ماذا يحدث لو قشرنا الطبقة الأولى من اللوحات الفنية المشهور؟ ستظهر لنا أجساد ميتة تكشف نية الرسام الحقيقية

ابتكر مشروع يُدعى "داخل بروغل" تقنيةً جديدة في التصوير، تمنحنا الفرصة للنظر في هذه التفاصيل عن طريق السماح لنا بفصل طبقات اللوحة عن بعضها

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/27 الساعة 12:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/27 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
لوحة المعركة بين المهرجان والصيام الكبير

ماذا سيحدث لو أزلت تحفة فنية شهيرة رسمها أحد الرسامين التاريخيين العظماء؟

قد تظهر فجأة أجساد ميتة.

لنأخذ كمثال لوحة بيتر بروغل الأكبر التي تعرض مشهداً واسعاً لأحد المهرجانات، وهي لوحة The Battle Between Carnival and Lent أو "المعركة بين المهرجان والصيام الكبير"، التي رسمها في عام 1559.

إذا نظرنا إلى رسمتها المبدئية الأولى، باستخدام التصوير بالأشعة السينية، يمكننا أن نرى جثةً داخل عربة تجرها من الأمام امرأة عجوز. ثم سنرى جسد ميت آخر ملقى على الأرض، وجهه متجه نحو من ينظر إلى اللوحة، ويفترش الأرض على مقربة من طفلٍ مريض.  

لكن إذا نظرنا إلى الشكل النهائي للوحة، الشكل الذي نراه بأعيننا المجردة، فلن نجد هذه العناصر المروعة موجودة. الجثة التي كانت في العربة انمحت بلونٍ بني، والجثة الملقاة على الأرض كُفنت بقماشٍ أبيض. متى وكيف اختفى كل هؤلاء الميتين؟

تقنية جديدة تكشف نية الرسام

ابتكر مشروع يُدعى "داخل بروغل" تقنيةً جديدة في التصوير، تمنحنا الفرصة للنظر في هذه التفاصيل عن طريق السماح لنا بفصل طبقات اللوحة عن بعضها. طُور المشروع بالتنسيق مع متحف تاريخ الفن في فيينا، من أجل معرض "بروغل" الأول من نوعه، والذي يعرض 87 عملاً من أعمال الرسام، ,ينتهي يوم 13 يناير/كانون الثاني عام 2019.

وعن تقنية التصوير قال رون سبرونك، أستاذ تاريخ الفن في جامعة كوين بكندا وأحد أمناء المعرض الأربعة لصحيفة The New York Times الأميركية: "إنَّه إنجازٌ ضخم، إذا كنت تريد أن ترى بروغل. يمكنك حقاً أن ترى العملية الإبداعية. يمكنك تتبع الفنان في كيفية اتخاذه للقرارات".

باستخدام التصوير بالأشعة السينية، يمكننا أن نرى جثةً داخل عربة تجرها من الأمام امرأة عجوز
باستخدام التصوير بالأشعة السينية، يمكننا أن نرى جثةً داخل عربة تجرها من الأمام امرأة عجوز

من هو بيتر بروغل؟

كان بروغل أحد الرسامين الرواد في في عصر النهضة الشمالية الأوروبية، وعُرف بأعماله "برج بابل"، و "زفاف الفلاحين"، و"انتصار الموت". خلق بروغل عوالم فوضوية دقيقة التفاصيل. سخر فيها من رموزٍ دينية، و ازدرى الورع، وقدم الموت والخراب بتفصيلٍ واقعي مدهش، ورفع الفلاحين إلى أدوارٍ مركزية.

لقد أرانا عالم العامة المضحك والعنيف والقبيح في بعض الأحيان في وقتٍ كانت محاكم التفتيش الأسبانية تمسح فيه أوروبا في القرن السادس عشر.  

طبقاً لقصة حياته التي كتبها كاريل فان ماندر، طلب بروغل من زوجته وهو على فراش الموت أن تحرق لوحاته؛ خوفاً من "أنَّها كانت لاذعة للغاية أو ساخرة، إما لأنَّه كان يشعر بالأسف"، أو لأنَّها قد تتورط في مشاكل مع السلطات. هل كان خائفاً من العقاب لأنَّ لوحاته كانت هدَّامة للغاية؟

انتقاد الحكومة كان يقلقه

يقول سبرونك: "أحد الأشياء التي يتجادل حولها المؤرخون الفنيون بجديةٍ كبيرة هي إلى أي درجة وصل انتقاد بروغل للحكومة في أيامه. هذا النوع من الأسئلة ما زال مطروحاً اليوم".

أدخل بروغل بنفسه تعديلاتٍ على تركيباته الخاصة، وهذه من شأنها أن تعطينا تلميحاتٍ عن نظرته للأمور. مثله مثل الفنانين الآخرين من عمالقة القرن السادس عشر، بنى بروغل لوحاته بعنايةٍ ودقة على ألواح خشبية، طبقةً تلو طبقة. بدأ بسطحٍ تأسيسي فاتح اللون، يُعرف باسم الأرضية، مكونة من الطباشير والغراء الحيواني، ثم يرسم عليه تكوينه الخاص. ولاحقاً كان يرسم باستخدام الزيوت.

أزال الصليب ورسم سمكة

في منتصف الطبقة الأمامية للوحة "المعركة بين المهرجان والصيام الكبير"، نرى مرتادي المهرجان يحتفلون على أحد جوانب اللوحة، ووعاظ الصيام الكبير يراقبونهم على الجانب الآخر. والجانبان منخرطان في ما يشبه مباراةً للتبارز. فهناك رجل سمين ذو جسدٍ مستدير يمسك بخنزير على عصا، ويواجه واحداً من التائبين الزهاد يحمل عصا خباز وعليها سمكتين.

لكن إذا التقطنا صورة لهذه اللوحة بالأشعة تحت الحمراء، فإنَّنا سنرى أن بروغل كان قد رسم صليباً -أحد رموز الكنيسة- بدلاً من هاتين السمكتين. ثم أزال الصليب بعد ذلك وأضاف السمك، وهو أحد الأطعمة التقليدية التي تُقدم في مهرجان الصيام الكبير. لكنَّ السمك أيضاً يرمز للمسيح، لذا من الممكن أن تكون إشارةً أبلغ للكنيسة.

يقول سبرونك: "نحن لا نعرف" أيها يقصد. وأضاف: "قد يُفسَّر هذا بطرق عدة مختلفة".

إذا التقطنا صورة بالأشعة تحت الحمراء، سنرى أن بروغل رسم صليباًبدلاً من السمكتين
إذا التقطنا صورة بالأشعة تحت الحمراء، سنرى أن بروغل رسم صليباًبدلاً من السمكتين

أحدهم أزال الجثث

وبالنسبة للجثث المرسومة باللوحة، قالت سابين بينوت القيِّمة على اللوحات الهولندية والألمانية في المتحف وأحد القيمين على المعرض إنَّ بروغل لم يُجرِ تلك التغييرات بنفسه، وإنَّما محى أحدهم الجثة التي في العربة، وغطى الجثة الملقاة على الأرض، رغم أنَّ أحداً لا يعرف من فعل ذلك، ولا متى بالتحديد. لكنَّ بينوت تعتقد أن ذلك جرى في القرن السابع عشر أو الثامن عشر.

وتقول بينوت إنَّه باستخدام أدوات مشروع "داخل بروغل"، بات بإمكاننا أن نرى ما نوى فعله، وكيف استجاب الآخرون لذلك. وتتابع: "ترى قوى بروغل الإبداعية، وفي بعض الحالات ترى ما حدث بعده. ترى طبقة الطلاء حيثُ تجد تلك الأجساد الميتة أو السقيمة، ثم تجد أثر تدخل أحدهم في وقتٍ لاحقٍ ليقلل من تلك الصور الصادمة أو الكئيبة".

انتقاداته لمحاكم التفتيش

تقارن بينوت هذه التغييرات بتلك التي رُصدت سابقاً في لوحة "مذبحة الأبرياء" لبروغل، التي تضمها اليوم المجموعة الملكية البريطانية. (توجد نسخةٌ غير أصليةٍ منها في معرض فيينا، لأنَّ اللوحة رقيقةٌ لدرجةٍ لا تسمح بنقلها).

تصور لوحة "مذبحة الأبرياء" في الأساس واقعة ذبح أطفالٍ، ويعتبرها بعض النقاد واحدةً من أحدِّ انتقادات بروغل للفظائع التي ارتكبتها محاكم التفتيش الإسبانية في هولندا. غير أنَّ بعض من شاهدوا اللوحة ربما شعروا أنَّ العنف الذي تصوره كان أكثر من اللازم. وفي مرحلةٍ معينةٍ من التاريخ في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، تقول بينوت إنَّ أحدهم استبدل كل صور الأطفال في اللوحة بصور حيواناتٍ، وهكذا تبدو الصورة حتى يومنا هذا.

تحت القماش الأبيض توجد بقايا عظمية
تحت القماش الأبيض توجد بقايا عظمية

مبادرة من Getty

وباستخدام موقع InsideBruegel.net يمكن لأي شخصٍ أن يلج إلى 12 لوحةً من متحف فيينا، وأن يقضي الوقت في تكبير تفاصيل كل لوحةٍ. مولت هذه التكنولوجيا في البداية مبادرة Panel Paintings التابعة لمؤسسة Getty، وهي مبادرة مستمرة منذ عقدٍ كاملٍ لتدريب مرممي اللوحات، واستُخدمت هذه التكنولوجيا أيضاً في دراسة لوحات الفنانين الهولنديين المعاصرين لبروغل من أمثال هيرونيموس بوش، وكذلك أعمال فان آيك، وهو رسامٌ  فلمنكيٌ من القرن الخامس عشر معروفٌ بلوحة "تقديس الحمل" بكاتدرائية سانت بافو بمدينة غنت في بلجيكا.

وقالت بينوت: "يمكنك أن تدخل الموقع سواءٌ كنت مبتدئاً أو كنت متخصصاً. إنَّه أداةٌ مهمةٌ جداً لحفظ اللوحات، لكنَّك تستطيع كذلك أن تجد اكتشافك الخاص".

وتقول كذلك إنَّ الباحثين اكتشفوا أنَّ "معظم تلك اللوحات خضعت لتعديلات، سواءٌ بقص أجزاء من اللوحات، أو بإعادة الرسم على أجزاءٍ منها، أو بتغيير بعض التفاصيل، سواءٌ في عصر بروغل أو في وقتٍ لاحقٍ".

وقال سبرونك: "لا يزال هناك الكثير من الجدل حول المعنى، أو بالأحرى حول ما تعنيه طبقات المعاني في اللوحات. السؤال حول ما كان بروغل يحاول نقله لم يُجاب بعد". وأضاف أنَّه لم يكن من الواضح ما إذا كان الرسام عالم أنثروبولوجي سابق لعصره، وقد "أراد أن يرينا صورةً للفلاحين في حياتهم اليومية، يسقطون في المياه، ويتغوطون على العشب" أم أنَّه كان فقط "يحاول إضحاكنا بالأساس".

ويضيف سبرونك: "نحنُ لا نعرف الإجابة. نحن نعرض تلك الصور حتى يقرر الناس بأنفسهم".