قتل إسرائيليين على الحدود فقالت الحكومة المصرية إنه مختل عقلي وأعلنت انتحاره بالسجن.. قصّة “المجند البطل”

على تبّة مرتفعة بجنوب سيناء، بدأ كل شيء: سليمان خاطر الشاب المصري البسيط من أصول ريفية يقضي خدمته العسكري في نقطة حراسة مصرية، بمنطقة حدودية مع إسرائيل

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/05 الساعة 15:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/05 الساعة 16:07 بتوقيت غرينتش
سليمان خاطر

في العاصمة المصرية القاهرة تضج الشوارع بالمُظاهرات. كان نفس الحال في مدن وقرى أخرى.

خرج طلبة المدارس والجامعات هاتفين بعدما علموا أنّ سليمان خاطر قد "مات".

اعتقدت الجموع أنه قُتل، بينما اعتمدت الرواية الرسمية  قصة انتحاره.

ملأت الهتافات الشوارع: "المعقول المعقول سليمان خاطر مات مقتول، سليمان خاطر قالها في سيناء.. قال مطالبنا وقال آمانينا، سليمان خاطر مات مقتول.. مات عشان مقدرش يخون".

بينما على الناحية الأخرى كانت الصحف الرسمية تمتلئ بالعناوين التالية: "انتحار سليمان خاطر في مستشفى السجن الحربي"، "الحرس يعثرون عليه مُعلقاً من رقبته بنافذة غرفته"، "تقرير كبير الأطباء الشرعيين: الوفاة بسبب أسفكسيا الشنق"، "انتحار سليمان خاطر في رأي أساتذة علم النفس: أربعة احتمالات لعملية الانتحار"، "الرئيس مبارك يُعلن عن أسفه لانتحار سليمان خاطر".

بينما ظلّ الرأي العام المصري مُقتنعاً بأمرٍ واحد: سليمان خاطر بطل، وقد قُتل مُراضاة لإسرائيل.

قبيل خروج المظاهرات كان سليمان خاطر الذي هتف الطلبة باسمه بعد موته، يقف أمام جهات التحقيق، يسأله المُحقق: لماذا تُصر على تعمير سلاحك دوماً يا سليمان؟ فيرد قائلاً: "لأن اللي يحب سلاحه يحب وطنه.. واللي يهمل سلاحه يهمل وطنه".

عاد المُحقق ليسأله وبماذا تُبرر حفظ رقم سلاحك؟ فأجاب "لأني بحبه زي ما بحب كلمة مصر تمام". هكذا كان رد سليمان خاطر، آخر مُجند أمن مركزي حاصل على مؤهل دراسي عالي، بشأن الإدانة التي وجهها له النظام المصري.

على تبّة مرتفعة بمنطقة رأس برقة بجنوب سيناء، بدأ كل شيء: شابٌ مصريٌ بسيط من أصول ريفية، لكنه ذو مؤهلٍ عالٍ، يقضي خدمته العسكرية مجنداً للأمن المركزي في نقطة حراسة مصرية، بمنطقة حدودية مع إسرائيل.

سليمان محمد عبد الحميد خاطر اسمه الكامل، ولد عام 1961، بقرية أكياد بمركز فاقوس محافظة الشرقية، وهو خريج بكلية الحقوق جامعة الزقازيق.

الحادثة..

في مثل هذا اليوم منذ 33 عاماً، حين بدأ ظلام ليلة 5 أكتوبر 1985م، والتي وقف خلالها سليمان للخدمة، وجد المُجند الشاب مجموعة من الإسرائيليين يصعدون التبة التي يحرسها، كانت الأوامر لدى سليمان ألا يدع أحداً يمر.

"stop..no passing" بهذه الكلمات حاول سليمان أن يوقف المتقدمين، لكنّهم واصلوا تقدّمهم تجاهه.

12 إسرائيلياً يتجهون نحوه، ويصعدون إلى التبة التي يحرسها،

في تلك اللحظة قرر استخدام سلاحه، في البداية بطلقاتٍ تحذيريةٍ في الهواء، وعندما واصلوا تقدمهم وجه سلاحه نحوهم وقام بقتل سبعة من بينهم وأصاب الآخرين.

يقول الكاتب الصحفي ثروت شلبي أنّ مجموعة الإسرائيلين كانت تهدف إلى اختراق النقطة العسكرية التي كان يقف عليها سليمان، بهدف إثبات أنّ هناك أجهزة رصد عسكرية محظور تواجدها وفقاً لاتفاقية كامب ديفيد.

ويُقال أيضاً أن مجموعة الإسرائيلين قد استفزوا مشاعر الجندي الشاب بمشاهد عدائية بأن بصقوا على العلم المصري وتبولوا عليه.

الرد الرسمي: سليمان مختل عقلياً ويحاكم عسكرياً

ثقة سُليمان أن ما فعله هو الصواب جعلته يُسلِّم نفسه متخيلاً أن يتم تكريمه. لكنّ ما حدث هو عكس كل تصوراته، فقد صدر قرار جمهوري بموجب قانون الطوارئ بتحويل المُجند الشاب للمُحاكمة العسكرية، على الرغم من كونه لم يكن جندياً في الجيش، فقد كان جندي أمن مركزي (تابع للشرطة وليس للجيش) وهو ما كان من المُفترض أن يجعله يخضع لمحاكمة مدنية وليست عسكرية.

يرد سليمان على المحقق أثناء التحقيق معه "أومال أنتم قلتم لنا ممنوع ليه؟ ما كنتم قلتم نسيبهم وإحنا نسيبهم؟!".

بعد التحقيقات جاءت الرواية الرسمية لتُعلن أن سليمان مختل عقلياً وأنه يرى هلاوس بصرية، ولديه تُخيلات يعتقد كونها حقيقية، فقد أراد النظام المصري حينها أن يُعلن أن ما فعله سُليمان كان جريمة وأنه قد ارتكبها بدافع اختلاله العقلي.

مُحاكمة عسكرية لسليمان خاطر

وقف سليمان في ساحة المحكمة، بعدما علم من سير التحقيقات أنّ موقفه في القضية ضعيف، وأنّ الحكم لن يكون لصالحه.

طالب المُدعي العام العسكري بإعدام سليمان، ولكنّ المُظاهرات في أنحاء البلاد أدّت لتخفيف الحكم، وفق رواية الكاتب الصحفي ثروت شلبي. ردّ سليمان قائلاً: "أنا لا أخشى الموت، ولا أرهبه، إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سيصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تُصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم".

تم تخفيف الحكم بالأشغال المؤبدة مدة 25 عاماً، ردّ سليمان بعد بالحكم: "إن هذا الحكم هو حكم ضد مصر، لأني جندي مصري أدّى واجبه". التفت إلى الجنود الذين يحرسونه متهكماً "روحوا واحرسوا سيناء، سليمان مش عاوز حراسة".

بعد 9 أيام، في 6 يناير عام 1986م، فوجئ الرأي العام المصري بخبر انتحار سليمان خاطر داخل سجنه. التصريحات الرسمية تعتبر أنّه شنق نفسه بملاءة سريره، بينما أكد إخوته أنّهم زاروه قبل نبأ وفاته بيوم واحد، وقد كان في حالةٍ نفسية جيدة، ولديه أمل أن تتم تبرئته رغم كل ما حدث.

كما طلب منهم معجون أسنان وكتب قانون في الزيارة القادمة. ورفضوا بشدة رواية انتحاره، مؤكدين أنّ نفسية سليمان الذي كانوا يجلسون معه قبل إعلان وفاته بساعات وطريقة حديثه إليهم لم تكن مُعبرة عن شخص مُقدم على الانتحار.

الصحفي ثروت شلبي قال إن هناك مُراسلات بينه وبين سليمان خاطر عبر أخيه وزوج أخته، أخبره سليمان في أحد مُراسلاته أنه يعلم أنه سيتم اغتياله ترضيةً لإسرائيل، وأنه يخشى أن يقتل اغتياله الروح المعنوية لدى زملائه من الجنود.

دفن سليمان في بلدته على أمل أن تنتهي قصته، لكنّ ذكراه يتم إحياؤها كل عام.

وجهة نظر أخرى

في 29 ديسمبر عام 1985م، نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالاً للكاتب كريستوفر ديكي حول سليمان خاطر، من زاويته يرى ديكي الأمر من منظورٍ مُختلف تماماً، حيث يرى ديكي أنّ سليمان تسبَّب في مقتل مجموعة من الإسرائيليين هم 4 أطفال وإمرأتان، وأنّ الحادثة أصبحت نقطة خلاف بين مصر وإسرائيل، فقد طلبت إسرائيل عقوبة سريعة ومناسبة لسليمان خاطر، "القاتل المدان"، كان النظام المصري تحت ضغط كبير، حيث أصبحت الحادثة قضية سياسية ساخنة في مصر، فقد أُعلنت المظاهرات الطلابية، ووقفت الصحافة المعارضة في موقف داعم للمدعى عليه البالغ من العمر 24 عاماً واتهمت الرئيس حينها حسني مبارك بالانحناء للضغط الإسرائيلي في تعامله مع المحاكمة.

ينقل المقال حجم التوتر الذي كان في المفاوضات بين مصر وإسرائيل بعد حادثة رأس برقة، وتنقل التقارير الإسرائيلية أن الشرطة المصرية رفضت تقديم المساعدة الطبيّة للمصابين وأجّلت إجلاءهم إلى المستشفى، كما تُعبر التقارير عن الموقف الإسرائيلي القلق من أن هناك جندياً مصرياً قد استخدم سلاحاً آلياً في منطقةٍ يحظر فيها استخدام الأسلحة الآلية على الجنود المصريين بموجب شروط مُعاهدة السلام عام 1979م.

وبين الروايتين تحمل قصة سليمان ونهايته الكثير من علامات الاستفهام التي لم تُحل حتى الآن.

علامات:
تحميل المزيد