الراديو الذي جعلنا جميعاً حمقى.. كيف بدأ صعود الفاشية في إيطاليا؟

تبدو السنوات المبكرة من حياة آيرس أوريغو كأنَّها إحدى روايات هنري جيمس، فقد حكت فيها عن صعود الفاشية في إيطاليا بطريقة نادرة ومميزة.

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/30 الساعة 11:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/01 الساعة 04:58 بتوقيت غرينتش

تبدو السنوات المبكرة من حياة آيرس أوريغو كأنَّها إحدى روايات هنري جيمس، فقد حكت فيها عن صعود الفاشية في إيطاليا بطريقة نادرة ومميزة.

انحدر والدها، بايارد كاتينغ، من عائلةٍ أميركية فاحشة الثراء، وقد سافر حول العالم بحثاً عن علاجٍ لمرض السل الذي قضى عليه وهو في سن الـ29. قبل وفاته عام 1910، كتب إلى زوجته الأرستقراطية البريطانية سيبيل، معبراً عن رغبته في أن تنشأ ابنته الصغيرة في إيطاليا "بعيداً عن ذلك الشعور القومي الذي يتسبب في الحزن الدفين للأشخاص"، مضيفاً: "احرصي على أن تنشأ آيرس في مكانٍ لا تنتمي إليه".

أثبت والد آيرس أنَّه رجلٌ فطن على نحوٍ مذهل، فبعدها استُنزفت أوروبا بنشوب الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من نهوض الفاشية، التي تؤلِّه القومية، ولم تتبدد حدَّتها إلا بهزيمتها الكارثية عام 1945. نشأت آيرس وسط الجالية البريطانية في فلورنسا، وتزوجت رجلاً إيطاليّاً، وسمح لها وضعها بأن تراقب تطوُّر أحداث الحرب العالمية الثانية.

تحكي المذكرات كيف بدأت الفاشية في إيطاليا وأيام الحرب العالمية الثانية

وكتابها "War in Val d'Orcia: An Italian War Diary، 1943-1944"، الذي تناول أحداث تلك السنوات، حقَّق نجاحاً كبيراً فور صدوره عام 1947. وصفت فيه آيرس تجارب الحرب غير العادية التي مرت بها هي وزوجها أنطونيو أوريغو، وهما يعيشان نهاية الحرب من وجهة نظر إقليم توسكانا الجنوبي، الذي أصبح مسرحاً رئيسياً للعمليات في أثناء احتلال الألمان لإيطاليا في سبتمبر/أيلول 1943، وجيوش الحلفاء التي كانت تشق طريقها إلى شبه الجزيرة الإيطالية.

اشتريا عقاراً وخبئا فيه الجنود الفارين

وبعد مرور فترة قليلة من زواجهما عام 1924 (كانت آيرس في الـ22 من عمرها)، اشترى الزوجان عقاراً كبيراً متردّياً يمتد على مساحة نحو 7 آلاف فدان (28 كم مربع تقريباً) في فال دورشيا، ضمَّ عدداً من المباني المدمرة القديمة ونحو 57 مزرعة. ومع اقتراب القتال من منطقتهما، آوت الماركيزا الجسورة آيرس العديد من يتامى الحرب، وخبَّأت المحاربين الإيطاليين الفارِّين وجنود المظلات الحلفاء، وتفاوضت بدورها مع الوحدات العسكرية الألمانية التي نشرت دورياتها في المنطقة، حسب صحيفة The New York Times الأميركية.

نحن محظوظون لقراءة هذه المذكرات

عرضت مذكرات آيرس في كتابها صورةً لإيطاليا في وقت الحرب، تلك الصورة التي كان العالم حريصاً على تبنِّيها: دولة كانت معادية في الأساس للفاشية، ورحَّبت بالقوات البريطانية-الأميركية، وساعدت على هزيمة النازيين من خلال المقاومة. والآن نحن محظوظون لظهور مذكراتٍ أخرى، بعنوان "A Chill in the Air"، تتناول أحداث السنوات السابقة للمذكرات الأولى، واحتفظت بها آيرس ولم تنشرها قط، وسردت فيها تجاربها منذ منتصف 1939 حتى صيف 1940، بعدما خاضت إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا النازية. روت التفاصيل في هذه المذكرات بالدقة نفسها: فاشيُّون في منتصف أعمارهم لديهم كروش كبيرة، محشورون في زيهم المُوحَّد القديم، وهو عبارة عن قمصان سوداء، لحضور احتفالٍ سنوي في أجواءٍ تشبه لقاء لمِّ شملٍ جامعي؛ وأُمٌّ حامل تدعو الله أن يكون وليدها فتاة؛ حتى لا تُجَر إلى الحرب؛ والنظرات الخاوية الجامدة للفلاحين المحليين، الرجال الذين أتقنوا فن إخفاء مشاعرهم، في حين يحتشدون للاستماع إلى إعلان موسيليني عن الحرب.

كتبت آيرس كتابها الثاني "War in Val d'Orcia" في وقتٍ اتسم بالوضوح الأخلاقي، عندما انقلبت الأمور لمصلحة الحلفاء. ونتيجةً لذلك، تميل المذكرات إلى تقديم صورةٍ مبسطة إلى حد ما عن الإيطاليين الصالحين (المناهضين للفاشية) والألمان الفاسدين. وإحدى القيم العظيمة للمذكرات المبكرة المختصرة الممتعة للغاية، هي أنَّها كُتِبَت عندما كان مسار التاريخ أقل وضوحاً بكثير، في ما يتعلق بنتيجة الحرب ونشوبها من الأساس. ونتيجةً لذلك، عرضت بدقةٍ أكبر، التعقيد الأخلاقي والسياسي للحياة الإيطالية تحت حكم الفاشية.

والبشر الذين قابلتهم أوريغو آيرس في مذكراتها يمثلون مجموعةً أوسع بكثير من وجهات النظر: بدايةً من مناهضي الفاشية المخلصين، وحتى الفاشيين المطلقين الذين يرددون عباراتٍ مثل "يتمثل واجب الإيطالي الصالح الآن في ألا يكون له أي رأي". ومعظمهم غارقون في مستنقعٍ محايد: إنَّهم يشعرون بعدم الارتياح إزاء توجُّه البلاد إلى الحرب، لكنَّهم يقبلون حجة النظام بأنَّ إيطاليا لا تحظى سوى بخيار الخوض في القتال.

من الغريب إجماع الجميع هنا على رفض تصديق إمكانية وقوع الحرب

هذه المذكرات التي استمرت في خضم أحداث مضطربة، تجعلنا ندرك مدى الخطأ الذي وقع فيه معظم الأشخاص، ومن بينهم العديد من الأذكياء والمستنيرين، في فهم مضمون أحداث تبدو الآن واضحةً للغاية بعد وقوعها. كتبت آيرس بمذكراتها في منتصف شهر يوليو/تموز من عام 1939، أي قبل غزو هتلر لبولندا بـ6 أسابيع: "من الغريب إجماع الجميع هنا على رفض تصديق إمكانية وقوع الحرب". وقبل أيام فقط من بدء القتال، كانت آيرس في فلورنسا تستمع إلى تعليقات الإيطاليين العاديين. قال لها أحد مصففي الشعر بينما تُطالع الصحف: "لا تقلقي، لن يحدث أي شيء!". وقال سائق سيارة أجرة: "سترين أنَّ الزعيم سيُوقف الحرب في آخر لحظة".

بالتأمل في الهدوء الغريب الذي يخيّم على الشعب الإيطالي في خضم التوتر الدولي المتزايد، قال ضابط إيطالي شاب لآيرس: "انظري إلى ما فعلته الفاشية لشعبنا! قارني بين الهدوء الذي يسودنا والتوتر المحموم في فرنسا وإنكلترا!". وتتابع آيرس معلقةً: "لكنَّ الأمر لا يتعلق بالهدوء؛ بل هو مزيج من الجبرية السلبية والإيمان الصادق بزعيمهم: ثمار 15 سنة من تعليمهم عدم التفكير. من المؤكد أنَّ الأمر لا يتعلق بالاستعداد للحرب، وإنَّما هو مجرد اعتقاد أعمى بأنها لن تقع بطريقة أو أخرى".

بعد بضعة أيام، تصف آيرس المشهد في عشاءٍ بروما، حيث ينتظر الضيوف الأثرياء النافذون وصول صهر موسوليني، وزير الخارجية الإيطالي غالياتسو تشانو، في حين يحاول موسوليني التوسط في خطة للسلام. كتبت آيرس: "عندما وصل أخيراً، كانت تحيطه هالة من الإشراق والبهجة. وقال: (يمكنكم أن تستريحوا من التفكير. ففرنسا وإنكلترا قبِلتا عرض موسوليني؛ لذا اذهبوا إلى النوم اليوم وأنتم مطمئنو البال!)، أخذ الضيوف، بنصيحته واستيقظوا اليوم التالي على أنباء غزو بولندا! ولم يعلم موسوليني أو حتى صهره بتلك الحملة إلا قبلها بساعتين".

الراديو جعلنا جميعاً حمقى

استنفدت آيرس الكثير من جهدها العقلي في محاولاتها فهم مجريات الأمور، من خلال متابعة الصحف الأجنبية، وتجميع تقارير الأحداث من مصادر مختلفة، لتحاول قراءة ما بين سطور البيانات الرسمية. وكتبت في مذكراتها: "الليلة الماضية، لم تكن هناك أي محاولات لاعتراض الرسائل اللاسلكية الأجنبية. هل نستنتج من ذلك أنَّ إيطاليا قررت حتماً أن تكون على الحياد؟". وفي ظل غياب الأخبار الموثوقة، كان الإيطاليون يثقون بشدة بالشائعات.

والراديو الذي استخدمه النظام الفاشي بمهارة فائقة كان له دورٌ كبير في مذكرات آيرس، ومن الصعب عدم رؤية بعض أوجه التشابه مع وضعنا الحالي، مع المزاعم المتواصلة بزيف الأخبار. وكتبت آيرس: "النتيجة النهائية لتلك الدعاية التي لا تتوقف أصبحت الآن هي دحض جميع الأخبار. وقال لي أحدهم إنَّ الراديو جعلنا جميعاً حمقى".

هل من الممكن دفع بلداً للحرب رغماً عنها؟

تذكر آيرس أنَّه في حين كان النظام الفاشي يحاول دفع إيطاليا إلى براثن الحرب، كان هناك إعدادٌ نفسي دقيق لذلك؛ إذ راحت مقالات ذات طابعٍ علمي تتحدث عن الآثار السلبية للقهوة واللحم، قبل أسابيع من ترشيد الحكومة استهلاك تلك المواد. وفي إحدى الفقرات المعبِّرة التي كتبتها آيرس قبل يومٍ من إعلان موسوليني الرسمي الحرب، طرحت سؤالاً يبدو مهماً للغاية في الوقت الحالي الذي تعود فيه النزعة القومية إلى الحياة: "هل من الممكن دفع بلدٍ ما نحو الحرب، بما يتعارض مع تقاليدها التاريخية، وفطرتها الطبيعية وطبيعة غالبية سكانها، وعلى الأرجح بما يتعارض مع مصالحها الخاصة؟ على ما يبدو.. من الممكن".

تحميل المزيد