وصفوه بـ “الحثالة على شكل تحفة فنية”.. والآن يحتفون بالفيلم في الأرض والسماء والأقمار البعيدة!

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/22 الساعة 14:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/22 الساعة 14:48 بتوقيت غرينتش

في العام 1968، أطلق المخرج الشهير ستانلي كوبريك فيلمه الشهير A Space Odyssey، الذي رفضه الجميع في البداية، إلا أن شباب الستينيات المتمرد أحبَّ الفيلم، وعشق بسببه الفضاء والخيال العلمي.

أحد هؤلاء الشباب كان عالِم الفلك كارل موراي، من كلية الملكة ماري بجامعة لندن.

وفي العام 2015، اكتشف العلماء قمراً جديداً. هناك في أقصى أطراف المجموعة الشمسية، التقطته عيون نيو هوريزونز من وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"؛ سطح متجمد منعدم الهواء. إنه قمر شارون، الذي يبعد عن الشمس بـ5.7 مليار كيلومتر، ويدور حول الكوكب القزم بلوتو.

أحد العلماء في الفريق الذي اكتشف القمر كان كارل موراي مرة أخرى.

وقبل أيام، أعلن علماء الفلك الأسماء الرسمية للجبال والأودية الرئيسية الموجودة في العالم الصغير للقمر شارون – أحد أبعد الأجرام السماوية التابعة للمجموعة الشمسية عن كوكب الأرض -، فمنحوا كاتب الفيلم والكاتب آرثر سي كلارك، ومخرجه كوبريك جبلين باسميهما، وفقاً لما جاء بصحيفة The Guardian البريطانية.

ومن بين طرق الاحتفاء الأخرى بصدور الفيلم، إعادة بناء غرفة النوم الغريبة التي صُوِّرت بها اللقطة الأخيرة، والتي تم افتتاحها في متحف الطيران والفضاء الوطني بالعاصمة الأميركية واشنطن. ليس هذا فحسب؛ بل إن المنتج والمؤلف الأميركي مايكل بينسون سيُصدر كتاباً في الأسبوع الجاري بعنوان Space Odyssey: Stanley Kubrick, Arthur C Clarke, and the Making of a Masterpiece، يصف فيه الفيلم بأنه "تحفة فنية بميزانية هوليوودية ضخمة أقرب إلى التأليف الموسيقي منه إلى الأفلام السينمائية التجارية العادية القائمة على الحوار".

حكاية الفيلم: البشرية تتحول إلى جنس خارق بعد رحلة في الفضاء

قبل 50 عاماً، كان المخرج السينمائي ستانلي كوبريك يعتزم إخراج فيلم خيال علمي يبدو قابلاً للتصديق فحسب؛ إذ كانت أغلب تلك النوعية من الأفلام تكتظ بالنصوص السينمائية غير المتقنة ومواقع التصوير المصنوعة من الورق المقوَّى والتصوير البدائي. لذلك، لجأ كوبريك إلى الكاتب البريطاني كلارك، وتعاونا معاً على وضع نص سينمائي ظل يتسع في النطاق والطموح شيئاً فشيئاً، إلى أن أنتجا معاً في نهاية المطاف قصةً تغطي أصل الجنس البشري ومصيره؛ أي مسيرة البشر من المخلوقات الدنيا إلى المخلوقات العليا، على حد تعبير كوبريك.

تحكي أحداث الفيلم عن لقاء مجموعة من رجال الكهف البسطاء بمخلوقات فضائية فائقة الذكاء، ساعدتهم على اكتساب القدرات العقلية اللازمة لوضع البشرية على أولى خطوات الطريق إلى الكواكب الأخرى. وبمجرد أن نجحت البشرية في السفر إلى الفضاء، تواصلت مرة أخرى مع تلك المخلوقات الفضائية، التي ساعدت البشرية بدورها على التحوُّل إلى جنس يتمتع بقدرات خارقة بعد نجاته من التدخلات القاتلة لأحد الحواسيب العملاقة.

استقبال النقاد: هذه الحثالة الفنية في صورة فيلم

كانت هذه هي القصة التي أنتجها كوبريك في نهاية المطاف، بعد أن أعاد كتابة النص مراراً وتكراراً في أثناء تصوير الفيلم ببلدة بورهاموود في مقاطعة هيرتفوردشاير البريطانية. وشهد تصوير الفيلم بناء مواقع تصوير وأدوات ضخمة إلى أن أتت النتيجة النهائية مذهلة: فالدقائق الـ 25 الأولى من الفيلم لا تتضمن أي حوار على الإطلاق.

ومن بين مدة عرض الفيلم التي تبلغ 142 دقيقة، هناك 40 دقيقة فقط تتضمن حواراً. فضلاً عن أن المشهد الأخير من الفيلم شديد الغموض إلى حد الإبهام.

كل هذا ترك الجمهور في حيرة من أمرهم، حتى إنّ سُدس الجماهير تقريباً، أكثر من 200 شخص، غادروا صالات العرض قبل نهاية العرض الأول للفيلم، وفقاً لما ذكره المنتج والمؤلف مايكل بينسون. وبطبيعة الحال، كل هذا أقنع شركة مترو غولدوين ماير بأنها قد دعمت "كارثة فادحة"، حتى كلارك نفسه شعر بخيبة الأمل من عدم قدرة الجماهير على فهم الفيلم، كما ذكر لاحقاً.

كبار النقّاد السينمائيين الأميركيين أيضاً كان رد فعلهم قاسياً تجاه الفيلم في البداية، فقد  اجتمعوا على الحط من قدره. وقالت الناقدة السينمائية الأميركية بولين كايل، في مجلة Harper's الأميركية المعنيَّة بالأدب والثقافة، إن أوديسا الفضاء "ليس سوى حثالة على شكل تحفة فنية".

واستقبال الشباب: سنشاهد هذا الفيلم كل أسبوع

لكن لحسن حظ شركة مترو غولدوين ماير وكوبريك وكلارك، أن هذا النقد السلبي لم يدم طويلاً؛ إذ إن الثقافة المضادة التي كانت سائدة في عقد الستينيات من القرن العشرين كانت في أوجها آنذاك؛ لذا كان رواد السينما الشباب ينجذبون إلى الفيلم بفضل الترويج الشفاهي، وأيضاً بفضل الشعار الموجود بالملصق الإعلاني للفيلم، والذي كان يوحي لهم بأن هذا الفيلم سيوفر لهم "أقصى درجات التشويق"، حتى إن  مغني فرقة البيتلز الشهير جون لينون نفسه زعم في ذلك الوقت أنه يعتزم مشاهدة فيلم "2001" كل أسبوع، في حين أنتج المغني البريطاني ديفيد بوي أغنية تكريماً للفيلم بعنوان Space Oddity في غضون عام من صدوره.

تعليقاً على ذلك، قال المنتج والمؤلف مايكل بينسون: "كان هناك شيء ما يحدث، ولم تكن الفئة الأكبر سناً من الجماهير تدرك ماهيته بالضرورة".

ومن بين من وجدوا الفيلم مشوِّقاً أيضاً، شباب العلماء الذين كانوا يتوقون إلى رؤية تكنولوجيا خيالية قابلة للتصديق، وهي بالضبط ما كانت الأفلام الطويلة تفتقر إليه آنذاك، إلى أن أتى فيلم "2001". وفي هذا الصدد، قال إيان كريستي، الأستاذ الجامعي في كلية بيركبيك بجامعة لندن البريطانية والذي كان أحد الفلكيين المراهقين الذين جذبهم الفيلم آنذاك: "كان الفيلم يضع معايير جديدة للتصوير (الواقعي) للحياة في الفضاء، متغلباً بذلك على عقود طويلة من أفلام الفضاء من نوع الغرب الأميركي على غرار فيلم Flash Gordon. ليس هذا فحسب؛ بل إن الفيلم أيضاً ابتكر خلفية موسيقية جديدة للمشاهد الكونية باستعانته بالمقطوعة الافتتاحية للقصيدة الموسيقية Also Sprach Zarathustra للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس وموسيقى مؤلف الموسيقى الكلاسيكية المجري النمساوي ليغيتي".

وقال عالم الفلك كارل موراي، من كلية الملكة ماري بجامعة لندن البريطانية، إن فيلم "2001" هو أول فيلم يجعله يمعن التفكير حقاً في الفضاء. وبعد ذلك بفترة، أصبح كارل موراي أحد أعضاء فريق التصوير المسؤول عن المسبار "كاسيني" الذي تم إرساله  إلى المريخ في عام 2007. وقال كارل موراي تعقيباً على ذلك: "صحيحٌ أننا لم نرَ أي مسلّات على المريخ كما جاء في الفيلم، لكننا ندين بالكثير لآرثر سي كلارك وستانلي كوبريك؛ لأنهما ألهما مخيلاتنا".

والآن.. أصبح الفيلم في قائمة الأفلام الأكثر ربحاً على الإطلاق

وسرعان ما أصبح فيلم 2001: A Space Odyssey أعلى الأفلام ربحاً على الإطلاق في عام 1968، وهو فيلم كوبريك الوحيد الذي حقق هذه المكانة، ونال عنه كوبريك جائزة الأوسكار الوحيدة التي حازها: عن أفضل مؤثرات بصرية (وإن كانت تلك المؤثرات من أعمال مشرف المؤثرات الخاصة الأميركي دوغلاس ترامبول).

وقد  شجَّع الفيلم جيلاً كاملاً من الشباب المتحمس للسينما هيمن على صناعة الأفلام بعد ذلك، من بينهم المخرجون جيمس كاميرون مخرج فيلم "تيتانيك"، وجورج لوكاس وريدلي سكوت وستيفن سبيلبرغ وكريستوفر نولان؛ جميعهم اعترفوا بفضل فيلم "2001" عليهم، باعتباره المؤثر الرئيسي في الأفلام التي ينتجونها. وفي هذا الصدد، قال جورج لوكاس، مخرج ومنتج سلسلة أفلام Star Wars: "لقد أخرج ستانلي كوبريك أفضل فيلم خيال علمي على الإطلاق، وسيكون من العسير للغاية أن يأتي أحدٌ ويخرج فيلماً أفضل منه، على حد علمي".

لكن هناك بعض العيوب العلمية في هذه التحفة الفنية

لكنَّ الفيلم لا يخلو من بعض العيوب بطبيعة الحال؛ ففي سلسلة لقطات Dawn of Man أو "فجر البشرية" بمطلع الفيلم، توحي مسلّة فضائية لشخصية الرجل البدائي "مون واتشر" بأنه يمسك بعظمة ويستخدمها كسلاح، مُطلِقاً بذلك عملية تطوُّر فكري أسفرت بعدها بـ4 ملايين عام عن البشر المعاصرين ونزعتهم إلى الحرب. الجدير بالذكر أن الفكرة  القائلة بأن العنف هو أساس الذكاء البشري هي فكرة مستمدة من أفكار عالِم الإنسانيات الأسترالي ريموند دارت والتي روَّج لها الكاتب ريتشارد أردري في عقد الستينيات من القرن العشرين، والتي فقدت مصداقيتها بعد ذلك.

وقال كريس سترينغر، عالِم الأحياء القديمة بمتحف التاريخ الطبيعي في لندن: "هذه الأفكار لا تعكس الفكر السائد حالياً؛ ربما تكون العظام قد استُعملت كأدوات، لكن استعمالها كان مقتصراً على التنقيب بحثاً عن جذور النباتات والحشرات، ولم تُستعمل كهرَّاوات. لكن بغض النظر، ما زال فيلم (2001) هو أحد الأفلام المفضَّلة لي، فهو رائع ومبهر في الوقت ذاته".

كما أن بعض تنبؤات الفيلم لم تتحقق في الواقع

وهناك جانبٌ آخر مثير للاهتمام بشأن توقيت صدور الفيلم؛ ففي عام 1968، الذي شهد صدور الفيلم، كان يبدو أنه من المقدَّر للبشرية أن تنطلق نحو النجوم. وبعد صدور الفيلم ببضعة أشهر، وصل رواد الفضاء إلى القمر على متن المركبة "أبوللو"، وهبطوا على سطحه في غضون عام من صدور الفيلم. وفي ذلك الحين، كان يبدو أنها مسألة وقت حتى تغزو البشرية ما تبقى من المجموعة الشمسية، وحتى تصبح الرحلات إلى الفضاء أمراً شائعاً؛ لهذا بدا الفيلم كما لو كان يتنبأ بالغيب؛ من شدة دقة الزمان والمكان اللذين حددهما. لكن للأسف، جاءت نهاية هذا الحلم على يد حرب فيتنام وغيرها من القيود على ميزانية الولايات المتحدة آنذاك، وإن كان الكاتب آرثر سي كلارك قد ظل محتفظاً بتفاؤله حول احتمالية سبر المزيد من أغوار الفضاء، إلى أن وافته المنية عام 2008.

وعندما سُئل كلارك، في أحد اللقاءات التي أجراها في نهاية القرن الماضي، عن سبب خطأ تنبؤاته في الفيلم، أجاب قائلاً: "لا يوجد سبب مهم معين سوى أن أميركا وروسيا لم يكُلِّفا نفسيهما عناء بناء قواعد إطلاق أقوى كي تكون قابلة للاستخدام أكثر من مرة، فقد كانت هناك أمور أخرى تشغل تفكيرهم آنذاك، وهذا جعل تكلفة استكشاف الفضاء باهظة للغاية؛ لذا لم تحظَ بانتشار واسع. لكنني متيقنٌ من أن شخصاً ما سيأخذ على عاتقه حل هذه المشكلة في القريب العاجل. وحينئذٍ، ستتحول كل المحطات الفضائية والقواعد الفضائية على سطح القمر التي تصورناها إلى حقيقة واقعة، أنا واثق تمام الثقة بهذا!".

تحميل المزيد