بتقديم هذا الفن، حتى لا يموت أو يتم نسيانه، يقول "زكريا" لعربي بوست، الطنبورة خزنة الروح مليئة بالقيم الجميلة التي يتميز بها الفن الشعبي لذلك ستعيش طول العمر

الأمر الذي دفعه لتأسيس مدرسة لتعليم السمسمية تقبل دارسين فيها من عمر 15 عاماً و بعض خريجيها انضموا لفرقة الطنبورة بعدما أتقنوا اللعب عليها

اعتزال وعودة

في نهاية السبعينيات قرر عم زكريا الابتعاد عن فنه المفضل، يقول "الموضوع كان سبوبة (تجاري)"، في هذه الأثناء كان قد قرر أحد أعضاء الفرقة "محسن العشري الاعتزال أيضاً، بعد أن كان وقته مقسماً بين حفلات السمسمية والعمل موظفاً بإحدى الشركات، أزعجته الاستهانة بالفن وكان يعتبر أن حتى التحية التي تسبق غناء الفرقة تقلل من القيمة التي يقدمها لجمهوره

وفي أمسية من ليالي السمسمية  بقصر الأمير طاز، وبينما كانت الفرقة تغني دخل وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني إلى الحفل، فطلب مدير المكان من عم زكريا أن يتوقف ويذهب لتحية الوزير ثم يستأنف حفله مرة أخرى، وهو ما رفضه وأكمل حتى النهاية بلا توقف، وبعد أن انتهى خرج فوراً من المكان.

على إثر الواقعة توقف العشري عن العزف لما شعر به من امتهان، انقطع لعشر سنوات ثم عاد مرة أخرى بين أعضاء الطنبورة

أحمد العشري (حفيد محسن العشري) ورث حب السمسمية عن جدّه الذي يعتبر واحداً من أهم عازفي آلة السمسمية في مصر، انضم للفرقة التي يعزف ألحان أغانيها، وحكى لنا عن دوره الذي يعتبره ملهماً للباقين، مضيفا أن الريس زكريا هو من ضمه لبراعم الطنبورة، حتى تعلم واحترف وأصبح عازفاً أساسياً في الفرقة الأم.

باع منزله ليسدد احتياجات "الطنبورة"

كان السؤال الملح دائماً على عقل عم زكريا كيف سيموّل الفرقة في البداية؟ لاسيما أنه لم يستطع في البداية إقناع أحد بفكرته ما جعله يعتمد على نفسه فقرر بيع شقته التي كان يعيش فيها مع زوجته وأولاده، وأسس مشروع "ورشة جلود" في حي شعبي، يستطيع بأرباحه أن يدعم الفرقة مادياً، الأمر الذي جعلها تعمل بشكل مستقل دون أي دعم من الدولة حتى الآن، إلا في حالات التنسيق لإقامة حفلات في الأوبرا أو قصر الأمير طاز

شهرة واسعة حققها العازف البسيط بين أوساط الشباب الذين امتلأت الصفوف الأولى لمسرح الضمة بهم يتمايلون ويتفاعلون مع كل ما يقدمه مع أفراد فرقته منجذبين إلى الألحان التي أعاد هو إحياءها من عشرات السنين، في الجامعات وعلى فيسبوك كان يطرق أبواب الشباب حيث هم، مستشعراً أنه يحملهم الإرث الذي حاول الحفاظ عليه.

أحمد علي أحد الشباب الذين التقينا بهم في "الضمة" قال لعربي بوست إن معرفته للفرقة كانت في السويس حيث يدرس، مشيراً إلى أن أول مرة يحضر حفلاً للطنبورة كان في مسرح الجامعة الأميركية في مهرجان المصطبة السنوي وأنه يحضر الحفل للمرة الثالثة لكنه أتى بصحبة أصدقائه لكي يتعرفوا على الفن الذي عشقه.

  الطنبورة VS المهرجانات

وبالحديث عن الشباب وذوقهم، يفكر عم زكريا في دمج فن الأندرجراوند والمهرجانات الشعبية المنتشرة بأغاني السمسمية، أو حتى مزج آلات جديدة لفرقة الطنبورة، ويضيف "الفرقة تعمل حالياً على تأليف ألحان جديدة على السمسمية بنفس الايقاع الذي يحبه الشباب في هذه الأغاني حتى نتمكن من الوصول إليهم بشكل أكبر مشيراً إلى أن الفرقة اشتركت مع المغنية الفرنسية زهرة هندي، والفنان الفرنسي اليكس جريل، والفنان أحمد عمر بازيست، وهذا ما يدل على مدى قدرة الطنبورة في استيعاب ألوان أخرى من الغناء.

عاشت أغنية "آه يا لالي" على عكس أغنيات كثيرة أصدرت وماتت مع الوقت، لكن اللحن المتجدد الذي ترقص عليه الفرقة منذ سنوات طويلة يتداوله الشباب حتى الآن على مواقع التواصل الاجتماعي رغم أنه ظاهرياً لا يعبر عن نوع الموسيقى التي يتفاعلون معها

وينبهر الأوروبيون بكل ما يحمله الفن من لمحة تراثية تعبر عن التاريخ وتحكي حكايات المدن والشعوب، يقول زكريا إن السبب وراء ذلك برأيه أن أوروبا تعرضت في فترة العصور الوسطى لتحريم الموسيقى وكانوا يكسرون الآلات الموسيقية ما كان سبباً في تدمير التراث الشعبي الأوروبي لذلك ينبهرون لما نقدمه رغم أنهم لا يفهمون ما نقول ويقول أن جمهوره خارج مصر أكبر بكثير من داخلها

الفن يوحد الصفوف.." كلنا واحد"

وعن ذكريات الفرقة والمواقف التي لن تناساها، يحكي عم زكريا إنه خلال حفلة في فعاليات "الفن ميدان" تزامن وقت الحفل مع مجزرة حادث ستاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 مشجعاً من الأهلي في الاستاد، ما إن بدأت الفرقة بالغناء حتى رفع بعض الجمهور الأحذية للفرقة، ولكن الأخيرة تداركت الأمر بسرعة وقال العازفون لهم "كلنا واحد" وبدأوا في غناء أغان ثورية، وبعدها اعتذر الحاضرون عن فعلتهم.

كفاية تجاهل للطنبورة

في آخر كلماته في الأمسية الدافئة يقول عم زكريا وهو ينهض ليلحق باقي الفرقة "30 عاماً أحارب لإحياء ما مات، لا أتسول الدعم الحكومي لكن ما نقدمه يستحق، ليس الدعم فقط، يستحق أن يمثل مصر في كل شبر من أنحاء العالم".