يبحث عنها في بول البقر وأنياب الفيلة.. هذا الرجل يعيد خلق الألوان المفقودة عبر التاريخ

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/26 الساعة 05:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/26 الساعة 05:39 بتوقيت غرينتش

أحياناً، وفي وقتٍ متأخر من الليل، يمسك خبير الأصباغ والدهانات، بيدرو دا كوستا فلوجيراس، في مكان عمله بحي شورديتش في لندن، بهاون ومدقةٍ في يده، بينما تملأ رائحة زيت بذر الكتان الطازج الأثير. كُلِّف بيدرو باستعادة أشهر الألوان المفقودة في التاريخ ؛ تلك التي زيَّنت في الأصل التماثيل الرخامية في زمن الإغريق.

يقول بيدرو، بلكنةٍ مُحبَّبة تعكس كلاً من طفولته في البرتغال، والثلاثة عقود التي قضاها في إنكلترا: "يعرف المُؤرِّخون الآن أنَّ جمعيها دهن بالألوان، لكن في النسخ المقلدة ثلاثية الأبعاد، تكون الألوان صارخة للغاية. أحلم بإعادة إنتاجها كما كانت، منذ آلاف السنين. هل يمكنك تخيل شدة الألوان، وأصالتها؟".

يعد بيدرو حالياً واحداً من أكثر الخبراء المرغوبين بشدة فيما يخص الأصباغ والدهانات التاريخية، وفق ما نشرت صحيفة The New York Times عن مهمته الفنية المستحيلة.

يبحث بيدرو عن المُكوِّنات الخيميائية لاستعادة الألوان المفقودة عبر التاريخ

بينما يظن معظم الناس أنَّ الطلاء ليس إلا مادة لزجة مصنوعة من الأكريليك، جاهزة لتُصَب من العلب وتُستَخدَم لدهن الحوائط الجافة، يبحث بيدرو عن المُكوِّنات الخيميائية التي يصعب التعامل معها، التي غالباً ما تكون مشتقةً من وصفاتٍ قديمة.

يمزجها بيديه حتى يُشكِّل درجاتٍ لونية جذَّابة ظلَّت طيَّ النسيان لفترةٍ طويلة، ويُقدِّمها لشركته Lacquer Studios.

الاستوديو الخاص به أشبه بوكر السحرة؛ مليء برفوفٍ تحمل زجاجاتٍ مُشبَّرة مصنوعة يدوياً ومليئة بمساحيق صبغية، كل درجةٍ لونية منها تختلف عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، ومُمَيَّزة عن غيرها بملصقاتٍ صفراء اللون؛ علاوة على الرفوف التي تحمل فرشاً خشبية ذات شعيرات مصنوعة من فرو ذيل الفئران وشعر غواصي اللؤلؤ.

يتخصص في ترميم المنازل الأثرية والتاريخية

يعمل بيدرو في الترميمات المعمارية العامة، وترميم المنازل لمصلحته الخاصة. لاستعادة الأسطح الزخرفية لمبانٍ مثل Strawberry Hill House، الفيلا الإنكليزية القوطية الحديثة في تويكنهام التي بناها هوريس والبول في منتصف القرن الثامن عشر، أو منزل مستقل يعود للقرن الثامن عشر للفنانين جورج وغيلبرت في حي سبيتالفليدز بلندن.

وألوانه المفضلة عمرها قرون

يستخدم درجات محددة من اللون الأزرق تُسمى blue verditer، جرى تحضيرها لأول مرة في القرن السابع عشر.

يحصل بيدرو على المواد المطلوبة لإعداد اللون من رجلٍ مسن في نوتنغهام، يستخلص كمياتٍ صغيرة من كبريتات النحاس بالطريقة التقليدية، وذلك عن طريق تركها في العراء في منتصف الشتاء، وتقليبها باستمرار لمدة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع لمنعها من "الاخضرار".

يقول بيدرو: "هذا الرجل يعمل في ملجأ للطيور، حتى يتمكَّن من مشاهدة الطيور طوال الليل والاستمرار في التقليب. لا أعرف ما قد أفعله حين يفقد قدرته على فعل ذلك".

خلق لون جديد أمر جاد وخطير

مع أنَّ دهانات المنازل الحديثة تتكون عادةً من مزيجٍ من الصبغات الصناعية، وألوان الأكليريك، والماء، والحشوات مثل الطين وأوكسيد الزنك، كانت مسألة خلق لون جديد أمراً جاداً وخطيراً.

فبينما تأتي بعض الألوان من مصادر عضوية مثل الحليب الرائب، والفحم، والخامات المعدنية البسيطة، تأتي بعض الألوان من مصادر سامة أو غير مستقرة.

بعض الألوان انقرضت لأنها مضرة بالصحة وقاتلة

تسبَّبَت قوانين السلامة الحديثة في ندرة، بل وانقراض بعض درجات الألوان التي جعلت الأعمال الفنية التاريخية تنبض بالحياة، تحديداً مثل اللون الأبيض الذي استخلصه الرسام الهولندي فيرمير من الرصاص واستخدمه ليرسم ضوء النهار.

وكذلك الأصفر الملكي الذي يأتي من إعداد اللون بواسطة الزئبق، وأيضاً درجات الألوان المشتقة من الزرنيخ التي استخدمها نابليون في ورق حائط منزله في المنفى على جزيرة سانت هيلينا البريطانية، التي يعتقد بعض المؤرخين أنَّها كانت السبب في وفاته.

ومصادر الألوان الأخرى موجودة في الخنافس وأنياب الفيلة

الأحمر الزنجفر المصنوع من كبريت الزئبق، أصفر الملك مع الزرنيخ، والأرجواني الكنسي المصنوع من اللون الأزرق والقرمزي الممزوج بغراء الأرانب

يقضي بيدرو كثيراً من وقته في البحث عن المؤن المتناقصة للمكونات الغامضة، التي يحتاجها من أجل إعادة تشكيل هذه الألوان التاريخية. هنالك الأسود العاجي، الذي يُصنَع مع أنياب الفيلة المتفحمة العتيقة، والقرمزي، المستخلص من خنافس جنوب إفريقيا المسحوقة، وكذلك الزنجفر الأحمر المصنوع من الزئبق، وهو سام ومتطاير نسبياً.

 أو في مناجم قديمة متوقفة عن العمل

لكن، رغم كل هذا، فإنَّ بعض الألوان تبقى بعيدة المنال بشكلٍ مُحيِّر، بما في ذلك الأرابيدا الحمراء، الذي يُستخلَص من حجرٍ جيري مخصوص يوجد في مناجم برتغالية قديمة متوقفة عن العمل.

يقول بيدرو: "بمزجها مع الصبغة البيضاء، تتحوَّل فجأةً إلى لون وردي بديع، لكن لسبب ما فإن السيدات الكبيرات في السن اللواتي يمتلكن المنجم لا يرغبن في إعادة فتحه مرة أخرى فقط من أجلي".

فالأصفر "كاسر القلب"  يُصنع من بول البقر

اختفى اللون الأصفر الهندي أيضاً تماماً، وهو لون لامع شفاف قوي، يُصنع من بول البقر في الأماكن الريفية بالهند، وهو بقر يتغذى بشكل حصري على أوراق المانغو.

اختفى اللون الذي يصفه بيدرو بأنَّه كاسر القلب، لأنَّ البقر لم يعد يحصل على ما يكفيه من الطعام من الأوراق، التي تحتوي على مادة اليورشيول، العنصر الضار في شجرة اللبلاب، لكنَّ بيدرو لم يفقد الأمل في أنَّ أحداً ما يملك قارورة أو اثنتين.

في أي وقت كان يعمل بيدرو على حفنة من الألوان، ويتمكن من إعادة إنتاج واحد فقط كل يوم.

الخلطة شاقة وتحتاج لأسبوع

عملية المزج شاقة، فيمكن أن يستغرق عمل الصبغة عدة ساعات، ويجب أن يضاف زيت بذر شجرة الكتان الذي يتحد مع الصبغة بعناية. بمجرد إضافته، قد تستغرق خلطات بيدرو المعتمدة على الزيت نحو أسبوع حتى تجف تماماً.

عملية التشطيبات القديمة مثل النحاس الصقيل، والأخضر المعدني، ظهرت في العصر الروماني، وعادت مرة أخرى خلال حقبة الموضة الزخرفية الصينية عام 1750، وهي تتطلَّب عدداً من الأغطية للحصول على النتيجة المرجوة.

وبيدرو يرى جماليتها في تحوّلها طبيعياً مع الزمن

وعلى العكس من دهانات اليوم، والمصممة بالكامل ليكون تطبيقها سهلاً، وذا استمرارية طويلة (تقريباً بلاستيك، كما يقول بيدرو باشمئزاز)، بعض هذه الألوان، بحكم الطبيعة غير مستقرة.

كتب فان جوخ مرة أنَّ "اللوحات تبهت مثل الأزهار". واليوم، يمتلك المحافظون على الفن وصفاً مدافعاً عن الطبيعة المتقلبة لهذه الألوان، وهي "ألوان هاربة" يقول بيدرو: "فهي لا تبهت فقط، بل إنَّها في الواقع تتغيّر، وهذا جزء من جمالها".

استلهم من طفولته بلشبونة فن الألوان والعمارة

هوس بيدرو بالألوان القديمة بدأ عندما كان طفلاً في مدينة لشبونة. من الألوان الزخرفية للمباني التاريخية – Palácio Pombal in Rua de O Século- وهو حالياً يستضيف مركز الفن المعاصر، إلى قصر Casa do alentejo، الذي ينتمي إلى أواخر القرن السابع عشر، إذ جرى تحويله إلى فانتازيا مغاربية عام 1920، والأضواء التي تضيئها، ولا يشبهها شيء، حفزت حواسه أكثر.

غادر البرتغال في سن الـ19، وبدأ في دراسة الخطاب في لندن، حيث عثر على مرشدة تسمى مارغريت بالاريد، وهي سيدة إنكليزية غامضة، متخصصة في الـJappaning، وهو فن أوروبي ينتمي إلى القرن الـ17 لآسيا.

مؤخراً يتخصص بيدرو في سفن الفلين البرتغالية كذلك، التي يرسم لها ألواناً جذابة، مثل الأرجواني الكنسي، الأكسفورد الأخضر، واللازورد الصبغي، ويبيع أعماله في New Craftsmen gallery بمدينة لندن.

ويبحث اليوم عن ألوان تنين لا دليل على وجوده سوى الأساطير

حالياً، بيدرو يشرع في واحدة من أكثر أعماله غير المألوفة، حيث وقع عقداً لـKew Gardens لإعادة إحياء أجنحة التنين القزحية، والذي كان مثبتاً من قبل على الجزء الخارجي من معبد باغودا ثماني الأضلاع، الذي أمرت الأميرة أوجستا أم الملك جورج الثالث ببنائه.

كانت هذه مهمة صعبة بصورة كبيرة، لم يكن هنالك أي أدلة على شكل هؤلاء الوحوش الخشبية الـ80. التي سرعان ما تلاشت بعد التثبيت، ثم اختفت من المعبد تماماً.

بيدرو، رجل شجاع بالطبع، فهو يحاول بالفعل أن يعرف كيف يمزج الألوان كأقرب ما يكون إلى الطريقة التي كانت تُمزج بها من 250 سنة. وهو يؤكد أنَّ التنانين في الطابق الأول من الباغودا ستُنحت من جديد على الخشب، وهنالك سيحاول أن يعمل عدداً من الساعات.

وعن ألوان الماضي التي كانت تقدّر جمال التأثير روحياً

يقول بيدرو: "تسافر عبر الزمن إلى الماضي، حيث لم تكن مسائل مثل الأمن وراحة البال والأموال أموراً تستحق عناء التفكير، كل ما كان يهم هو قدر جمال التأثير، وماذا يعني استخدام لون ما من الناحية الروحية، وكيف أثر هذا في الناس".