«هجمات العقاب» نزاع الهيمنة في أيرلندا.. عنف الميليشيات يستمر في إرهاب المجتمع رغم انتهاء الصراع الطائفي

بعد مرور عقدين على توقيع اتفاق بلفاست، الذي أنهى الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت، كنموذج لإنهاء النزاعات الأهلية، لا زال هناك نوعٌ مختلف من العنف

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/28 الساعة 13:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/28 الساعة 13:20 بتوقيت غرينتش
KELVIN BOYES PHOTOGRAPHY - BELFAST - NORTHERN IRELAND - 24 MAY 2003 - Members of the Ulster Freedom Fighters South Belfast Brigade pictured in the Taughmonagh area of Belfast. Picture by Kelvin Boyes.

قالت: "علينا الذهاب يا بني".

نزل الشابُّ على السلمَ مهرولاً، وركب السيارة. قادت أمه السيارة في صمت، وعيناها ممتلئتان بالدموع. ثم توقفت بالقرب من موقف للسيارات، وقالت: "أنا أحبك".

لم يبدِ الشاب أي رد فعل. دفع باب السيارة وسار نحو موقف السيارات، خلف بعض المباني المنخفضة. صار يتنفس بسرعة، وبشكلٍ غير منتظم، وبدا عليه القلق. ثم اقترب منه رجالٌ مقنعون.

انتهى الأمر في ثوانٍ. دوّى صوت فرقعة، وصراخ. وقال صوتٌ: "مرةً أخرى!". ثم صوت فرقعة، وصراخ آخر. رقد الشاب ينتحب على الإسفلت، إذ أصابت الرصاصات ساقه.

هذه قصة خيالية. وهذا الشاب شخصية مجهولة في إعلانٍ عنيف وصادم تذيعه السلطات. لكنَّه يتحدث عن نزعةٍ قديمة، بدأت في النمو بخبث مجدداً في أيرلندا الشمالية. فبعد مرور عقدين على توقيع اتفاق الجمعة العظيمة (اتفاق بلفاست)، الذي أنهى رسمياً الصراع الطائفي الطويل بين الكاثوليك والبروتستانت، وبدا أنَّه قدم نموذجاً لإنهاء النزاعات الأهلية حول العالم، لا زال هناك نوعٌ مختلف من العنف في مجتمعات الطبقة العاملة.

وقد حذرت الشرطة من أنَّه لن ينتهي قريباً.

قوات شبه عسكرية أو "إرهابيون"

وفي حديثه لموقع The Atlantic الأميركي، قال أنتوني هاربينسون، المسؤول عن أمن المجتمعات بوزارة العدل في أيرلندا الشمالية: "نحن نسميهم قوات شبه عسكرية. لكنَّ الكثيرين منهم في الماضي كانوا سيوصفون بالإرهابيين".

المهاجمون هم بالأساس أفراد عصابات يفرضون بالقوة تصورهم الخاص عن العدالة في المجتمعات التي لا ترحب بأجهزة إنفاذ القانون أو تخشى تلك الأجهزة التدخل فيها. وفي بعض الأحيان، تدعي تلك العصابات أنَّها تُقوِّم "السلوك المُعادي للمجتمع"، مثل تجارة المخدرات، لكنَّ هاربينسون قال إنَّ أفراد العصابات هؤلاء غالباً يتاجرون في المخدرات أو يشاركون في تنظيماتٍ عصابية أخرى ويحاولون حماية مناطقهم.

الصراع ليس طائفياً هذه المرة

وبعكس العنف الذي اتسم به الصراع السابق الذي عُرف باسم The Troubles أو الاضطرابات، والذي كان أعضاء الطوائف الدينية المختلفة فيه يهاجمون بعضهم البعض في صراعٍ حول السيطرة البريطانية على أيرلندا الشمالية، هذه المرة يستهدف المعتدون أعضاء المجتمعات التي يعيشون بها.

قال هاربينسون: "الأمر ليس طائفياً البتة. هذه المرة الكاثوليكيين يهاجمون كاثوليكيين، والبروتستانت يهاجمون البروتستانت. إنَّه صراع على الهيمنة داخل مجتمعاتهم الخاصة".

معاناة أيرلندا الشمالية من الميليشيات توضح مدى صعوبة إنهاء أي حرب، حتى في ظل اتفاق سلام ناجح. يمثل اتفاق "الجمعة العظيمة" لكثيرٍ من النزاعات حول العالم أفضل سيناريو لتشارك السلطة ونزع السلاح. لكنَّ العنف المستمر داخل أيرلندا الشمالية يُظهر أيضاً كيف يمكن أن تستمر التشوّهات المجتمعية والصدمات التي يسببها الصراع طويل الأمد في تمزيق المجتمعات، تاركةً إياها في حالة لا يمكن فعلياً تسميتها الحرب، لكنَّها أبعد ما تكون عن السلام الحقيقي.

الصراع ليس طائفياً هذه المرة
الصراع ليس طائفياً هذه المرة

الهدف ليس القتل بل العقاب

تتضمن الهجمات إطلاق النار على الكاحلين أو الكوعين أو الركبتين (وأحياناً تشمل الأماكن الست بحسب هاربينسون)، والضرب باستخدام المطارق أو الهراوات. والهدف ليس القتل، لكنَّ بعض تلك الاعتداءات ينتج عنها ضحايا. وفي كثيرٍ من الأحيان، يعرف الضحايا المعتدين شخصياً؛ لأنَّهم ينحدرون جميعاً من نفس المجتمعات المترابطة. وغالباً، كما يصور الإعلان الجديد، يظهر الضحايا بأنفسهم، أو يأخذهم أهلهم، في موعدٍ لكي يُضربوا أو يُطلق عليهم النار، مخافة حدوث ما هو أسوأ.

تقول شرطة أيرلندا الشمالية إنَّ ما يُسمى "هجمات العقاب" هذه قد ازدادت بشكلٍ ملحوظ عما كانت عليه منذ 5 سنوات. لكن تكمن جذورها في الديناميات الأعمق للنزاع، الذي لم ينتهِ إلى حدٍ كبير، بل تحول إلى نطاقٍ آخر.

الاضطرابات السابقة تمثل قاعدة لما يحدث الآن

قضى العنف الناتج عن الاضطرابات السابقة على حوالي 3600 شخص على مدار 30 عاماً. لكن سرعان ما تراجع العنف الطائفي في أرجاء البلاد بعد توقيع اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998، والذي نصت بنوده على تشكيل حكومة موحدة ونزع السلاح عن الميليشيات. حتى في تلك الأثناء، وبالرغم من ذلك، كان هناك دليل على وجود مشكلة أساسية لم تُحل.

قضى العنف الناتج عن الاضطرابات السابقة على حوالي 3600 شخص
قضى العنف الناتج عن الاضطرابات السابقة على حوالي 3600 شخص

وكتبت صحيفة The Economist البريطانية عام 1999 بعد عامٍ من توقيع الاتفاق: "يا له من سلام مضحك! ذلك الذي يُشوَّه فيه الناس بشكلٍ منتظم ويُبعَدون عن منازلهم على يد الميليشيات". لم تُذكر هجمات العقاب في الاتفاقات، إذ لم تكن تمثل ذلك النوع من العنف بين الكاثوليك والبروتستانت الذي كان من المفترض أن يوقفه اتفاق السلام.

لكنَّ هذه الظاهرة تطورت في فترة الاضطرابات السابقة، لأسبابٍ مختلفة داخل كل مجتمع، كما تشرح رايتشل موناغان، محاضرة علم الجريمة في جامعة أوليستر الأيرلندية، التي درست العنف داخل الطوائف في أيرلندا الشمالية. وبالنسبة للجماعات الجمهورية من الكاثوليكيين التي سعت إلى الاستقلال عن السيطرة البريطانية، تشكلت الميليشيات لمقاومة الشرطة أو الدفاع عن المجتمع ضدها. أما في المناطق الموالية للبروتستانت، فقد تشكلت الميليشيات لتقديم الدعم للسلطات.

ضد المجتمع نفسه

واستمرت هذه الظاهرة حتى بعد انتهاء فترة الاضطرابات الماضية. إذ سجَّل هذا العام أحد الباحثين في مجلس شرطة أيرلندا الشمالية 158 حالة وفاة في حوادث "مرتبطة بالأمن" خلال السنوات العشرين الماضية منذ توقيع اتفاق الجمعة العظيمة، معظمها بسبب مثل هذه الأنشطة العصابية. لا تقترب تلك الأرقام بأي حال من الأرقام في أسوأ أعوام الحرب الأهلية، لكنَّ الباحث بول نولان أخبر هيئة الإذاعة البريطانية BBC بأنَّه وجد ذلك صادماً.

قال نولان للهيئة: "أصبح متجهاً نحو المجتمع نفسه وليس بين المجتمعات".

ربما توحي هذه الأرقام بقلة انتشار نشاط الميليشيات، وهذه ليست الحقيقة؛ لأنَّ العديد من هجمات العقاب يأخذ شكل الضرب أو إطلاق الرصاص في مواضع غير مميتة، إذ صُمِّمَت للتخويف وليس القتل. وفي عام 2001، في ذروة هذه الهجمات ما بعد اتفاق الجمعة العظيمة، سجلت الشرطة وقوع  323 ضحية مرتبطة بنشاط الميليشيات،. لكن نظراً لعدم ثقة معظم المجتمعات المتضررة بالشرطة، قد يكون هذا أيضاً رقماً ضئيلاً جداً ولا يعبر عن الواقع.

ولا زال العنف مستمراً
ولا زال العنف مستمراً

تشير الكثير من الإحصائيات الحديثة إلى أنَّ عدد الضحايا يقترب من 90 ضحية سنوياً خلال العامين الماضيين، مقارنةً بأقل مستويات العنف ما بعد اتفاق الجمعة العظيمة، والذي بلغ فيه عدد الضحايا 50 ضحية فقط منذ عقد. لكنَّ غياب أنواعٍ أخرى من العنف السياسي يسلط الضوء على هذه الأرقام بالأخص بحسب رايتشل.

ولا زال الأمر مستمراً، رغم أنَّ المجتمعات يمكنها التعرف على المعتدين. إذ تتذكر برينا بويل، المحاضرة في كلية الحقوق بجامعة ستانفورد الأميركية والتي تبحث في عملية السلام في أيرلندا الشمالية، لقاء فتى مراهق كان قد استُهدف عدة مرات باستخدام بندقية مسامير، لدرجة أدت إلى تشوّه يديه. وقالت برينا إنَّه في كل مرة كان يتعرض للاعتداء، كان يعرف تماماً من ينفذ الهجوم. لكنَّ الهجمات لم تتوقف، لأنَّه لم يكن لديه مكان آخر ليذهب إليه.

وأشارت برينا إلى ارتفاع معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات الناتجة بسبب صدمات الهجمات. وقالت: "هل يختفي هذا النوع من العنف في غياب التقدم في جميع الجبهات الأخرى؟ لا أعتقد ذلك".

علامات:
تحميل المزيد