«الجزائر المهد الثاني للبشرية».. قصة الاكتشاف الذي قد يغيّر قراءتنا للتاريخ، وهذه الدولة حاولت إخفاءه لسنوات

مهد البشرية الثاني .. الجزائر تعلن اكتشاف ثاني أقدم موقع للإنسان البدائي .. فما حقيقة سعي فرنسا لإخفاء هذه الحفريات التي قد تُغير التاريخ؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/14 الساعة 07:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/02/24 الساعة 06:06 بتوقيت غرينتش

الطريق نحو مهد البشرية الثاني يمر عبر طرق وعرة، ولكن المكان يستحق تحمل المشقة، فهذه البقعة النائية قد تكون أحد المواطن التي نشأت فيها البشرية قبل أكثر من مليونَي سنة، وفقاً للباحثين الجزائريين.

عليك أن تقطع 350 كيلومتراً من الجزائر العاصمة؛ لتصل إلى الموقع الذي "قد يثبت وجود أصول متعددة لبداية البشرية تشمل شمال إفريقيا وشرقها معاً"، حسبما يقول العالم الجزائري محمد سحنوني صاحب الاكتشاف.

ففي هذه المنطقة اكتشف علماء جزائريون وغربيون حفريات قد تغير تعريف مهد البشرية بعد أن كان يعتقد أنه في شرق إفريقيا، لكن هذا الاكتشاف يرجح أن القارة الإفريقية برمتها هي "مهد البشرية"، حسب وصف صحيفة independent البريطانية.

عبر تضاريس الجزائر المتنوعة، من جبال، وسهول وهضاب، قطع "عربي بوست" الطريق في اتجاه الشرق للوصول إلى المنطقة القريبة لمدينة العلمة التي تُخفي في باطنها حفريات، يقول الباحثون الجزائريون إنها قد تغير نظرتنا للتاريخ، ويسمونها مهد البشرية الثاني.

احتاج الأمر للتخلي عن الطريق الرئيسي الذي يربط شرق وغرب البلاد، والذي يعد أكبر مشروع في الجزائر بعد الاستقلال، لبلوغ الموطن الذي عاش فيه الإنسان قبل مليونين وأربعمائة ألف سنة .

ويشير الاكتشاف إلى احتمالين أما إن الإنسان الأول انتقل إلى هذه المنطقة من شرق إفريقيا أو أنه تطور بشكل مستقل في هذه المنطقة.

القلتة الزرقاء بلدة صغيرة باتت حديث الجزائريين

اسم البلدة التي اكتشفت فيها الحفريات يعبّر عن طبيعتها الجغرافية.

فاسمها القلتة الزرقاء، والقلتة بالعامية الجزائرية تعني "الحوض أو المجمع المائي"، أما الزرقة في الاسم فتشير إلى صفاء الماء وجودته في البلدة.

خلال الرحلة، سألنا مراد بائع البرتقال، عن مكان بلدية القلتة الزرقاء.

فردَّ سريعاً: "تريدون زيارة البلدية أم الآثار؟".

توحي إجابته بأن الاكتشافات بالبلدة تعني الكثير حتى لسكانها البسطاء.

وهذا الأمر ليس جديداً ولم يبدأ مع الاكتشافات الأخيرة.

إذ يدرس طلاب المدارس في الجزائر أنه في منطقة عين لحنش التابعة لبلدية القلتة الزرقاء، عاش أول إنسان بشمال إفريقيا.

وهي معلومة أكدها الباحث في التاريخ بلال بارة، الذي قال لـ "عربي بوست" إن "الحقائق تؤكد أن الوجود الأول للحياة البشرية بالجزائر وشمال إفريقيا كان في هذه المنطقة".

منظر عام لمنطقة الحفريات في الجزائر / عربي بوست
منظر عام لمنطقة الحفريات في الجزائر / عربي بوست

وهنا كان يعيش "الماموث" أيضاً وليس البشر وحدهم

عندما  خرجنا عن الطريق الرئيسي، صادفنا أعمالاً تقوم بها شركة تركية، والتي شطرت إحدى الهضاب إلى نصفين.

في هذا المكان تم اكتشاف هيكل عظمي ضخم يعود لفيل ذي أنياب وكان يغطيه الصوف (الماموث).

ويقول عبد الرزاق العامل الجزائري بالشركة، إن اكتشاف الهيكل العظمي كان في أغسطس/آب 2018.

ويضيف قائلاً لـ "عربي بوست" إن "الشركة التركية فور اكتشافها هذا الهيكل العظمي الضخم، أوقفت العمل تنفيذاً للقوانين الجزائرية، وأعلمت الجهات المعنية بالأمر، والتي تدخلت من خلال مديرية الثقافة لولاية سطيف، ونقلت عينة من الماموث للتحليل في مختبر بالجزائر العاصمة".

البروفيسور محمد سحنوني، قال لـ "عربي بوست" إن "اكتشاف هذا الماموث الذي يعود لثلاثة ملايين عام  كان ممهداً لاكتشافات جديدة بالمنطقة".

فهذه المنطقة "كانت عبارة عن غابات وأحراش كثيفة، تتخللها وديان ومجارٍ مائية، تشبه إلى حد كبير منطقة القرن الإفريقي شرق القارة السمراء"، حسب سحنوني.

وقال: "إنه تجرى مزيد من الاختبارات على أنياب هذا الفيل لتحديد عمره بدقة".

دليلنا إلى حفريات ما قبل التاريخ.. راعي أغنام ثمانيني

تركنا موقع الشركة التركية، ومكان حياة الماموث، وتوجهنا نحو منطقتي عقبة بوشريط وعين لحنش اللتين احتوتا على آخر اكتشاف بالمنطقة والذي يقول الباحثون الجزائريون إنه أفضى إلى حقائق مثيرة عن مهد البشرية الثاني، كما يصفه الجزائريون.

صادفنا أمام مسجد القرية، وأطفال يلعبون الكرة، فأوقفنا السيارة لنسأل عن مكان الحفريات.

وقبل تلفظنا بكلمة سألنا أحد الأطفال: "جئتم من أجل الآثار التي ظهرت في التلفزيون؟".

ففي هذه المنطقة النائية التي يسميها الجزائريون مهد البشرية الثاني، الكل أصبح مهتماً بحضارة إنسان ما قبل التاريخ.

ودلّنا هؤلاء الصبية على موقع منطقة "عين لحنش".

والحنش بالعامية الجزائرية تعني الثعبان، والموقع عبارة عن منبع طبيعي عذب، مطل على أراضي خصبة وروابي غناء.

ومن حسن الحظ أن الشتاء لم يكشر عن أنيابه بعد كعادته، فاستقبلنا البساط الأخضر بكل وُد.

وعلى رابية مقابلة للنبع، التقينا بمحمد ثابت ذي الثمانين عاماَ، وهو يرعى أغنامه ويتنسم الهواء القادم من أعالي جبال البابور أقصى الشمال.

هذا الراعي العجوز يعرف الكثير عن خبايا الحفريات بالمنطقة التي بدأت منذ فترة الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي.

حتى إنه التقى بعدد من الباحثين منهم اثنان من أشهر المنقبّين في العالم، اللذين أعطيا أهمية لمنطقة عين لحنش وهما الباحثان الفرنسيين رامبور وكامبس .

أخبرنا ثابت بمكان استخراج هيكل عظمي لامرأة من قبل الباحث والمنقّب الجزائري محمد سحنوني قبل ثلاث سنوات.

المكان يضم أحجاراً قديمة، ومكان القبر يعج بقواقع الحلزون الجبلية.

كما دلّنا الراعي كذلك على ثلاثة أماكن، لحفريات قام بها البروفيسور محمد سحنوني، برفقة علماء من إسبانيا، وفرنسا وأستراليا، وهي الحفريات التي أكدت وجود الحياة البشرية بالمنطقة قبل 2.4 مليون سنة.

كيف توصل العلماء الجزائريون إلى هذا الاكتشاف؟

البروفيسور الجزائري محمد سحنوني، قائد فريق الاكتشاف الأخير، يقول إن نتائج التحاليل التي أُجريت داخل وخارج الجزائر على الحفريات المكتشفة تشير إلى أن حياة الإنسان في عين لحنش تعود إلى ما قبل 2.4 مليون سنة.

وقال سحنوني لـ "عربي بوست": "كنت متيقناً بأن السنوات الطوال التي قضيناها في البحث والتنقيب بمنطقتي عقبة بوشريط وعين لحنش، ستكلل بمثل هذا الاكتشاف، خاصة أنه سبق اكتشاف هيكل الماموث الذي عاش هنا قبل ثلاثة ملايين سنة".

واحدة من الحجارة التي يعتقد علماء الآثار أن عليها علامات قطع بشرية/مواقع التواصل الاجتماعي
واحدة من الحجارة التي يعتقد علماء الآثار أن عليها علامات قطع بشرية/مواقع التواصل الاجتماعي

السبب في الاهتمام بهذه المنطقة جاء من وفق معلومات مؤكدة سابقا بأن الإنسان عاش بها  قبل 1.8 مليون سنة، حسب العالم الجزائري.

ويقول: "إن هذا جعل استكمال البحث يستند إلى أرض خصبة، حيث كانت كل المؤشرات توحي بأن هناك حفريات في المكان أقدم من التقديرات السابقة".

وأضاف: "اعتمدنا في بحثنا وتنقيبنا على خبرة إسبانية، فرنسية وأسترالية، واستمرت هذه الجهود أكثر من 25 سنة، وشارك فيه الأساتذة الجامعيون والطلبة في تخصص التاريخ من عدد من جامعات البلاد خاصة من جامعة سطيف".

ويقول: "خلال مراحل البحث كانت كل حفرية نكتشفها تعطينا نتائج بوجود آثار لنقوش ومنحوتات حجرية مختلفة وأكثر قِدماً".

ولكن ماذا اكتشف العلماء في هذه الموقع؟

تتمثل الأدوات الحجرية المكتشفة في مهدي البشرية الثانية، في حصى مهيّأة وكرويات ونويات ومكاشط وشظايا ذات حواف حادة، استعملت في تقطيع الكتل الحيوانية بغرض استهلاكها.

وتشبه هذه الأدوات الأدوات الحجرية المكتشفة بموقع "قونا" الإثيوبي الذي وجد به أقدم إنسان مكتشف.

"في حين أن البقايا العظمية للحيوانات التي وجدت بجانب المجموعة الحجرية تعود لحيوانات منقرضة بالمنطقة كالفيلة وفرس النهر ووحيد القرن والزرافات".

موقع الحفريات / عربي بوست
موقع الحفريات / عربي بوست

مجلة علمية أميركية تؤكد الاكتشاف.. ووزارة الثقافة تكرم صاحبه

نتائج الأبحاث الأثرية أكدت أن ثاني أقدم تواجد بشري في العالم هو بموقع "عين بوشريط" بمنطقة عين الحنش بولاية سطيف (شرق الجزائر).

هذا ما أعلنته وزارة الثقافة الجزائرية على صفحتها على فيسبوك.

كشفت حفرية أثرية لباحثين جزائريين و أجانب أعلن عن نتائجها مساء الخميس بالجزائر العاصمة أن "ثاني أقدم تواجد بشري في…

Gepostet von ‎وزارة الثقافة‎ am Freitag, 30. November 2018

وأعلنت وزارة الثقافة الجزائرية تكريمها للفريق صاحب الاكتشاف الأخير بقيادة البروفيسور محمد سحنوني.

وقالت وزارة الثقافة الجزائرية إنه تم نشر هذا الكشف العلمي بالمجلة العلمية الأميركية المرموقة "ساينس" من قِبل لجنتها العلمية الدولية التي تنشر أسبوعياً مقالات علمية عن أهم الاكتشافات في العالم وفي جميع المجالات.

كما وصف التلفزيون الرسمي الجزائري هذا الاكتشاف بأنه الأعظم في تاريخ الجزائر.

هذا الاكتشاف سينقل اهتمام العلماء من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا

هذا الاكتشاف يغيّر التقديرات السابقة بأن منطقة الشرق الأوسط هي مهد الحضارة الإنسانية الأول، حسبما يقول البروفيسور محمد، صاحب الاكتشاف.

وقال سحنوني لـ "عربي بوست" إن "هذا الاكتشاف يؤكد أن القارة الإفريقية، هي أول قارة تواجد فيها الإنسان".

وأضاف: الدليل هو الحفريات التي تم اكتشافها في موقع "قونا" شرق إثيوبيا، والتي تعود إلى نحو 2.6 مليون سنة، وبعدها يأتي اكتشاف عين لحنش بالجزائر الذي يعود لنحو 2.4 مليون سنة.

وهذا يعني أن الباحثين والمهتمين سينقلون دراساتهم واهتماماتهم إلى شمال إفريقيا، بعدما كانت منذ فترة طويلة تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، حسب العالم الجزائري.

وتعهد سحنوني: "بأنه لن يتوقف عند هذا الحد، وسيكمل مشوار بحثه وحفرياته في المنطقة، التي تحتوي كنوزاً تحت الأرض ودراسات قيمة ستكشف عن الجديد في السنوات المقبلة"، حسب قوله.

مناطق رعوية واثرية يغزوها الاسمنت / عربي بوست
مناطق رعوية واثرية يغزوها الاسمنت / عربي بوست

والفرنسيون سعوا إلى طمس معالم مهد البشرية الثاني

"فرنسا كانت لا ترغب بالعثور على مثل هذا الاكتشاف، حسبما يقول البروفيسور محمد سحنوني.

وقال: "لقد سعى الفرنسيون منذ سنوات لطمس حقائق الموقع الأثري بعين لحنش، رغم أن اكبر علماء آثارها كانوا يهتمون بتاريخ المنطقة حتى في الفترة الاستعمارية".

وقال إن "الفريق الذي توصل لهذه الاكتشافات بقيادته كان عليه أن يضع في اعتباره الهجوم الفرنسي الذي كان يطعن في حقيقة التواجد البشري بالموقع قبل 1.8 مليون سنة".

ويضيف قائلاً: "بعض العلماء الفرنسيين ما زالوا ينظرون إلى الجزائر بنظرة الاستعمار والتهميش، لذا لم يتحمسوا لهذه الاكتشافات"، حسب قوله.

وتابع: "كما أن عدم قيادة فرنسا لهذا الاكتشاف جعلها تختلق الحجج في تكذيب الحقائق"، على حد تعبيره.

لذلك أشرك الفريق الجزائري 12 باحثاً من إسبانيا، وأستراليا، فرنسا والجزائر لإثبات صحة هذا الاكتشاف عبر حقائق علمية، اعتمدتها هيئات عالمية ومجلات علمية مرموقة، كرد على تلك الافتراءات، وفقاً لما يقوله سحنوني.

وكان  الباحث الجزائري في فترة ما قبل التاريخ زهير حريشان، قد أيّد وجهة سحنوني بشأن موقف الفرنسيين من هذا الاكتشاف.

وقال حريشان في لقاء تلفزيوني، إن "الفرنسيين دأبوا على ما وصفه بـ"العرقلة العلمية"، ومحاولة طمس الحقائق بشأن التواجد البشري بشمال إفريقيا والجزائر خصوصاً"، حسب قوله.

والآن هناك عدو جديد لهذه الحفريات.. الأسمنت يعتدي على التاريخ

على بُعد أمتار من أكبر حفرية في هذه الاكتشافات، التقت "عربي بوست" مع ثابت بوزيد، وهو أحد أبناء المنطقة الذين يتألمون لواقع المنطقة الأثرية التي بات الأسمنت يغزوها من كل جانب.

وقال بوزيد لـ "عربي بوست" إن "المنطقة مهددة في حال لم توقف الدولة جرائم التوسع العمراني على حساب المناطق الزراعية، والتي هي في الأصل أثرية وتاريخية بامتياز".

وعلى سبيل المثال، هناك مشروع لإنجاز حديقة عمومية بمنطقة ذراع بوشريط، وكانت الحفريات متواجدة بالجانب السفلي للوادي، وقمنا بالإبلاغ عن هذه الحديقة. لكن صاحب المشروع لم ينصع للمطالبات بوقف أعماله كما أن السلطات لم تتحرك ودفنت الحفريات، حسب بوزيد.

وهو ما أكده البروفيسور محمد سحنوني، الذي اعتبر "أن زحف الأسمنت هو العدو الأول للاستكشافات الأثرية بمنطقة عين لحنش وذراع بوشريط، وطالب المسؤولين بضرورة التحرك لمنع البناء على حساب التاريخ".

ولعل زيارة وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي للمنطقة تسهم في وقف الزحف العمراني الذي يهدد بطمس تاريخ المنطقة.

علامات:
تحميل المزيد