الحكواتية الجوَّالون في ديار بكر.. الصوت الحزين الذي حافظ على التاريخ الكردي

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/22 الساعة 15:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/23 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش

سرى صوت مبحوح في أزقة مدينة ديار بكر، ورغم أنه منخفض، إلا أنه كان يُسمع في الأرجاء بنبرته الحزينة، التي حفظت التاريخ الكردي عبر مئات السنين.

مدينة ديار بكر (آمد باللغة الكردية) التي تعد معقل الأكراد في تركيا، تقع على منحدر يطل على ضفاف نهر دجلة الهائج جنوب شرق تركيا.

كان جو المدينة في فصل الصيف شديد الحرارة، والأراضي الريفية المحيطة بها قد احترقت من القيظ وتحولت إلى اللون الأصفر.

كانت أشعة الشمس تسقط على جدران المدينة المبنية بأحجار البازلت الأسود، والتي كانت تمتص حرارتها ثم تعيد إشعاعها من جديد.

تشعر أن المدينة خاوية خلال فترة منتصف النهار في ذروة اشتداد الحرارة، ولكن مع ميل شمس الأصيل في المساء، انطلقت مجموعة من أطفال المدارس في شوارعها المتعرجة يلعبون بكرة قدم مهترئة، حسب ما ورد في تقرير نُشر في موقع شبكة BBC البريطانية.

كان هناك نسوة ارتدين أوشحتهن على رؤوسهن في طريقهن إلى منازلهن، يجذبن عربات تسوق امتلأت بمنتجات السوق الطازجة التي تنوعت ألوانها مثل ألوان قوس قزح.

يتناسب هذا التنوع مع موقع مدينة ديار بكر في منطقة الهلال الخصيب (حوض نهري دجلة والفرات).

البحث عن هذا الصوت الحزين

بعد أن سمعت Rhiannon J Davies مراسلة BBC هذا الصوت الحزين الذي حفظ التاريخ الكردي، سارت وراءه عبر مجاهل الطرقات الضيقة المتعرجة لديار بكر، رغم أنها لم تفهم  شيئاً لأنه يستخدم باللغة الكردية.

تقول المراسلة: "استكشفت ومضات من الحياة من خلال الممرات المقنطرة التي توسطت بنايات بُنيت بالحجارة السوداء، لتلج منها مباشرةً إلى أفنية الدور".

امتزجت صيحات الباعة المتجولين مع نباح الكلاب الشاردة وأبواق السيارات في نمط صوتي غامر في المدينة الحارقة.

وعلى الرغم من كل ذلك، يقطع هذا الصوت الوحيد الحزين كل هذا الصخب، ليحكي قصة الحب والفقد، الأمل واليأس.

تقول المراسلة: "عبرت أخيراً خلال إحدى هذه الممرات المقنطرة إلى "Mala Dengbêjan" (بيت الحكواتية)".

تحولت الأرضية المُبلطة بشكل أنيق لفناء المنزل المشيد منذ قرن من الزمان والذي رُمم على نحو فاتن، إلى مسرحٍ وأكشاكٍ وساحة عرض في الهواء الطلق.

صوت الحكواتية الحزين يسري عبر شوارع ديار بكر/مواقع التواصل الاجتماعي
صوت الحكواتية الحزين يسري عبر شوارع ديار بكر/مواقع التواصل الاجتماعي

تردد صدى الصوت الحزين الذي انبعث من هذا المكان نائحاً على ماضي المدينة المضطرب.

كانت الكراسي مختلفة الأشكال متاحة للزوار في فناء بيت الحكواتية.

في حين جلس في الجزء الخلفي من الفناء حفنة من الرجال في حلقة واسعة، عمّ الشيب رؤوسهم لتقدمهم في العمر، وكويت كسرات الأكمام القصيرة لقمصانهم زاهية اللون ببراعة.

كان من بينهم رجل ممتلئ القوام يرتدي قميصاً مقلماً وقبعة مسطحة، وله شارب كثيف، يحكي قصته تارةً بالكلام وتارة بالغناء الملحمي بدون موسيقى.

وكان يميل إلى الأمام وهو جالس، ويتحرك يميناً ويساراً، متلفتاً بأسلوب بارع لضمان إسماع الجميع حكايته.

كان يرفع يده اليسرى للتأكيد على بعض النقاط، بينما يمسك المسبحة بيمينه، كانت أصابع يمينه تقلب خرز المسبحة تلقائياً. وكان يغني لساعات طوال دون توقف، ودون مراجعة نص مكتوب.

بهذه الحيل الفطرية حفظ الحكواتية الجوالون التاريخ الكردي

مصطلح dengbêj هو لفظٌ كردي يعني الحكواتي المغني.

ملأ صوت الحكواتي المكان بزجل شعري أكثر منه غناء.

إنه يركز على العبارات المميزة من خلال التوقف المؤقت عندها مع بعض الإشارات، وتكرار بعض الكلمات الأخرى.

كان بارعاً بالفعل في استخدام صوته، منوعاً في طبقاته حسب درجة التأثير الدرامي.

الجمهور كان يصغي إليه باهتمام شديد، وكان البعض يرفع يديه إعجاباً أو إيماءً بالتأكيد على النقاط المحكية.

وبهذه الحيل كان الحكاؤون المتجولون سبباً في الحفاظ على المناقب والتاريخ الكردي حياً في الوجدان.

تجمع الناس في البلدات والقرى على مر التاريخ الكردي في البيوت لسماع هذه الأهازيج الملحمية.

غالبية المؤدين من الرجال، على الرغم من وجود بعض المغنيات المشهورات أيضاً.

ربما لا يكون المؤدي متعلماً في معظم الأحيان، لكنهم يحملون في ذاكرتهم مكتبة ضخمة، يجمعون القصص فيها خلال تجوالهم، لإلقائها على مسامع أخرى.

لذا فإنهم يعدون بمثابة مؤرخين شعبيين سجلوا التاريخ الكردي الشعبي على مدار العصور.

فحياة الأكراد الريفية هي التي حفظت هذا الفن

"أعتقد أن هذا الفن قد استمر؛ لأن غالبية الأكراد اعتادوا العيش في المناطق الريفية".

هكذا يقول هانفي باريش، الأكاديمي الكردي من جامعة أبردين، والذي أجرى بحثاً في هذا الشأن.

وجود الاكراد في الريف حافظ على تراثهم/مواقع التواصل الاجتماعي
وجود الاكراد في الريف حافظ على تراثهم/مواقع التواصل الاجتماعي

ويضيف باريش: "كانت التجمعات في بيوت الضيافة، أو في بيت أحد الوجهاء، أو في بيت المؤدي نفسه ممارسة ثقافية شائعة في ليالي الشتاء الطويلة. لقد نشأت في بيت كهذا".

تلك التجمعات التي تُسمى " şevbêrk"، والتي تعني "قضاء أوقات الليل"، وفرت لهؤلاء الحكواتية المغنين الأمان والخصوصية والجمهور الذي يحتاجونه لتقديم فنهم.

والعلاقات الكردية – التركية شهدت تحسناً ملحوظاً.. فها هي لغتهم تدخل المدارس أخيراً

في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، شهدت العلاقات الكردية التركية تحسناً ملحوظاً. فقد سمحت أنقرة عام 2004 باستخدام اللغة الكردية في المحطات الإذاعية للدولة.

وفي عام 2009، أطلق التلفزيون الحكومي قناة ناطقة باللغة الكردية.

وفي عام 2012، سُمح للمدارس بتعليم اللغة الكردية كمادة اختيارية.

والبلدية تحاول في إحياء هذا التقليد 

اُفتتح بيت الحكواتية المغنين عام 2007 في مسعى من البلدية للمساعدة في إحياء هذا التقليد، والاعتراف به كتقليد كردي حصري.

وقد لعب المركز دوراً هاماً في إعادة هذا التقليد إلى أذهان العامة.

البلدية المحلية نشجع هذا الفن/مواقع التواصل الاجتماعي
البلدية المحلية نشجع هذا الفن/مواقع التواصل الاجتماعي

يفتح المركز أبوابه من التاسعة صباحاً إلى السادسة مساءً، من يوم الثلاثاء إلى يوم الأحد من كل أسبوع.

لا توجد في هذا البيت أوقات محددة للأداء، ويُعتبر المكان أيضاً مكاناً للتجمعات ومركزاً ثقافياً.

تقول المراسلة "عندما جلست لمشاهدة الرجل يغني، انخفضت قعقعة أكواب الشاي الساخن في صحونها، وخفت صوت الكلام بين الحضور".

كان استقبال الوافدين الجدد على المكان بمصافحة اليد وقبلتين على الخدين.  

فهم يحكون التاريخ الكردي بما فيه من ملاحم وصراعات.. وتأثيرهم أكبر من الموسيقى  

غالباً ما تركز تلك الأغنيات الملحمية على الحب أو الحرب، والأبطال أو الخونة، والانقسامات والعلاقات بين العشائر الكردية المختلفة، فضلاً عن تعلم الأغاني من معلميهم.

وقد يؤلف الحكاؤون الأغاني الخاصة بهم، ويتميزون بمهاراتهم الغنائية العالية.

إنهم تجسيد حي للتاريخ الكردي الشعبي.

وقال باريش: "تثير أغاني الحكائين العواطف بداخلي بصورة لا تفعلها أي موسيقى أخرى. ربما كان ذلك لأنني استمعت إلى والديّ وهما يغنيانها بشغف كبير".

"وربما لأنني شعرت بتلك العواطف التي تثيرها منذ سن مبكرة. لست متأكداً من السبب، لكنها تفعل ذلك".

ولكنهم يواجهون الآن تحدياً من الهجرة والتليفزيون

لا يزال الحكاؤون في المناطق الريفية في جميع أنحاء المنطقة يؤدون أمام جمهور محدود في بيوت الناس.

ورغم أنهم اكتسبوا الآن شرعية قانونية، فهم يواجهون تحدياً جديداً في منافسة إغواء التلفزيون (على الرغم من أن عدداً من البرامج التليفزيونية يقدم منبراً لهذا الفن).

ولكن قد يكون هناك تحدي أكبر .

وهو نزوح أهالي تلك المناطق إلى المدن التركية الكبرى.

وعلى الرغم من الهجرة الجماعية إلى المراكز الحضرية في تركيا، فإن طرق الحياة التقليدية لا تزال سائدة بالنسبة لأولئك الذين يبقون في القرى.

وهم يتعرفون على التاريخ الكردي غير الرسمي عبر الحكواتية الجوَّالون الذين ينعشون الذاكرة الشعبية.

إن حكاياتهم تطلق مشاعر الألم والحزن في الوقت ذاته

نشأ باران جيتين في إحدى تلك القرى في جبال شرق تركيا، بالقرب من الحدود مع أرمينيا.

قال لمراسلة BBC: "إنه مكان جميل، ولكن الحياة هناك صعبة".

يعيش باران الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، ويعمل في مدينة إسطنبول الآن.

ويوجد نحو ثلاثة ملايين كردي يعيشون في إسطنبول، أي تضم المدينة أكبر عدد من الأكراد في العالم.

تعلم عم جيتين، وهو حكاء، الفن من والده، الذي تعلم بدوره أيضاً من والده قبل ذلك.

الحكواتية يكونون غالباً من كبار السن/مواقع التواصل الاجتماعي
الحكواتية يكونون غالباً من كبار السن/مواقع التواصل الاجتماعي

يعشق جيتين تقاليد الحكّائين، لكنه يعترف بأن صوته ليس جيداً بما يكفي لكي يعتبر واحداً منهم، كما أن أفضل حماة لهذا التقليد يكونون في الغالب أكبر سناً، بعد أن اكتسبوا الخبرة وحفظوا الحكايات المأثورة في التاريخ الكردي.

يقول: "عندما أستمع إلى الحكواتي، أشعر وكأنني أعيش في اللحظة التي يغني عنها. فهي تمثل جميع جوانب الحياة. إذ يمكنك أن تشعر بالأمل والفرح والحزن في آن واحد".

واستخدم الكلمة التركية hüzün (حزن المأخوذة من اللفظة العربية المماثلة) لوصف العاطفة الأخيرة.

إذ إن غياب الحزن هو الذي يولد الألم

لقد كتب المؤلف التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل عن الحزن، واصفاً إياه بأنه شيء أكثر من مجرد شعور بالكآبة.

فهو شعور بالخسارة يعطي حرية لإثارة العواطف لكي تتمكن أيضاً من الإحساس بهذا الشعور.

وقال باموك في كتابه "إسطنبول: الذكريات والمدينة": "إنه غياب الحزن، وليس وجوده، هو الذي يسبب الضيق للمتألم.

"إن الإخفاق في الشعور بالحزن هو الذي يدفعه إلى الشعور به"، حسب الكاتب التركي الشهير.

 تقول مراسلة BBC لقد فقدت الشعور بالوقت وأنا جالسة في بيت الحكائين.

فقد قاد كل حكاء اعتلى المنصة المستمعين خلال رحلة مختلفة في ذكريات التاريخ الكردي.

تقول: "حتى من دون فهم كلمة واحدة، انغمست في الحكايات".

وتضيف: "لأول مرة، فهمت ما يعنيه باموك من خلال وصفه للحزن".

ربما تتسم  السنوات الأخيرة من تاريخ منطقة الشرق الأوسط بالكآبة.

ولكن في الوقت نفسه، هناك أمل. من خلال الاستمرار في إعادة سرد هذه الحكايات، التي تنتقل شفهياً من مُعلم إلى آخر.

علامات:
تحميل المزيد