نقلت صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، تصريحاً عن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، يتكلّم فيه باعتزاز عن مجتمع اليهود السابق النابض بالحياة في مصر، ويدعو لعودة الجالية اليهودية إلى مصر.
هذا التصريح يسبقه آلاف الأعوام من تاريخ اليهود في مصر، منذ عهود الأسر الفرعونية الحاكمة، مروراً بالغزو الروماني، ثم عصر الفتح العربي الإسلامي وما تلاه، وصولاً إلى اليهود ووجودهم ودورهم في مصر الحديثة.
يُمكننا أن نبدأ هذا التاريخ الطويل بما يحمله من أحداثٍ كثيرة وتذبذب في العلاقات صعوداً وهبوطاً بين اليهود في مصر وحكامها، منذ مصر الفرعونية والنبي موسى.
في مصر الفرعونية
بعد أكثر من ألف عام من بعثة النبي إبراهيم، كان اليهود يعيشون عبيداً في مصر، وكان زعيمهم النبي موسى هو الذي قاد اليهود من العبودية في مصر وقادهم إلى "الأرض المقدسة" التي وعدهم الله بها، ويتذكَّر اليهود كل عام هروب اليهود من مصر في مهرجان عيد الفصح.
كان خروج اليهود من مصر بتدبيرٍ من النبي موسى، وقد كانوا في مصر قبل هذا الخروج في وضع غير مُلائم لهم، فقد كانوا يُعانون من التضييق والاضطهاد وتسخيرهم في الأشغال العامة، كل هذا أدى إلى خروج النبي موسى بأتباعه من أرض مصر.
ووفقاً لكتاب تاريخ اليهود القديم بمصر، كان اليهود من قَبل نزول اليهودية يُخالفون المصريين في عبادتهم، فبينما يعبد المصريون إيزيس وأوزوريس وحورس، كان اليهود قبل اليهودية من عبدة "سِت"، وبعدما نزلت الديانة السماوية زادت عُزلتهم في أمر العبادة.
عودة اليهود مع المحتلّ الفارسي
بعد خروج اليهود مع النبي موسى عادت فرقة من اليهود إلى مصر في جيش قمبيز، فبعد الاضمحلال الذي أصاب مصر الفرعونية في عهد الملك بسماتيك الثالث، آخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين الفرعونية، قرَّر الملك الفارسي قمبيز بعد أن اجتاح مملكة بابل أن يضم مصر إلى المملكة الفارسية.
ساعده في ذلك أحد الضباط الإغريق المرتزقة، العاملين بالجيش المصري، والذي أعطاه كافة المعلومات التي يحتاجها لغزو مصر.
دخل قمبيز مصر فعلاً بعد مقاومة عنيفة وحصار لمدينة منف، إلى أن استسلم المصريون وأصبحت مصر ولاية فارسية لأوَّل مرة، وأسَّس الفرس في مصر أسرة حاكمة جديدة، وهي الأسرة السابعة والعشرين.
كان اليهود أعواناً للفرس ضدّ المصريين، وكان أمل اليهود أن يسمح لهم الفرس ببناء معبدهم وإعادة تشييد هيكلهم، مساعدة اليهود للفرس ولدت لدى المصريين عداء شديداً تجاههم، وحينما قامت ثورة المصريين ضد الفرس، بدأ المصريون بقتال اليهود قبل الفرس، وانتهت هذه المعارك بعد أربع سنوات بانتصار المصريين وطرد الفرس من مصر.
ووفقاً لكتاب تاريخ يهود النيل فقبل دخول قمبيز مصر كانت هناك مجموعة من الأُجراء اليهود الذين يسكنون جزيرة فيلة بأسوان، والذين كانوا يلاقون المُعاملة السيئة من جيرانهم المصريين أيضاً.
أما في عهد الإسكندر والبطالمة فكان الأمر مختلفاً
في عهد الإسكندر سُمح لليهود بالدخول إلى مصر، بعضهم أتى مُهاجراً هرباً من الضغوط السياسية الداخلية في فلسطين، وبعضهم يأتي طمعاً في كسب ثروةٍ سريعة، كما استهوتهم الإسكندرية للإقامة فيها، وتشهد النقوش الجنائزية على الوجود اليهودي في الإسكندرية منذ أوائل القرن الثالث قبل الميلاد.
وكان العديد من اليهود في ذلك الوقت في خدمة الملك أو عاملين في المعارك، أو من رجال الشرطة أو موظَّفين محليين، وفي القرن الثاني قبل الميلاد سوف تؤسَّس جالية عسكرية يهودية في منطقة تعرف في القاهرة حالياً باسم "تل اليهودية"، وأصبح بعض الحاخامات من الشخصيات المُقربة إلى الملك في العصر البطلمي.
بدأ حكم بطليموس الثامن في ظل المعارك التي كانت تنشب بينه وبين شقيقته كليوباترا الثانية وقد ساند يهود الإسكندرية الملكة لكن الملك انتصر، وهو ما كان سيُعرّض اليهود في مصر إلى أزمة حقيقية لولا أن الملك تصالح مع أخته وتزوجها وعفا عنهم، وكان الشعور بالقلق وانعدام الأمان هو ما يُسيطر على اليهود المصريين الذين أجهدتهم الحروب ومعارك الأسر الحاكمة في مصر.
كليوباترا ومارك أنطونيو.. ملحمة الحب والجنس والسلطة التي انتهت بالانتحار
الغزو الروماني ومزيد من الانتكاس لليهود وثورة الثلاث سنوات
أدى الغزو الروماني عام 30م لبدء حقبةٍ جديدة في التاريخ اليهودي في مصر، التي انتهت بشكل مأساوي بثورة السنوات الثلاث من 115: 117م، وهي الحقبة التي انطبعت بالصراع اليهودي-السكندري للحصول على الحقوق المدنية، وهو ما تمت مواجهته بعنف على المستوى الرسمي.
بعد الغزو الروماني صارت المواطنة فقط من حقّ الرومان ومواطني المدن الإغريقية في مصر، وإذا لم تكن كذلك فأنت "مصري" بلا حق في المواطنة، وعليك أن تخضع للضريبة على الأفراد التي يُعفى منها المواطنون، كان الأمر كارثياً بالنسبة ليهود الإسكندرية، الذين صار أغلبيتهم مصريين وعليهم دفع الضريبة.
جاءت نتائج هذه الثورة حزينة على اليهود، فقامت الحكومة الرومانية باتخاذ إجراءات قمعية صارمة طالت كل يهود مصر، الذين كانت لهم جرأة تحدي سلطتها، وتم الاستيلاء على أموالهم وأراضيهم وقُتل الكثير منهم.
ازدهار اليهود في عهد الفاطميين والعباسيين
بعد الفتح العربي- الإسلامي لمصر، الذي شكل تحولاً في تاريخ مصر وفي تاريخ سكانها من اليهود، كان في الإسكندرية عاصمة مصر البيزنطية حينها نحو 40 ألف يهودي، ويُقال إن هذا الرقم مُبالغ فيه.
بعد الفتح العربي- الإسلامي عُومل اليهود باعتبارهم أهل ذمة، وعليهم دفع الجزية كالمسيحيين، لكنّهم -وعلى مر التاريخ- نبغوا في مُزاولة الطب، فقد كان طبيب الحاكم أحمد بن طولون يهودياً، وهناك العديد من الأطباء اليهود الذين عملوا في القصور في حقبة مصر الإسلامية.
في عهد الدولة العباسية ثم الفاطمية ازدهرت حالة الطائفة اليهودية وتعمَّقت استقلاليتهم، فأقيمت مدارس تلمودية دينية، وبرع اليهود في التجارة وأصبحوا من الأثرياء، وأصبح بعضهم أيضاً من حاشية القصر الملكي في مصر، ومُقربين من الملوك، بالإضافة إلى ذلك كان العديد من اليهود يُقيمون في الأرياف، وقد كانت لهم نشاطات حرفية وزراعية.
تغيّر الوضع تحت حكم المماليك، فقد عانت مصر بأكملها أكثر من فترة صعبة خلال حكم المماليك، وتغيَّر بالتالي وضع اليهود أيضاً، فقد كان المماليك يواجهون في الخارج آخر عمليات الصليبيين، ولم يكن هناك تسامح إزاء المسيحيين المقيمين في البلاد، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم أعداء كامنون.
لم يكن أيضاً يتم التفريق بين المسيحيين واليهود، مما جعل اليهود في مصر يُعانون من تأزُّم هذا الوضع، وظهر قدر كبير من الأدبيات التي تحفِّز الشعب للجهاد ضد غير المسلمين.
عاد وضع يهود مصر للتغيُّر مرةً أخرى تحت حكم العثمانيين لمصر، فتمّ تعديل النظام الطائفي، وتقلَّد اليهود مناصب المسؤولية المالية للدولة، ووظائف محصِّلي الضرائب، ومديري هيئة صناعة النقود.
القرب الكبير من السلطة عرَّض اليهود المصريين لمسؤوليات تجاهها، مما جعل اليهود في مصر أول مَن يُعاني في تغيرات النظام، ومن المشاحنات فيما بين حكام مصر.
وضع اليهود في مصر الحديثة
يمكن تصوير تاريخ اليهود في مصر خلال القرنين الماضيين على شكل مُنحنى صاعد أحياناً وهابط أحياناً أخرى، فخلال القرن التاسع عشر وخاصة في الفترة من 1920 إلى 1930 يبدأ في الصعود، ثمّ وفي بداية الأربعينيات يبدأ في الانحناء ببطء، ثم يسقط تماماً وبطريقة حادة فيما تلى ذلك.
كان لليهود دورهم الكبير في الحياة الاقتصادية والثقافية المصرية، خاصةً بعد توافد كثير من الأجانب إلى مصر، فأصبح عدد اليهود عام 1890 نحو 30 ألف يهودي، وازداد العدد عام 1919 ليصبح 60 ألفاً، وبحلول عام 1930 كان يقدَّر عددهم بنحو 75 ألفاً.
بدأ اهتمام الوطنيين المصريين بطرد الأجانب وتمصير الاقتصاد المصري بعد هذا الوقت، وهو الأمر الذي لم يكن يتماسّ مع اليهود في شيء، سوى كونهم أقلية غير مسلمة وغير عربية، ثم تطوّر الأمر مع وجود الصراع العربي- الإسرائيلي بعد احتلال فلسطين.
جاءت الضربة الحاسمة ليهود مصر مع العدوان الثلاثي على قناة السويس عام 1956، الذي شاركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فكان تأكيداً مُلائماً على التواطؤ الإسرائيلي ضد مصر، فتمّ اعتقال عدد كبير من اليهود بطريقة عشوائية، ووُضعت أموالهم وأملاكهم تحت الحراسة.
ثم جاء طرد حاملي الجنسيات الإنجليزية والفرنسية الذين كانوا يضمُّون العديد من اليهود، إلى جانب طرد أغلبية اليهود الذين لا يحملون الجنسية بتهمة القيام بأعمال مُعادية للدولة، ورغم ذلك كان هناك ما يقرب من 21 ألف يهودي في مصر حتى خريف عام 1957.
وبعد حرب 1967 بين العرب والإسرائيليين وُجِّهت لليهود في مصر ضربات أكثر حدة، ليصل عدد اليهود في مصر حينها إلى 7 آلاف يهودي فقط.
ثمّ تضاءلت تلك الأعداد أكثر فأكثر، مُتوجِّهةً إلى إسرائيل، بينما كان يفضِّل الأغنياء منهم التوجه إلى أوروبا والأمريكتين، ليصل الوضع اليوم في عام 2019 إلى كون الطائفة اليهودية في مصر تُوشك على الانقراض، بعد أن أصبح عدد أفراد الطائفة 7 نساء في عام 2016، يتعرضن للتناقص كلما توفت منهم امرأة.
للطائفة اليهودية قرابة 13 معبداً فى القاهرة، 3 منها في حالة سيئة وتحتاج ترميماً، وقد أصبح التراث اليهودي مهجوراً ويحتاج إلى ترميم، ولكن بعضه مازال مفتوحاً يستقبل الجمهور، مثل المعبد اليهودي بوسط القاهرة، الذي مازالت تُقام به الشعائر الدينية لباقي أفراد الطائفة الموجودين، ومعبد بن عزرا في مصر القديمة.
وقد أثار أمر ترميم الآثار اليهودية ضجةً في نهايات عام 2018، بعد أن أعلن وزير الآثار المصري، خالد عناني، في تصريحاتٍ أعلنها أمام مجلس النواب المصري حول تخصيص مليار و270 مليون جنيه لتجديد التراث اليهودى فى مصر، أثار التصريح جدلاً كبيراً حول أسباب تخصيص هذا الرقم الكبير للآثار اليهودية فقط، ليعود الوزير ويتراجع عن تصريحه، موضحاً أن هذا المبلغ مُخصص لترميم كل الآثار وليست اليهودية فقط.