يقف حائلاً بين الرغبة والقدرة.. عن «فيل» انعدام المساواة الذي يسدُّ عالم الفن

مستويات غير مسبوقة من غلاء الفن، ومستويات غير مسبوقة من عدم الاهتمام به

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/29 الساعة 08:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/29 الساعة 08:35 بتوقيت غرينتش

يُعَد المخطط الظاهر في الصورة أدناه أحد أشهر الرسوم البيانية التي رسمها خبراء الاقتصاد على مرِّ التاريخ. هذا الفيل نفسه يقف عائقاً كبيراً في عالم الفن الحديث، فيسد الطريق على "أصحاب العين الفنية البصيرة واليد القصيرة".

الفيل البياني لرانكو ميلانوفيتش وكريستوفر لاكنر

يوضِّح الرسم -الذي نشره الخبيران الاقتصاديان برانكو ميلانوفيتش وكريستوفر لاكنر، للمرة الأولى في عام 2013، باستخدام بياناتٍ صادرة عن البنك الدولي- مكتسبات المداخيل العالمية للطبقات العاملة الكادحة والأثرياء بين عامي 1988 و2008.

ويظهر على الرسم ارتفاعٌ حاد جهة اليسار، مشيراً إلى مدى تحسُّن المدخول في دول العالم النامي منذ سقوط جدار برلين وحتى الركود الاقتصادي في عام 2008.

ولكن في أقصى اليمين، يوضِّح الرسم كيف انحسر مدخول الطبقتين العاملة والوسطى في العالم المتقدم انحساراً كبيراً، في حين ارتفع مدخول فئة الـ1% الأغنى في العالم ارتفاعاً صاروخياً.

وصار هذا النمط الظالم تماماً لتوزيع المداخيل في العالم يشتهر (على الأقل بين علماء الاقتصاد) باسم "مخطَّط الفيل".

فما علاقة هذا الفيل بسوق الفن؟

كل شيءٍ تقريباً في هذا المخطط له علاقة بسوق الفن؛ فبعد عقدٍ من سقوط بنك Lehman Brothers ومزاد الفنان داميان هيرست الأبرز في حقبته تحت اسم "Beautiful Inside My Head Forever-جميلٌ في خيالي إلى الأبد" في دار سوذبيز للمزادات- تظلُّ سوق الفنِّ واحدةً من أوضح الدلائل على عدم المساواة في المداخيل العالمية.

إذ قال ستيفن بايلي، وهو ناقدٌ ثقافي يقيم في العاصمة البريطانية لندن: "فن المشاهير الأثرياء منفصلٌ تماماً عن الواقع اليومي. فهو مُكَرَّسٌ لأثرى الأثرياء وحدهم. الفن صنفٌ حديث من الأصول المالية، وقد غيَّر هذا منظور المُشتري الأكثر تواضعاً".

ويستمرُّ خرطوم الفيل الذي يُمثِّل "الأفراد ذوي الدخول بالغة الارتفاع"، في رفع أسعار التحف الفنية إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، في حين تنفق الطبقة الوسطى الكادحة بالغرب مبالغ أقلَّ على الفن والتحف، لعدَّة أسبابٍ ماليةٍ وثقافيةٍ.

إحجام الطبقة الوسطى أدى إلى إغلاق بعض المزادات العادية

وكان غلق صالات مزاد "كريستي-Christie's" في حيِّ ساوث كينسنغتون بلندن في العام الماضي (2017)، مؤشِّراً على تغيُّر الأزمنة، بعد أن كانت هذه الصالات تخدم المشترين الأكثر تواضعاً.

وحقَّقت فنون الديكور مثل الأثاث الأثريِّ والسيراميك العتيق -التي تُعَد مصدر الرزق التقليديَّ لدور المزادات- مبيعات بقيمة 118.2 مليون دولار من إجمالي مبيعات دار كريستي للمزادات في العام الماضي (2017)، بحسب تصريحاتِ متحدثةٍ رسميةٍ باسم "كريستي". وقد مثَّل هذا أقل من 2% من المبيعات السنوية للشركة.

والسوق تبحث عن جيل جديد يملك الدخل الكافي للاقتناء

ومن ناحيته، قال آدم فايلمان، أحد مديري "فايلمان آنتيكس-Fileman Antiques": "لقد انتهى الجيل القديم من جمع تحفه. فنحن بانتظار قدوم الجيل الجديد، لكن الدخل المتيسَّر ليس موجوداً".

و"فايلمان آنتيكس" هي واحدةٌ من 114 شركةً عارضةً في النسخة العاشرة من معرض LAPADA للفنون والتحف الأثرية الذي يُقام في الشهر الحالي (سبتمبر/أيلول 2018) بميدان بيركلي، على بُعد نصف ميلٍ من المكان الذي جمع فيه مزاد Beautiful، الخاص بداميان هيرست، 200 مليون دولار على مرِّ يومين.

وتُعَد مؤسَّسة فايلمان وكالةً عائلية عمرها 120 عاماً متخصِّصةً في القطع الزجاجية والثُرَيَّات الأثرية، ويقع مقرُّها في مقاطعة ساسكس بجنوب إنكلترا. وقال فايلمان إنَّه في ظل انخفاض مستوى الطلب المحليِّ، أصبحت جميع القطع المبيعة بما يزيد على 10 آلاف جنيهٍ إسترلينيٍّ (13200 دولار) تقريباً، تذهب إلى مشترين أجانب، ومعظمها ثريَّاتٌ وأغلبها يُباع عبر الإنترنت.

لوحة لاعبا الورق للرسام بول سيزان بيعت مقابل 240 مليون دولار في 2017

لأن الطبقة الوسطى لم تعد قادرة على الدفع

وتراوحت الأسعار على كابينة "فايلمان" بين 320 جنيهاً إسترلينياً (419.50 دولار) مقابل كأس نبيذٍ منقوشةٍ من القرن الـ18، و120 ألف جنيه إسترليني (157311.60 دولار) مقابل ثريَّا تنتمي إلى الملك جورج الثالث. وعلَّق فايلمان على ذلك في يوم الأحد من المعرض، قائلاً: "إنها أجواءٌ عجيبةٌ. يتجوَّل الناس بالمكان، لكنهم لا يشترون شيئاً!".

فالتحف الأثرية، التي كانت في ما مضى عنصراً أساسياً بجميع منازل الطبقة الوسطى المريحة، تراجعت شعبيتها، وما زاد الطين بلةً على هذه النسخة الأخيرة من معرض لندن الشكوك القائمة التي ابتُلي بها الاقتصاد البريطاني من جرَّاء انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، يظلُّ الطرف الأدنى من السوق مسبِّباً للقلق في المناطق الأكثر عصريةً.

أما الطبقة الثرية فاستفحلت في هيمنتها

في يونيو/حزيران 2017، نشر فريقٌ من علماء الاقتصاد الدوليين "تقرير عدم المساواة في العالم"، الذي عدَّل على الرسم البيانيِّ الذي وضعه ملاينوفيتش ولاكنر، ومدَّ الفترة إلى 2016.

ووجدت هذه الحسابات المُجراة باستخدام بياناتٍ مختلفةٍ، أن طبقة الـ1% قد استفحلت في هيمنتها؛ إذ أصبحت تحوز أكثر من ضعف مقدار نمو المدخول لدى طبقة الـ50% الدنيا منذ 1980 إلى 2016.

لقد تحوَّل الفيل إلى "وحش لوك نس" الأسكتلندي

رسم بياني يشبه وحش "لوك نس" وفق الأسطورة الإسكتلندية

نتجت نسبةٌ كبيرةٌ من هذه القيمة الصافية العالية عن طريق "أحداث السيولة" -مثل بيع أسهم الشركات أو الأسهم النقدية- بدلاً من الرواتب وحدها.

وتتيح هذه الأرباح المفاجئة لأثرياء اليوم شراء القطع الفنية الأغلى ثمناً والتي صنعتها الأسماء ذات الثقل منذ بداية عرضها للبيع، متجاوزين المبيعات الأقل قيمةً لأعمال الفنانين المبتدئين. ويُعتبَر هذا من أسباب معاناة المَعارض المعاصرة الأصغر.

ما فائدة دفع آلاف الدولارات لقطعة قد لا تحتفظ بقيمتها؟

على سبيل المثال، "جارفيس دوني-Jarvis Dooney" معرضٌ أُسِّسَ منذ 5 سنواتٍ ببرلين، ويتخصَّص في فن التصوير الفوتوغرافي وتسجيلات الفيديو المعاصر لفنانين من أستراليا ونيوزيلندا.

وجاء على لسان مايكل دوني، الشريك المؤسِّس للمعرض، أنّ معظم عملائه من "عاملي الطبقة الوسطى العاديين"، ويشترون أعمالاً منقوصة العدد، تتراوح أسعارها بين 1000 و5000 يورو، أي نحو 1200 و6000 دولار.

وبعد أن حقَّق المعرض أرباحاً سخيةً عام 2013، قال دوني إنَّ المبيعات بمعرضه ومعارض أخرى في برلين قد صارت باالتدريج "أقل عدداً، واتَّسعت الفجوة بين الواحدة والأخرى". وأقرَّ بأن أسعار بضاعته أدنى من أسعار القطع "الاستثمارية".

واستطرد دوني قائلاً: "لكن إذا كنت من الطبقة الوسطى، فإن 6000 دولار مبلغٌ باهظٌ. لذلك، تحتاج لأن تعرف إن كانت القطعة ستحتفظ بقيمتها أم لا".

فالقطع المتوسطة لا تضمن عائدات مربحة

ويتعرَّض هذا القطاع الأدنى قيمةً في السوق لضغوط؛ إذ بات الراغبون في جمع الأثريات، من "الطبقة الوسطى المأزومة"، متخوِّفين حيال الاستثمار مثلهم مثل الجميع، لا سيما أنَّ الفنون والقطع الأثرية التي تتراوح أسعارها بين 500 و5000 دولار لا تضمن عائداتٍ مربحةً.

إذاً، لمَ لا تتمتع بامتلاك الفنون التي تحبها وحسب؟ لأن مفهوم الملكية ذاته قد أصبح ملتبساً.

إذا لم تتمكن من شراء بيت، فلِمَ تشتري مقتنيات غالية!

شرح ستيفن بايلي، الناقد الثقافي ذلك في حديثه، قائلاً: "الناس، لا سيَّما الشباب، قلَّت لديهم الرغبة في امتلاك الأشياء كثيراً. هناك إجهادٌ استهلاكيٌّ. وإذا لم تكن ستستطيع يوماً أن تقدر على شراء بيتٍ، فما جدوى شراء الأشياء التي توضع بالبيوت؟".

ومع ذلك، ما زال التجَّار ودُور المزادات منخرطين في ابتكار مبادراتٍ واستراتيجياتٍ جديدةٍ لإبقاء السوق على قيد الحياة، وإن لم تكن حياةً كريمةً.

على أصحاب المعارض أن يفكروا كرجال أعمال

تعقيباً على الأمر، قال آندرو ماكلينتوك، مدير Ever Gold [Projects في سان فرانسيسكو: "أعرِض أعمالَ كثيرٍ من الفنانين الصاعدين، والأسعار دون 20 ألف دولارٍ تمثِّل حتماً السوق الأصعب. لطالما كنَّا نعاني الأمر".

لكن عكس برلين، فإن منطقة خليج سان فرانسيسكو زاخرةٌ بالتكنولوجيا، التي يتسرَّب بعضها إلى تجَّار الفن المعاصر بكاليفورنيا.

وقال آندرو ماكلينتوك إنّه في الوقت الحاليِّ، الرسومات المبهمة لأوراق التاروت المستلهَمة من التكنولوجيا من صُنع ميك ماربل (الذي كان بالسابق شريكاً في معرض Night Gallery الرائج بلوس أنجلوس) هي من بين أكثر الفنون مبيعاً لدى ماكلينتوك في النطاق المتراوح بين 3000 و10 آلاف دولار، مضيفاً أن المقتنين الشباب تشجِّعهم سبل الدفع المرنة والفواتير القابلة للدفع بالعملات المشفرة.

ووضَّح ماكلينتوك في معرض حديثه، قائلاً: "على أصحاب المعارض الآن أن يعتبروا أنفسهم روَّاد أعمالٍ، لا أن يجلسوا في خمولٍ بانتظار أن يزورهم عميلٌ ما".

وتبقى لوحة المنقذ لسفارتور موندي الاغلى في العالم بنحو 500 مليون دولار

حتى دار Bonhams العالمية لم تعد كالسابق

وهناك أيضاً "بونهامزBonhams"، وهي دار مزاداتٍ دوليةٌ في لندن يعتمد نموذج أعمالها (حتى الآن) على الفنون والأثريات التقليدية ذات الأسعار المنخفضة والمتوسطة، بالإضافة إلى السيارات الكلاسيكية، عوضاً عن أعمال مشاهير الفن المعاصر.

ونتيجةً لذلك، حصدت دار بونهامز 450 مليون جنيه إسترليني، أي ما يقرب من 600 مليون دولار من المبيعات، وفقاً لمتحدثةٍ رسميةٍ باسم الدار. في حين جمعت صالات مزاد كريستي 6.6 مليار دولار.

وخلال شهر سبتمبر/أيلول 2018، اشترت شركة الأسهم الخاصة البريطانية Epiris دار بونهامز، في صفقةٍ لم يُعلَن عن قيمتها. وقد تساءلت صحيفة The Financial Times البريطانية، في تقريرٍ لها، عن كيفية تحقيق دار المزادات أي نموٍّ يُعتَدُّ به، في ظل اعتمادها على سوقٍ متوسطةٍ راكدةٍ وافتقارها إلى استراتيجيات البيع عبر الإنترنت.

ولكن أوين ويلسون، أحد الشركاء في Epiris، كان أكثر تفاؤلاً؛ إذ قال في بيانٍ له: "إنّ (بونهامز) شركةٌ عالميةٌ تعمل في سوقٍ ذات تنميةٍ بنيويةٍ بعيدة المدى وحواجز دخولٍ مرتفعةٍ".

وتابع قائلاً: "إنها منصَّةٌ لها نظرةٌ مبعديةٌ نحو التجديد من خلال الاستثمار".

فذاك الفيل يقف عائقاً كبيراً في عالم الفن

ولكن بالنسبة إلى الراغبين في جمع التحف من الطبقة الوسطى، فإن "حواجز المدخول" لدى دار بونهامز والشركات الأخرى التي تحاول بيع الفنون والتحف بأقل من 20 ألف دولار -أو حتى أقل من 5000 دولار- ما زالت منخفضةً نسبياً.

ومع ذلك، فهناك عائقٌ كبير؛ هناك فيلٌ يقف في طريقهم.