40 عاماً بلا سينما.. كيف عاشها مخرجو السعودية وفنانوها؟

وقف الجمهور مصفقاً بحرارة للمخرج السعودي الشاب هشام فقيه في المهرجانات العالمية، لأدائه في الفيلم الرومانسي الكوميدي السعودي

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/07 الساعة 17:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/07 الساعة 17:26 بتوقيت غرينتش
Khalid Al-Falih, Saudi Arabia's energy and industry minister, is seen on a television camera monitor as he speaks during a news conference following the 173rd Organization of Petroleum Exporting Countries (OPEC) meeting in Vienna, Austria, on Thursday, Nov. 30, 2017. OPEC agreed to extend its oil-production cuts to the end of 2018 and included Libya and Nigeria in the deal for the first time, according to delegates gathered in Vienna. Photographer: Akos Stiller/Bloomberg via Getty Images

وقف الجمهور مصفقاً بحرارة للمخرج السعودي الشاب هشام فقيه في المهرجانات العالمية، لأدائه في الفيلم الرومانسي الكوميدي السعودي "بركة يقابل بركة"، ولكن عندما حاول الممثل الكوميدي والمنتِج إنشاء شركة للإنتاج السينمائي في مدينة جدة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، رفض مسؤولٌ في وزارة التجارة السعودية التوقيعَ بالموافقة على هذا المشروع قائلاً: "السينما حرام".

بعد أقل من عام على هذه الواقعة، قامت الحكومة بتوقيع صفقاتٍ مع بعض شركات الإنتاج السينمائي الرائدة في العالم لفتح المئات من دور السينما في المملكة، وصار هشام فقيه البالغ من العمر 30 عاماً ويُنظِّم  اجتماعاتٍ مع كبار المسؤولين المتلهفين لمعرفة كيفية دعم صناعة السينما الوليدة في البلاد.

تغيُّر جذري ومفاجئ

هذا التغيير هو غيضٌ مِن فيضِ كما وصفته صحيفة Los Angeles Times الأميركية، سعى من خلاله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان البالغ من العمر 32 عاماً، لتحديث مجتمع يعتبَر مِن بين الأكثر محافظةً في العالم، وينوِّع ويغيِّر مِن اقتصاده، الذي يعتمد اعتماداً كلياً تقريباً على إنتاج النفط.

ويأمل المسؤولون السعوديون مِن خلال تطوير صناعة أفلامٍ محلية لتنويع وسائل الترفيه وخلق فرص عمل، في بلدٍ يبلغ تعداد سكانه 32 مليون نسمة، أغلبهم دون سن الثلاثين، والكثير منهم لديه المال ليُنفقه.

لكن طموحات المملكة لا تتوقف عند هذا الحد، فيقول المسؤولون إنَّ البلاد لديها حجم السوق والبنية التحتية والموهبة والثروة الكافِين لتصبح مركزاً لصناعة الأفلام للعالم العربي.

وقال أحمد المزيد، الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للثقافة في المملكة: "يوجد نوليوود في نيجيريا، وهوليوود في الولايات المتحدة، وبوليوود في الهند، ولا أحد يغطي منطقتنا. ولا أرى أنَّه هدفٌ بعيد المنال لنكون محوراً للمنطقة".

مثل هذا الخطاب يثير صُنَّاع السينما السعوديين. لكن البعض يثير التساؤلات حول نوع الصناعة التي يمكن بناؤها في بلدٍ تحكمه ملكيةٌ مُطلقة.

وما هي القيود التي ستُفرَض على الإنتاج الإبداعي؟ وهل سيكون هناك مكانٌ لصانعي أفلام الشارع الذين عملوا طويلاً في الظل، وغامروا بأنفسهم لطرح قضايا اجتماعية وبيروقراطية شائكة، لإنتاج أعمالٍ بدأت في إعادة تشكيل صورة المملكة الحازمة في الخارج؟

فقيه فيتبنَّى وجهة نظرٍ متفائلة

إذ قال بينما يجلس القرفصاء على أريكةٍ داخل منزله في مدينة جدة، حيثُ توجد ملصقات أفلامٍ كلاسيكية معلقة على الجدران، وحامل لوحاتِ رسم مرتكز بجانب النافذة: "هناك نماذج مِن الموهوبين البارعين فعلوا كل شيءٍ بمفردهم. ولا أستطيع الآن إلَّا أن أفكِّر، حسناً، إذا أخذنا في اعتبارنا أنَّ الدولة أصبحت معنيَّةً بالأمر، فالآن ليست هناك حدودٌ لما يمكن أن نفعله".

ومع ذلك، فهو يتساءل أيضاً عن نوع المشروعات التي ستدعمها الحكومة.

وقال: "نحن بصدد تشكيل أساسٍ لما سيبدو عليه مشهد فنِّنا ربما خلال المائة عامٍ القادمة. هل يريدون منتَجاً فنيَّاً تقليدياً مُحافظاً ومعتدلاً… وبذلك سيصبح وجود دور السينما في حدِّ ذاته أمراً سلبياً؟".

في سعيها لاستخدام "القوة الناعمة" للأفلام، سيكون على المملكة العربية السعودية بذل مجهود لمواكبة العالم. فقد عملت دولٌ مثل مصر ولبنان في مجال الإنتاج السينمائي منذ عقود، كما أنَّ الإمارات العربية المتحدة رسخت مكانتها كمركزِ إنتاجٍ رئيسي في السنوات الأخيرة.

انطلاقاً من ذلك، ذهب الأمير محمد إلى لوس أنغلوس هذا الأسبوع لمقابلة واستمالة مستثمري هوليوود، وتخطط الحكومة السعودية لإطلاق أول وكالةِ إنتاجٍ سينمائي في مهرجان كان السينمائي، في مايو/أيار القادم.

السينما ممنوعة منذ 4 عقود

لم تسمح المملكة بوجود دور السينما التجارية منذ أوائل الثمانينيات، جاء هذا كجزءٍ مِن رد الفعل الديني ضد التأثيرات الغربية التي رافقت طوفان أرباح النفط الذي تدفق على البلاد خلال فترة السبعينيات.

فبعد حادثة الحرم المكي في عام 1979 الذي حاصر فيه متشددون إسلاميون المسجد الحرام، أعطى النظام السعودي سيطرةً أكبر بكثير لرجال الدين المتشددين، الذين ينظرون إلى الأفلام وغيرها من أشكال الترفيه باعتبارها غير إسلامية، مُحذِّرين من قدرتها على إفساد الأخلاق العامة.

والسينما العامة الوحيدة التي تعمل اليوم في المملكة هي سينما آيماكس في مركزٍ علمي، يعرض أفلاماً تعليمية. لكنَّ الشغف بالأفلام كُبِتَ كثيراً في مملكة الصحراء.

هذا الوضع لم يمنع السعوديين أبداً من مشاهدة الأفلام، إذ يشاهد معظمهم الأفلام على شبكة الإنترنت، أو القنوات الفضائية، أو أقراص الفيديو الرقمية القديمة. وتُقامُ أيضاً عروضٌ منتظمة في الجامعات والمراكز الثقافية والمنازل الخاصة. ويسافر العديد من السعوديين إلى دولٍ مجاورةٍ مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة لإشباع رغبتهم في مشاهدة الأفلام على شاشات العرض السينمائية الكبيرة.

وتودُّ السلطات السعودية أن تنفِق هذه الأموال داخل البلاد. لذلك تُخطط حالياً لإقامة حوالي 300 مسرح مع ألفي شاشة بحلول عام 2030، ويتوقعون أنَّها ستُسهم بنحو 24 مليار دولار في الاقتصاد، وتخلق أكثر من 30 ألف فرصة عمل. ومِن المقرَّر افتتاح أول دار سينما لشركة AMC  لإدارة دور السينما في العاصمة السعودية الرياض، في 18 أبريل/نيسان الجاري.

ولا تزال تفاصيل الإطار التنظيمي قيد الدراسة، لكنَّ المسؤولون يتوقعون أن تكون القيود المفروضة على ما يمكن أن يُعرَض في النهاية مشابهةً لتلك الموجودة في دول الخليج الأخرى. ومن المؤكد تقريباً أن يُمنَع عَرض المحتويات الجنسية والعُري، إلى جانب أي شيءٍ ينتقد الملكية أو الإسلام.

لكنَّ مشاركة المملكة في جائزة الأوسكار عام 2017 توحي بالرغبة في تبنِّي محتوىً يُوسِّع الحدود الاجتماعية، شريطةَ إلا يتمادى بعيداً.

يتناول الفيلم السينمائي "بركة يقابل بركة"، الذي شارك فقيه في إنتاجه قضايا الطبقية والحرية الشخصية والأماكن العامة، وصعوبة وتعقيد المواعدة في بلدٍ يفرض الفصل بين الجنسين على معظم الأصعدة.

ومع أنَّ السعوديين مستهلِكون نهمون للمحتوى المحلي المعروض على التلفاز وعلى الإنترنت، إلَّا أنَّ معظم الأفلام التي يشاهدونها تُنتَج في الخارج. ويقول المسؤولون إنَّ إنتاج الأفلام المحلي ضئيلٌ جداً: فقد صُنِع فيلمان فقط في العام الماضي، بالإضافة إلى حِفنةٍ مِن الأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية.

لذا تهدف هيئة الثقافة السعودية، التي أُنشئت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، إلى زيادة الإنتاج من خلال توفير المال والتدريب والدعم اللوجستي لصانعي الأفلام الناشئة. وتشمل بعض الخيارات التي نوقشت توفير المعدات: كالكاميرات، والأضواء، والدُّمَى، والخدمات القانونية أيضاً.

وتجري محادثاتٌ مع مدارس السينما العالمية حول إعداد البرامج في المملكة العربية السعودية. وترغب الحكومة في أن تأتي أطقم التصوير العالمية أيضاً، كي يحصل الممثلون والمخرجون والمُصوِّرون السينمائيون في البلاد على التدريب أثناء العمل.

هذه التطورات تُسعِد صانعي الأفلام السعوديين الشباب، مثل خالد نادر شاه البالغ من العمر26 عاماً، الذي تخرَّج في مدرسة ميتفيلم في لندن.

قال نادر شاه وهو جالسٌ في قسم العائلات في أحد المطاعم، حيثُ كان يعمل على أول أفلامه على كمبيوتر محمول: "في الوقت الحالي، هناك عددٌ محدود للغاية من الكاميرات وبعض أدوات الإضاءة وبعض المواهب. وأجورهم مرتفعة بسبب ارتفاع الطلب وانخفاض العرض. ولكن في المستقبل سيصبح ذلك أرخص ثمناً وأكثر سهولةً".

عمل نادر شاه لسنةٍ واحدةٍ في أحد المصارف لتوفير المال لصناعة أول أفلامه "مَخرج 5″، الذي صُوِّرَ في مدينة الرياض، ويحكي قصة امرأة مُطلَّقة لا تستطيع إقناع والديها بالسماح لها بالسفر للدراسة في الخارج دون زوجٍ لمرافقتها.

وبميزانيةٍ قدرها نحو 50 ألف دولار فقط، لم يتمكن من الاستعانة بطاقم عمل كبير. وكتب وأنتج وأخرج الفيلم، وألف موسيقاه كذلك، حتى إنَّه تولى دور توفير الطعام والشراب لطاقم العمل. تقاضى بعض أفراد طاقمه المال، بينما تطوَّع آخرون بمجهودهم.

ومع وجود كلِّ هذه الصعوبات العملية، قال نادرشاه إنَّ أكبر تحدٍّ واجهه هو التغلب على عدم الاطلاع بما يكفي على الفنون. فقد ألهم الفنُّ والموسيقى والمسرح بعضاً مِن أعظم المخرجين، ولكن هذه الوسائل كلها استُنكِرَت في مجتمعه خلال نشأته.

واضطُر العديد من صانعي الأفلام السعوديين الجدد إلى التغلب على المعارضة الشديدة مِن عائلاتهم.

وقالت جواهر العامري (22 عاماً): "كنا نخوض العديد مِن المشاجرات".

فقد كان والدها، المهندس المعماري، يأخذ عائلته إلى البحرين في نهاية كل أسبوع لمشاهدة أحدث أفلام هوليوود، في رحلةٍ تستغرق ساعتين من منزلهم في مدينة الجبيل الشرقية، لكنَّه لم ير مستقبلاً لها في صناعة الأفلام.

وحتى جواهر نفسها كانت لديها شكوكٌ عندما بدأت في دراسة إنتاج الأفلام، المعروف باسم "الإنتاج السمعي البصري والرقمي"، لتجنُّب جذب انتباه المتدينين المحافِظين في جامعة عفت في جدة. ولكن منذ تخرَّجَت العام الماضي، ازداد الطلب على مواهبها كمساعد مخرج للأفلام والإعلانات التجارية ومقاطع الفيديو الموسيقية.

والآن تواجه مشكلة مع عائلتها حول ساعات عملها الطويلة، والاختلاط مع أعضاء الطاقم الرجال. كما أنَّ الأمور ليست أفضل حالاً في الخارج. فعند العمل في شوارع جدة، غالباً ما يَطلب منها المنتجون الجلوس في مؤخرة السيارة، وتقديم تعليماتها عبر جهاز اتصال لاسلكي، بسبب الحساسيات حول الاختلاط بين الجنسين.

وفي فيلا جدها قالت غاضبةً: "أنا أكره هذا تماماً"، وتابعت متعجِّبةً: "لماذا أعطيتني هذه الوظيفة إذا كنتَ تريدني أن أجلس في سيارة؟".

أيضاً معرفة التصاريح المطلوبة للعمل، وما الذي سينجو من مقص الرقابة يمكن أن يشكل تحدياً آخر. فالقواعد مائعة، وغالباً ما تعتمد على ميول المسؤولين الفردية، أو على مدى جودة علاقات صانع الفيلم بالمسؤولين.

استغرق الأمر مِن المخرج السعودي عبدالحكيم جمعة ثمانيةَ أشهرٍ للحصول على سبعة تصاريح من أربع وكالاتٍ حكومية مختلفة، لإنتاج فيلم الرعب "مداين" عام 2016. صُوِّر الفيلم بطريقة "اللقطات التي عُثر عليها" كما في فيلم الرعب  The Blair Witch Project . ويتناول الفيلم قصة ثلاثة رفاق يسافرون إلى أقصى شمالي المملكة، لاستكشاف أنقاض مدائن صالح الأسطورية المسكونة بالأشباح.

وقال عبدالحكيم، الكاتب والممثل والمخرج، البالغ مِن العمر 29 عاماً في مقهى على الطراز الأميركي، أصبح مؤخراً مكاناً لاجتماع المبدعين المختلفين: "لم تكن هناك طريقة لشرح فكرة الفيلم لمجموعةٍ من الأشخاص لا يفهمون هذا الفن. وحين يقرأون السيناريو يبدأون في التساؤل: حسناً، هل هذا توثيق أم أنَّه فيلم؟".

وزاد الأمرَ سوءاً رغبتُه في التصوير في موقع اليونسكو للتراث العالمي المذكور في القرآن، الذي يعتقد السكان المحليون أنَّه مكانٌ ملعون. حتى إنَّ أكثر أفراد طاقم العمل تشككاً في صدق الأساطير بدأوا في التصديق بها، عندما تعطلت سيارتهم في الصحراء. وكان عليهم أن يمشوا أكثر من ست ساعاتٍ في ظلامٍ دامس لإيجاد مكانٍ به إشارة للهاتف المحمول لطلب المساعدة.

أما الآن، على حد قول جمعة، فأصبحت عملية استخراج التصريحات أكثر بساطة منذ انتهى الفيلم، الذي لمع في المهرجانات المختلفة، في لوس أنغلوس وسان فرانسيسكو وهونغ كونغ. إذ يُمكن الآن تقديم الطلبات عبر الإنترنت إلى وكالةٍ حكومية واحدة، وتصدر التصاريح خلال أيام.

أمَّا بالنسبة لفنانٍ أكثر خبرةً مثل فقيه، فإنَّ تحصيل الأموال وتأجير المعدات وإقناع أفراد الأسرة المتشككين في خياراته المهنية ليس أمراً صعباً. ولكنَّه أكثر قلقاً بشأن إيجاد أماكن لعرض أعماله.

وقال: "يجب أن تكون هناك حصة للسينما المحلية. لأنَّني إذا شرعتُ في صناعة فيلم بمبلغ 200 ألف دولار كي أنافس أفلاماً مثل Spiderman أوAvengers 5، فليس هناك طريقة على الإطلاق كي أفوز".

على حسب قول أحمد المزيد، المدير التنفيذي لهيئة الثقافة، يقرُّ المسؤولون بأنَّ دور السينما التجارية الجديدة ستعرِض على الأرجح الكثير من الأفلام العائلية وأفلاماً عادية، لكنَّهم لا يريدون فرض المحتوى. بدلاً من ذلك، تعتزم الحكومة إقامة دور سينما لعرض الأعمال السعودية.

والتقى المزيد وفريقه بصانعي الأفلام المحليين، للحصول على معلوماتٍ حول كيفية تنمية هذه الصناعة. ويشعر بعضهم بالقلق مِن كون المسؤولين يهتمون بالوفاء بأهداف الإنتاج واسترضاء المتدينين المحافظين، أكثر مِن اهتمامهم بالقيمة الفنية للمُنتَج الفني.

ومع ذلك، فإنَّهم يشعرون بسعادةٍ غامرةٍ لدعم الحكومة لهم.

وقال فقيه: "شَهَدتُ المملكة العربية السعودية حين كان (المبدعون) هم أعداءها. لذا سأستغل الفرصة الآن، وهي أنَّنا لم نعد تهديداً بعد الآن. الآن يمكننا تعويض الوقت الضائع".

علامات:
تحميل المزيد