تأجلت الانتخابات الرئاسية الجزائرية إلى أمد غير محدد، بعد تصريحات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بشأن تراجعه عن الترشح، الإثنين 11 مارس/آذار 2019. ومع ذلك، ما زالت التظاهرات مستمرة، إنما بشعار آخر "لا للعهدة الرابعة".
ومهما اختلفت الشعارات، فإن الجزائريين منذ لحظة نزولهم إلى الشوارع رفضاً للعهدة الخامسة، كانوا مصرين على سلمية الاحتجاجات أولاً وأخيراً، حتى لا يتكرر سيناريو "العشرية السوداء" التي عانوا الأمرّين بسببها.
ما هي العشرية السوداء؟
نستعرض في هذا التقرير أحداثاً مأساوية مرت على الجزائر، ودور بوتفليقة في حقن دماء آلاف الجزائريين فيما عُرف حينها بالعشرية السوداء.
أكثر من 25 عاماً مضت على الأحداث الدامية التي وقعت في الجزائر، وحتى يومنا هذا ما زالت ندوب الجراح ظاهرة بشكل أو بآخر.
كيف بدأت هذه الأحداث؟ وكيف تسارعت لتتطور إلى حرب سقط ضحيتها ما يقارب 200 ألف قتيل وفقاً لإحصائيات شبه الرسمية؟ نراجع الحقائق التاريخية فيما يلي:
#ترحلوا_يعني_ترحلوا #العشرية البيضاء pic.twitter.com/CbHBiIoGr7
— Mohamed lamin (@Mohamed79412461) March 6, 2019
أسباب أحداث العشرية السوداء
في ديسمبر/كانون الأول من عام 1991 وبعد إعلان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) بأغلبية واسعة على حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم (FLN) في الانتخابات البرلمانية، بسط الجيش سيطرته الفعلية على الحكومة وأعلن حالة الطوارئ.
ألغت الحكومة الانتخابات بعد الجولة الأولى وتقدَّم الرئيس الشاذلي بن جديد باستقالته في يناير/كانون الثاني من عام 1992، بعد 17 يوماً فقط من إعلان نتائج الانتخابات.
هذه العوامل وما تبعها من قرارات كانت شرارة اندلاع حرب أهلية في الجزائر أو ما يُعرف بالعشرية السوداء.
بعد ذلك، تم حظر حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومُنع تماماً من المشاركة في الحياة السياسية في مارس/آذار 1992، وبدأ الجيش بإلقاء القبض على الآلاف من أعضائها.
ولكن، سرعان ما برزت مجموعات مختلفة، وبشكل أساسي الحركة الإسلامية المسلحة (GIA) ومقرها أساساً في المدن. وبدأت وقتها حملة مسلحة ضد الحكومة وأنصارها.
كان شعار الحركة الإسلامية المسلحة "لا اتفاق ولا هدنة ولا حوار"، وأعلنت الحرب على الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1994، بعد أن أحرزت تقدماً في المفاوضات مع الحكومة للتوصل إلى حل يخمد نار الفتنة المتسارعة التي ألقت بظلالها على معظم القرى والمدن الجزائرية.
ذهب العديد من أعضاء الحركة وأنصارها إلى الخفاء، مختبئين من القمع ضد الحزب، في حين اختار طرفها المتطرف طريق المقاومة المسلحة وتطور إلى عدة مجموعات عنيفة، وعلى الأخص "جيش الإسلام" (AIS)، الذي بدأ فيما بعدُ عمليات تفجير في مناطق متفرقة.
أعطت حالة الطوارئ السلطات صلاحيات واسعة جداً، وهي خطوة أطلقت حملة اعتقال طويلة الأمد ضد مسؤولي الجبهة الإسلامية وأنصار الحزب، وغيرهم ممن انضموا إلى الاحتجاجات التي تعارض صعود الجيش إلى السلطة.
أصبحت الاعتقالات التعسفية روتينية في العقد الأسود بالجزائر.
اعتبر نشطاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين لم يطلهم الاعتقال ذلك إعلان حرب، وانتقل بعضهم إلى القتال جنباً إلى جنب مع الإسلاميين المتطرفين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
اتخذوا التلال والجبال الواقعة في شمال الجزائر مقراً لهم لتنفيذ هجمات إرهابية باستخدام أنواع الأسلحة المتوافرة كافة، والتي لم تكن تستثني أحداً، مستفيدين من كثافة الأشجار التي شكلت لهم غطاء مناسباً لخوض حرب عصابات.
من الجدير ذكره أن الصحراء ذات الكثافة السكانية القليلة للغاية والموارد النفطية الغنية بقيت سلمية طوال فترة الصراع تقريباً.
متى اشتدت حدّتها ودمويتها؟
بقيت الجزائر هادئة نسبياً حتى مارس/آذار 1993، حين تم اغتيال مجموعة من الأكاديميين الجامعيين والمثقفين والكُتاب والصحفيين والأطباء.
لم يكونوا جميعاً مرتبطين بالنظام، إلا أنهم كانوا يتحدثون الفرنسية؛ ومن ثم "في نظر شباب فقراء بالمناطق الحضرية ممن انضموا إلى الجهاد… يرتبطون بالصورة المكروهة للمثقفين الناطقين بالفرنسية"، وفقاً لتوصيف Gilles Kepel في كتابه Jihad: The Trail of Political Islam.
عندما أصبح من الواضح أن القتال سيستمر بعض الوقت، تم تعيين اللواء الأمين زروال رئيساً جديداً للمجلس الأعلى للدولة عام 1994.
واعتُبر أنه ينتمي إلى الحوار ومؤيد للتفاوض بدلاً من الفصيل الذي يتبنى فكرة المواجهة العسكرية في الجيش.
بدأ الجيش الإسلامي للإنقاذ مفاوضات مع الدولة، وهي استراتيجية عارضتها بشدةٍ الجماعة الإسلامية المسلحة والمتشددون.
في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1994، أعلنت الحكومة فشل مفاوضاتها مع الجبهة الاسلامية للإنقاذ.
وشرع زروال في تنفيذ خطة جديدة تقضي بتحديد موعد لإجراء انتخابات رئاسية في عام 1995، في حين كان يشجع على "الاستئصال" مثل لاماري، وهو قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري، وتنظيم "ميليشيات للدفاع عن النفس" في القرى لمحاربة المقاتلين.
الجزائر تشهد عزلة عام 1994
شهدت نهاية عام 1994 طفرة ملحوظة في العنف، فتعمقت عزلة الجزائر وغادرت معظم وكالات الصحافة الأجنبية، مثل رويترز، في حين أُغلقت الحدود المغربية وألغت الخطوط الجوية الأجنبية الرئيسية جميع المسارات.
تفاقمت الفجوة الناتجة في التغطية الإخبارية، من خلال أمر حكومي في يونيو/حزيران، يحظر على الإعلام الجزائري الإبلاغ عن أي أخبار متعلقة بالإرهاب لا تغطيها البيانات الصحفية الرسمية.
في 26 أغسطس/آب 1995، أعلنت الجماعة الإسلامية المسلحة الخلافة، أو حكومة إسلامية في الجزائر، حيث كان شريف غوسمي الخليفة "أمير المؤمنين".
في اليوم التالي، أعلن السيد مخلوفي انسحابه من الجماعة الإسلامية المسلحة، مدَّعياً أن الجماعة الإسلامية المسلحة انحرفت عن الإسلام، وأن هذه الخلافة كانت محاولة من زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ السابق، محمد سعيد، لتولي الجماعة الإسلامية المسلحة.
واصلت الجماعة الإسلامية المسلحة هجماتها على أهدافها المعتادة، لا سيما اغتيال الفنانين، مثل الشاب حسني.
وفي أواخر أغسطس/آب، أضافت ممارسة جديدة إلى أنشطتها: تهديد المدارس الإسلامية وضمن ذلك إحراقها بالكامل.
في عام 1997، وصل الصراع إلى ذروته بين التمرد الإسلامي والنظام وخرج عن السيطرة.
بعد 3 سنوات من صعوده، فقد الجيش الإسلامي للإنقاذ السيطرة على نطاق واسع ضد منافِسه الرئيسي، المجموعة المتطرفة المسماة الحركة الإسلامية المسلحة (GIA).
لم تستهدف الجماعة الإسلامية المسلحة في الغالب منشآت الدولة، مثل الجيش الإسلامي للإنقاذ، ولكنها استهدفت بشكل منهجيٍّ الصحفيين والفنانين والأجانب، وحتى ارتكبت مذابح بين المدنيين.
كما لجأت عدة خلايا إسلامية إلى الإخفاء القسري كأداة لنشر الخوف.
https://www.youtube.com/watch?v=-k-bK02yo6w
العشرية السوداء .. طريق الخلاص وإطفاء نار الفتنة
استؤنفت المحادثات بين الحكومة والجبهة الاسلامية للإنقاذ بالموازاة مع استمرار العمليات الإرهابية والقتل في مختلف المناطق الجزائرية؛ وهو ما دفع الرئيس زروال إلى الإعلان بشكل مفاجئ عن استقالته في 11 سبتمبر/أيلول 1998.
تم تنظيم انتخابات جديدة، وفي 15 أبريل/نيسان 1999 تم انتخاب عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان مدعوماً من الجيش سابقاً، رئيساً للبلاد.
واصل بوتفليقة المفاوضات مع الجيش الإسلامي للإنقاذ، وفي الخامس من يونيو/حزيران وافق الجيش الإسلامي للإنقاذ على الحل.
تابع بوتفليقة هذا النجاح من خلال العفو عن عدد من السجناء الإسلاميين المدانين بارتكاب جرائم بسيطة، ودفع قانون الوئام المدني من خلال البرلمان.
سمح هذا القانون للمقاتلين الإسلاميين غير المذنبين في القتل أو الاغتصاب، بالإعفاء من الملاحقة القضائية إذا ما سلّموا أنفسهم.
وذكر موقع الجزيرة الإخباري أنه في عام 2005، تمت الموافقة على ميثاق السلام والمصالحة الوطنية في استفتاء، حيث قدَّم حصانة للمتمردين الإسلاميين بشرط أن يضعوا أسلحتهم في غضون 6 أشهر من الاتفاق.
وفي المقابل، مُنع المتمردون الإسلاميون، ومن ضمنهم قادة جبهة الإنقاذ الإسلامي، من المشاركة في السياسة.
كانت الاستثناءات الوحيدة بالنسبة لأولئك المتورطين في مذابح أو اغتصاب أو قصف الأماكن العامة.
ونتيجة لذلك، استسلم آلاف المقاتلين الإسلاميين وانخرطوا في عملية السلام بالجزائر.
وقال كمال رزاق بارا، أحد كبار مستشاري بوتفليقة، لمحطة الإذاعة الجزائرية العامة، في 29 سبتمبر/أيلول، احتفالاً بالذكرى العاشرة لتوقيع الميثاق: "إن اتفاقية الوفاق المدني وميثاق المصالحة أنقذا البلاد من الغرق أعمق في الفوضى".