على جبل آثوس أديرةٌ لا يعكر صفوها سوى السياح.. ومحاولات بوتين الدائمة للسيطرة بالمال والرجال

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/28 الساعة 05:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/28 الساعة 05:27 بتوقيت غرينتش

يحاول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استعادة مجد القياصرة في مجتمع مسيحي قديم يعيش بجبل آثوس اليوناني في شبه عزلة. يرسل تبرعات بالملايين ورجال دين يدينون بالولاء للكنيسة الأرثوذكسية الروسية لاستمالة المرجعية الدينية التي تضم في رعيتها 300 مليون شخص.

لهذه الكنيسة طقوس وعادات قديمة يعود عمرها لأكثر من 1000 سنة. وتمثل أديرتها المنتشرة في جبل آثوس القلب الروحي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.

في دير كسينوفوندس بشبه جزيرة كالسيدس شمال اليونان على سبيل المثال، تصطف جماجم على 5 أرففٍ خشبية يعود تاريخها إلى مئات السنين. تحمل جباهها أسماء أصحابها المُتوفِّين حديثاً.

من بينها على سبيل المثال، الراهب ثيولوثيليس (91 عاماً)، 26 يونيو/حزيران 1986، والراهب كيبريانوس (100 عام)، 14 أغسطس/آب 1987.

وتحمل إحدى الجماجم المعروضة رسالةً فلسفية إلى حدٍ كبير، تقول: "يا أخي، انظر إلى عظمة الإنسان".

"إذا تذكرت الموت كل يوم، فسيمنعك ذلك من فعل الشر"

وتُلخِّص تلك الدعوة إلى التأمل في سبب استخراج جثث الموتى وعرض عظامها، وذلك كما أوضح الأب جيروم البالغ من العمر 50 عاماً.  

كان الأب جيروم يرتدي ثوباً رمادياً باهت اللون، ولديه لحيةٌ طويلة كثيفة لونها خليطٌ بين الأسود والأبيض.

وقال جيروم لصحيفة  The New York Times: "أنت حيٌّ الآن، لكنَّك قد لا تكون كذلك غداً. إذا تذكرت الموت كل يوم، فسيمنعك ذلك من فعل الشر".

وفي حين يؤكد عرض الجماجم فناء الإنسان، فإنَّ الأديرة العشرين ومجموعة المساكن الأصغر حجماً الواقعة على جبل آثوس تبدو أبدية.

إذ كان الرهبان ينشدون الترانيم المسيحية هنا يومياً على مرِّ قرون.

مجتمع مسيحي قديم يعيش بجبل آثوس اليوناني ويتمتع بحكم ذاتي

عثر أبوت أليكسيوس (79 عاما)، على دير كسينوفوندس مُنهاراً عندما وصل إليه في عام 1976، ثم قاد عملية إعادة بنائه منذ ذلك الحين.

يقول: "إنَّه مجتمع قديم، نُظّم على النحو الذي هو عليه الآن منذ أكثر من 1000 عام. الكنيسة لها تقاليدها، لكن جبل آثوس أسمى كثيراً".

لا توجد هنا فنادق ولا حانات ولا متاجر، وممنوع دخول النساء

تكاد تكون شبه جزيرة كالسيدس منتجعاً سياحياً يونانياً آخر.

تتميز بمسطحات مليئة بأحجار الزبرجد الكريمة والتلال المغطاة بأشجار الصنوبر.

يتبوأها جبل آثوس، الذي يبلغ ارتفاع قمته 6670 قدماً (2000 كيلومترٍ تقريباً).

ويحتل أقصى شرقي النتؤات الثلاثة لشبه الجزيرة التي تبلغ مساحتها نحو 130 ميلاً مربعاً (336.7 كيلومتر مربع).

لكنَّ الدولة الرهبانية التي تضم الجبل المقدس وتتمتع بالحكم الذاتي تُمثِّل حالياً مكاناً مستقلاً منعزلاً.

وطوال فترة مكوث الرهبان هنا، تُمنَع النساء من دخول تلك المنطقة؛ إذ يُنظر إليهن باعتبارهن مصدر إلهاء وتنافس غير لائق مع السيدة مريم العذراء.

ولا توجد هنا فنادق ولا حانات ولا متاجر ولا تلفاز ولا سباحة، بالإضافة إلى نظام حصص يومية يُقيِّد أعداد الزائرين.

والوصول إليه عبر القوارب فقط ليبقى بمنأى عن العالم

جبل أثوس
جبل أثوس

يصل المسافرون على متن القوارب، التي تعد طريقة الوصول العامة الوحيدة لشبه الجزيرة اليونانية.

وتستضيف الأديرة مجتمعةً متوسط 1200 شخص كل ليلة، وكل ذلك بلا رسوم.

وبدا أنَّ هذا الوصول الصعب وجدران الدير العالية، التي بُنيت في السابق ضد القراصنة المُغيرين، كانا يهدفان إلى الحفاظ على هوية المكان بمنأى عن العالم الخارجي.

ومع ذلك، يتسلل العالم الحديث الآن عبر إشارات الهاتف المحمول واتصالات الإنترنت.

لكن بوتين مهتم جداً بشبه الجزيرة وتاريخها

بوتين يزور جبل آثوس العام 2016/ Reuters
بوتين يزور جبل آثوس العام 2016/ Reuters

وقد تسللت أيضاً العوامل الجيوسياسية إلى المكان؛ إذ رفضت اليونان الصيف الماضي منح عددٍ من كبار مسؤولي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المتوجهين إلى آثوس -الذي أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اهتماماً شديداً به- تأشيرات.

ويخشى المسؤولون اليونانيون من أي إحياء للجهود التي بذلتها روسيا القيصرية قبل الثورة للسيطرة على شبه الجزيرة.

وسكانها يعتزّون بإرث الإمبراطورية البيزنطية وهيمنة الثقافة اليونانية

إذ يحمل آثوس مكانةً خاصة في نفوس اليونانيين، باعتباره ارتداداً إلى عصرٍ أسهمت فيه قوة الإمبراطورية البيزنطية في هيمنة الثقافة اليونانية على شرق البحر الأبيض المتوسط.

وكان بعض الرهبان يعيشون هنا منذ القرن السادس أو ما يقارب ذلك.

ويُعد جبل آثوس أشبه بمستودع الحضارة البيزنطية، حيث ما زالت بعض الأديرة متمسكةً بالتقويم اليولياني، الذي يتأخر 13 يوماً عن التقويم الغريغوري الأكثر شيوعاً.

وقال الأب جيريميا (48 عاماً)، من مدينة سان أنجيلو بولاية تكساس الأميركية، والذي تحوَّل من الطائفة البروتستانتية وجاء إلى دير كسينوفوندس منذ 22 عاماً وعاش هناك منذ ذلك الحين: "نحن نحافظ على الإمبراطورية البيزنطية؛ لأنها كنز الأرثوذكسية، ليس لأنَّ هذا أثرٌ مُقدَّس باقٍ من دولة علمانية. هذا ليس متحفاً؛ بل مكان للعيش".

يصلّون في الليل لتهرب الأرواح الشريرة

تحكم نصوصٌ دينية قديمة إيقاع الحياة اليومية لما يقرب من 2000 راهب في آثوس، وتُحدد كل شيء بدءاً من الطقوس الدينية إلى النظام الغذائي.

ويقضي الرهبان، ومعظمهم يونانيون، نحو 6 ساعات في الكنيسة يومياً.

إذ يستيقظون بعد 6 ساعات من غروب الشمس من أجل صلوات الصباح، ويكون نداء الدعوة إلى الصلاة عن طريق راهب يقرع ناقوساً -يتمثَّل في مطرقة خشبية على لوحٍ خشبي- مردداً الطريقة التي قيل إنَّ نبي الله نوح قد دعا بها جميع الكائنات الحية إلى الفلك.

ثم يتجول أشخاصٌ غامضون فوق الأرضيات الحجرية غير المتساوية، مرتدين لباس الرهبان الطويل الفضفاض الذي يغطي رؤوسهم.

وتُعتبر الصلاة فعَّالةً جداً في أثناء الظلام تحديداً؛ إذ قال الأب داماسكينوس (33 عاماً)، الذي يعود إلى وطنه فنلندا بانتظام ليعمل أستاذاً في علم اللاهوت، وهذا شيءٌ غير معتاد في آثوس: "الأرواح الشريرة تتجول في أثناء الليل؛ لذا يجب أن يبقى شخصٌ ما مستيقظاً ليراقب".

يبدأون صباحهم بالعدس والزيتون والصلاة ثم يعملون ويرسمون طوال النهار

هناك وجبتان فقط يومياً. وتتألف إحدى قوائم الطعام من العدس المهروس والطماطم والزيتون والفاكهة والماء أو النبيذ الأحمر. وتكون هذه الوجبة الصباحية في تمام الساعة التاسعة والنصف صباحاً.

وقال الأب جيريميا: "نحن نأكل بسرعة"؛ إذ يستغرق الانتهاء من الوجبة النموذجية 15 دقيقة. ويقرأ أحد الرهبان الصلوات والأدعية، ويُسكَت أي زائرٍ يحاول التحدث.

وبعد وجبة الصباح، يعمل الرهبان -في أعمال البستنة والطبخ ورسم وطلاء اللوحات- حتى يحين وقت صلاة المساء قبل غروب الشمس، ثم يتناولون وجبة العشاء ويذهبون إلى النوم. وحتى في أثناء العمل، يردد معظم الرهبان الأدعية والصلوات؛ إذ تتحرك شفاههم باستمرارٍ بصلاة "أيها الرب يسوع المسيح، ارحمني".

ويُلخص بعض الرهبان حياتهم غالباً في عباراتٍ بليغة مختزلة؛ إذ قال أبوت أليكسيوس عن حياة الراهب: "إنَّه سعيد لأنه لا يمتلك شيئاً، لكنَّه يملك كل شيء".

لكن العالم المادي وحبّ الربح تسللا داخل هذا المجتمع الرهباني

ومع ذلك، يبدو أنَّ سمات العالم المادي وحب المال والجشع قد تسللت إلى هذا العالم الروحي.

إذ تبيع بعض الأديرة منتجاتها الخاصة، ومن ضمنها النبيذ وزيت الزيتون وشاي الأعشاب وحتى كريمات الجسم.

ويبيع متجر الهدايا في دير فاتوبيدي منتجاتٍ بأكثر من 17 ألف دولار.

وأصبحت سيارات الدفع الرباعي باهظة الثمن تنقل الآن الزوار الأثرياء على طول الطرق الترابية التي كانت تقتصر على مرور الحمير ورحلات الحجيج.

يعتمدون على العمال القادمين من مصر وألبانيا لبيع منتجات بآلاف الدولارات

ويشيد دير كسينوفوندس "Holy Monastery of Xenopho" بمتجر الأشغال الخشبية الخاص به.

 لكنَّ العمل الشاق على عاتق عُمَّالٍ جُلِبوا من ألبانيا ومصر.

يشكو بعض الرهبان من تزايد أعداد الزائرين، الأمر الذي يؤثر سلباً على حالة الزهد للعبادة والطقوس الروحية.

وقد أعرب بعض الحجاج عن استيائهم من ذلك أيضاً.

وبعض الأديرة ناشطة تجارياً أكثر من نشاطها روحياً

قال ميخائيل ميروسنيكوف، وهو حاج روسي في منتصف ​​العمر يأتي مرتين سنوياً لإجراء مناقشات روحية مع الرهبان: "ألتزم بالتقاليد القديمة وأنا ضد كل هذه الطرق، مثل سيارات الدفع الرباعي هذه. بعض الأديرة هنا أصبحت على نحوٍ متزايد مكاناً للأنشطة التجارية وليس الروحية".

وتحوم رافعات البناء فوق العديد من الأديرة؛ إذ خضعت جميع هذه المباني تقريباً لإعادة بناء موسَّعة، باستثناء عدد قليلٍ منها.

استعانت بأموال الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على المباني الأثرية التاريخية.

روسيا تنوي ضخ 30 مليون دولار لإعادة الترميم

وقال مسؤولون بارزون في الحكومة والكنيسة إنَّ روسيا تعتزم إنفاق 30 مليون دولار لترميم دير القديس بانتيليمون الروسي الجليل وتجديده.

وقد يكون حجم الإنفاق العام والخاص على آثوس منذ عام 2005 قد بلغ 200 مليون دولار، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، أيَّده العديد من المانحين والخبراء.

وذلك لاستعادة أمجاد القياصرة الذين سيطروا يوماً على جبل آثوس

وعندما زار بوتين آثوس آخر مرة في عام 2016، ذكرت الصحافة الروسية بحماسة، أنَّه عومل كإمبراطور بيزنطي.

ووجد بعض المسؤولين الحكوميين والكنسيين اليونانيين ذلك التشبيه مثيراً للقلق.

جديرٌ بالذكر أنَّ روسيا القيصرية نفَّذت حيلةً للسيطرة على آثوس في عام 1913 تقريباً؛ إذ أغرقته بعدة آلاف من الرهبان وأصرت على أن يصبح مستقلة.

وبالفعل، انتهى الأمر بجبل آثوس جزءاً مستقلاً من اليونان.

ثم تضاءل الاهتمام الروسي بعد ثورة عام 1917، لكن عمليات نشر النفوذ الأخيرة أثارت قلق العاصمة اليونانية أثينا إزاء جهودٍ روسية متجددة من أجل الهيمنة.

تشهد الأديرة حرباً إعلامية بين الرهبان الروس والآخرين

فعلى سبيل المثال، وُزِّعَت نسخٌ مجانية من صحف متشدِّدة في دير فاتوبيدي تمدح الأرثوذكسية الروسية، في حين تنتقد بشدة، بارثولوميو الأول، بطريرك القسطنطينية الذي يخضع جبل آثوس روحياً لسلطته، وتصفه بأنَّه عميلٌ عدو.

جدير بالذكر أنَّ البطريرك، الذي يُعَد "أول النظراء" في  إدارة شؤون الكنيسة، يخوض معركة مع موسكو حول إنشاء كنيسة مستقلة بأوكرانيا، وفق ما نشرته صحيفة The New York Times.

وتحدّي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد يعني توقف مدد الملايين القادمة من الشرق

ومن جانبها، حظرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، الإثنين 15 أكتوبر/تشرين الأول 2018، على رعاياها المناولة في الكنائس الخاضعة لإشراف البطريرك بارثولوميو، وضمن ذلك جميع الكنائس الموجودة على جبل آثوس.

لكن، لم يتضح كيف سيؤثر ذلك في توافد الحجاج أو التبرعات.

يميل الرهبان والحجاج إلى تجاهل القضايا السياسية، قائلين إنَّهم أتوا إلى آثوس من أجل الدعم الروحاني والقدسية المتأصلة في هذا المكان المُكرَّس للعبادة.

وقال الأب داماسكينوس في دير كسينوفوندس: "المكان هنا يجمع بين القدسية التاريخية متمثلةً في الآثار والرموز الدينية، والقدسية الحياتية متمثلةً في الرهبنة".

أما رئيس تحرير موقع Orthodoxia.info، وهو موقع إلكتروني بأثينا متخصص في شؤون الكنيسة، أندرياس دي لوداروس، فيقول: "روسيا لا تقول للآخرين إنني الأفضل لأنني نقلت اللاهوت من النقطة أ إلى النقطة ب. ولا تقول للآخرين إنني سأقوم بتوحيد المسيحيين. موسكو تقول فقط إن لديَّ أكثر عدد من المؤمنين؛ لذلك يجب أن أحكم".

تحميل المزيد