رغم مقتلهم خلال الحرب الأهلية.. رهبان دير سيدة الأطلس الـ(7) يواصلون نشر السلام في الجزائر حتى بعد موتهم

على مدى العامين الماضيين، تردَّد عددٌ كبير من الزائرين، معظمهم من المسلمين، لزيارة أضرحة رهبان دير سيدة الأطلس الذين فقدوا حياتهم خلال سنوات الحرب الأهلية

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/10 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/10 الساعة 13:55 بتوقيت غرينتش

يقع دير سيدة الأطلس على منحدر تل، ويطل على بلدة "تبحيرين" الصغيرة، جنوبي الجزائر العاصمة، ومنظر طبيعي أخضر مُتعرج تنتشر به بعض الشجيرات وأشجار الكستناء.

ويَحدُّ الدير المرتفع، الذي بُنِي من الحجارة القديمة جدرانٌ عالية وأشجار صنوبر تضرب بجذورها عميقاً. وتُعَد هذه البيئة الريفية الهادئة نقطة جذب رئيسية لكلِّ الزائرين الذين يرغبون في قضاء يوم في البلدة، والأشخاص الذين يقيمون طوال الليل في دار ضيافة الدير.

وعلى مدى العامين الماضيين، تردَّد عددٌ كبير من الزائرين، معظمهم من المسلمين، على الدير، الذي اشتهر عقب وقوع جريمة اغتيال شنيعة به، أودت بحياة 7 رهبان من الطائفة السيسترسية التابعة للكنيسة الكاثوليكية في عام 1996، خلال الحرب الأهلية المروّعة التي اندلعت في الجزائر، وراح ضحيتها حوالي 20 ألف شخص.

ويزور الدير يومياً عشرات الجزائريين، سواء عائلات أو مجموعات من الأصدقاء، وكذلك بعض الأجانب، بعد أن باتت قصته معروفة لدى معظمهم. وقال الراهب برونو الذي يعمل مرشداً بالمنطقة لموقع Middle East Eye: "على الرغم من أنَّ معظم الزائرين يأتون من الجزائر العاصمة وولايتَيْ المدية​ وتيزي وزو، قابلْنا أشخاصاً من جميع أنحاء الجزائر".

عقول متسائلة

تبدأ الجولة داخل الدير -الذي تأسس في عام 1938 في ولاية المدية ويقع على بعد ساعتين بالسيارة من الجزائر العاصمة- دائماً من عند الكنيسة المزخرفة بشكل مُنسَّق وبسيط. ويطرح الزائرون أسئلة حول أمور عدة مثل: هل تُؤدَى الصلاة باللغة اللاتينية؟ هل يحدث فصل بين الرجال والنساء في الكنيسة؟ هل لا تزال الأجراس تدق؟ ويحاول الراهب برونو، وهو قس فرنسي في الخمسينيات من عمره، شعره مزيج بين اللونين الأبيض والأسود، يحاول الإجابة باللغة العربية.

وغالباً ما يكون لدى السائحين الذين يزورون دير تبحيرين توقعات مختلفة. فيقول برونو: "بعضهم يعرف قليلاً عن المسيحية، لكن معظمهم لم تطأ أقدامهم أرض كنيسة من قبل. هم حريصون على معرفة المزيد عن ديانتنا، بينما يهتم آخرون أكثر بمعرفة تاريخ الدير وحياة الرهبان الذين قُتِلوا".

وأضاف الراهب برونو: "زارنا العديد من الأشخاص الذين كانوا على اتصال بالرهبان السبعة (عندما كانوا على قيد الحياة)".

ومن جانبه، يسترجع محمد، الذي اصطحب معه إلى الدير بناته الأربع، بينما يقف أمام الأَحجِرَة السبع الرخامية المنقوش عليها أسماء الرهبان الأولى فقط، الراهب لوك، الذي كان يدير العيادة الطبية للدير بمفرده إلى أن قُتِل.

الرهبان ضحايا دير سيدة الأطلس / أرشيف
الرهبان ضحايا دير سيدة الأطلس / أرشيف

ذكريات مؤلمة

وقال محمد، المُعلِّم المتقاعد الذي يقيم في المدية: "كان الراهب لوك يعالج والدتي. وهو يحظى حتى الآن باحترام بالغ في المنطقة".

وعند مقبرة الدير، حيث دُفِنَت جماجم الرهبان تحت ظلال أشجار الصنوبر استرجع محمد ذكرياته المؤلمة مجدداً، قائلاً: "وجودي هنا يجعلني أسترجع الأحداث المؤلمة التي مررنا بها، لقد فقدت العديد من أقاربي (في تلك الأحداث)، وتعرَّضت شخصياً للتهديد بالقتل من جانب إرهابيين إسلاميين".

وفي 8 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت الكنيسة الكاثوليكية في مدينة وهران، جنوب غربي الجزائر، تطويب (المرحلة الثالثة من تقديس الموتى عند الكاثوليك) سبعة رهبان فرنسيين، و12 آخرين من أتباع الطائفة الكاثوليكية قُتِلوا خلال الحرب الأهلية في البلاد، وهي أول احتفالية من نوعها تُقام في دولة إسلامية. وقبل ذلك الحدث، كان قد جرى تكريم 114 من أئمة المساجد الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية في مسجد عبدالحميد بن باديس في وهران، بحضور كبار رجال الدين وأقارب الرهبان المُغتالين.

وأقيمت مراسم التطويب في مصلى كنيسة سانتا كروز أمام حجاج كاثوليك ورجال دين وأفراد من المجتمع الصوفي وساسة جزائريين.

وذاع صيت الدير في الآونة الأخيرة، باعتباره رمزاً للمأساة التي شهدتها البلاد على مدار عقود.

فيما قال عثمان، مدرس لغة فرنسية من مدينة بجاية يزور الدير للمرة الثانية: "لا يزال الحديث عن حرب الاستقلال مهيمناً في الجزائر، بينما يبقى الحديث عن الحرب الأهلية من المحظورات، حتى بعد 20 عاماً من اندلاعها. ويُعد الدير أحد الأماكن النادرة التي يمكن أن تمثل نُصباً تذكارياً للعشرية السوداء في الجزائر (الحرب الأهلية)".

واتفق معه الراهب برونو، الذي تحوَّل إلى الكاثوليكية عندما بلغ الثلاثين من عمره، قائلاً: "كثيراً ما أسمع الزائرين في المقبرة يروُون قصصهم الحزينة الخاصة بهم، ويصلون من أجل أرواح مفقوديهم".

أرواح مُكرَّسة

لم يكن الدير السيسترسي، قبل حادث مقتل الرهبان المأساوي، معروفاً على نطاق واسع. ومَكَث فيه 9 رهبان فرنسيين من بين عددٍ قليل من الأوروبيين الذين قرروا البقاء في الجزائر بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1962. وكرَّسوا حياتهم للسكون والصلوات والعبادة التزاماً بقواعد القديس بينيديكت.

وارتبط أولئك الرهبان بعلاقات مع جيرانهم المسلمين من خلال دروس تعليم اللغة الفرنسية، وتوفير العمالة في مزرعة الدير، وتوليد الأطفال. وقال الراهب يوجين، المسؤول عن ترميم الدير وتجديده: "عالج الراهب لوك حوالي 800 ألف جزائري طوال 50 عاماً، إلى جانب تقديم وصفات طبية، والتبرَّع بملابس وأحذية مستعملة للعائلات الفقيرة".

ويحمل سمير، الذي عمل مزارعاً في الدير طوال العقدين الماضيين، ويعتبر الدير منزله الثاني، ذكريات ممتعة عن فترة تربية الأغنام. إذ قال: "علاقاتنا معهم (الرهبان) كانت ممتازة. لم نعتبرهم أشخاصاً مختلفين عن بقية سكان القرية".

نهاية الأمان

وعَلقَت الجزائر، الواقعة في شمال إفريقيا، تحت وطأة نزاع مطوّل في تسعينيات القرن الماضي بين الحكومة وجماعات إسلامية متشددة مسلحة. وعندما زادت الحرب وحشية، مع تنفيذ عمليات إعدام يومية بقطع الرؤوس والذبح وارتكاب مجازر على نطاق واسع، لم يَعُد من الآمن بالنسبة للمجتمع المسيحي البقاء في منطقة المدية الجبلية النائية.

وفي مساء يوم 26 مارس/آذار 1996، اختُطِفَ سبعة رهبان كاثوليك، تتراوح أعمارهم بين 45 و82 عاماً من الدير، على يد مسلحين، وقُتِلَوا في نهاية المطاف. وقد عُثِرَ على رؤوسهم مقطوعة على جانب الطريق في المدية، في 30 مايو/أيَّار 1996، لكن لم يُعثَر قط على بقايا أجسادهم.

قالت ابتسام، التي تدرس الصحافة بينما كانت تقرأ وصية الراهب كريستيان المكتوبة قبل عامين من الاغتيال والمُثبَّتة على أحد جدارن مركز الزوار: "لقد اختاروا تعريض حياتهم للخطر تضامناً مع المسلمين المحليين، الذين لم يكن لديهم ملاذٌ يفرون إليه، لقد كان عملاً استثنائياً نابعاً من حبهم لله والشعب الجزائري".

وعلى مقربة من مكان وقوف ابتسام وقف حفيظ يكتب رسالة في سجل الزوار، وأبدى إعجابه "بتضحية الرهبان"، قائلاً: "إنَّهم مثل أي جزائري لقى حتفه خلال الحرب الأهلية… هم ضحايا أبرياء".

وحتى بعد مرور أكثر من 20 عاماً على وفاتهم، لا يمكن الجزم بمن كان وراء تلك المجزرة على الرغم من إعلان الجماعة الإسلامية المسلحة، وهي واحدة من أنشط الحركات المسلحة المُتطرّفة خلال فترة الحرب الأهلية، مسؤوليتها عن الهجوم.

واستُخرِجَت رؤوس الرهبان في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، لإجراء عملية تشريح ما بعد الوفاة. ونُشِرَت نتيجة تحقيق الشرطة الفرنسية، في شهر فبراير/شباط الماضي. ووفقاً للتقرير المكوَّن من 280 صفحة، قُطِّعَت رؤوس الرهبان بعد وفاتهم، وقتلوا قبل عدة أسابيع من العثور على رؤوسهم في المدية، ومع ذلك، لم يذكر التقرير شيئاً عن هوية القاتلين.

ومن جانبها، لم تصدر الجزائر أي تعليق رسمي على هذا التقرير، ولم ينته التحقيق بعد؛ إذ يواصل قاضيان فرنسيان التحقيق في مقتل الرهبان.

وقال الراهب يوجين: "لم تتمكَّن الجزائر حتى الآن من كسر جدار الصمت لمعرفة الحقيقة. ربما لن  نعرف أبداً ملابسات موتهم، مثل آلاف العائلات الجزائرية التي فقدت أقاربها. نتمنى أن نتمكن من كشف كيف قضوا أيامهم الأخيرة وشكل علاقتهم مع سجَّانيهم".

تَبِعات الحادث

لم يُهجَر الدير في أعقاب حادثة اغتيال الرهبان، إذ سعت مجموعة من الرهبان للانتقال للعيش في الدير في عام 1998، لكن في بلد مزقته الحرب لم يُسمَح لهم بالمكوث طويلاً في الدير. وبعد رحيلهم في عام 2001، تولَّى القس الفرنسي، الراهب جان ماري، إدارة الدير وأبقاه مفتوحاً طوال 15 عاماً.

وعادت الحياة حقاً إلى طبيعتها في الدير عندما تسلَّمت جماعة "الطريق الجديد" (Chemin Neuf) الفرنسية، وهو مجتمع كاثوليكي روماني ينحدر أساساً من مدينة ليون في فرنسا، إدارة المكان في عام 2016.

وتعتني حالياً مجموعة صغيرة، مكوَّنة من ثلاثة رجال وامرأة واحدة، بمجمع الدير، الذي يضم كنيسة وقاعة طعام وأماكن إقامة وحظيرة أغنام وعشة دجاج وأنشطة صغيرة النطاق لإنتاج الألبان وحدائق خضراوات وفاكهة واسعة مُتَدَّرِجَة، وورشة عمل لتصنيع المربى العضوية وخل التفاح.

الصلاة والعمل

تُنظَّم الحياة المجتمعية داخل الدير بإحكام، وفقاً لوتيرة محددة للصلاة والقراءات الروحية والعمل البدني والزيارات. وقالت الأخت فيليسيتي، ويداها الخشنتان مطويتان برفق أمامها: "كان شعار الرهبان هو "الصلاة والعمل" باعتبارهما وسيلتين لتعزيز عقل وجسد صحيين".

واتسمت حياة فيليسيتي، المهندسة الزراعية، مثل زملائها، بالتجوال منذ انضمامها إلى المجتمع في عام 1997، إذ تنقلت بين فرنسا وإسبانيا والعديد من البلدان الإفريقية. وقضت العام الماضي في رعاية النحل وتقليم 1300 شجرة مزروعة في حديقة دير تبحيرين وتنظيفها.

وقالت فيليسيتي: "نحاول احترام البيئة في كل شيء نفعله هنا من خلال تقليل النفايات وإعادة تدويرها، والتوسَّع في زراعة فاكهة وخضراوات خالية من المبيدات. لقد أنتجنا هذا العام ما يزيد عن 9000 برطمان مربى تُبَاع في مركز الزوار بالدير. وتُعرَض معظم محاصيلنا من الخضراوات الطازجة في الجزائر العاصمة، في سوق للمزارعين تديره مؤسسة Torba، وهي مؤسسة جزائرية صديقة للبيئة".

ويُعَد الحوار بين الأديان ركيزة أخرى لحياتهم المجتمعية، إذ ترغب جماعة "الطريق الجديد" الكاثوليكية في تحويل دير تبحيرين إلى نموذج لبناء جسور التواصل بين الأديان في الجزائر وخارجها.

وفي هذا الصدد، قال الراهب يوجين: "الكاثوليك هنا هم غيض من فيض، لقد رحل الراهب كريستيان، الذي قرأ كثيراً في القرآن، تماماً مثلما قرأ في الكتاب المقدس، تاركاً إرثاً ممثلاً في رسالة سلام، لذا يجب علينا ريّ بذور السلام التي أورثها لنا أولئك الرهبان، واجبنا هو نشر رسالتهم".

ووفقاً لمستأجري الدير الحاليين، يُمثّل تطويب الرهبان مؤخراً علامة إيجابية على مستقبل العلاقات بين الأديان في الجزائر.

فيما أعرب الراهب يوجين عن شعوره بالتفاؤل قائلاً: "إنَّ هذا الاحتفال يُبيِّن قدرتنا على إعادة دراسة الحرب الأهلية الجزائرية والتصدي للجماعات الإرهابية المُتبقّية، التي تغذي التوترات بين الأديان في جميع أنحاء العالم".

علامات:
تحميل المزيد