ارتبط ريتشارد قلب الأسد في المخيلة العربية بالشجاعة والنبل في مواجهاته مع القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي الذي فاقه نبلاً، حتى أنه أرسل طبيبه لعلاج الملك الإنكليزي الشهير بعد أن تواجها بأرض المعركة.
ولكن حياة ريتشارد قلب الأسد، الذي أطلق عليه هذا اللقب بسبب سمعته كمحارب وقائد كبير، أعقد من علاقته الفريدة مع صلاح الدين الأيوبي، إذ تمتلئ حياة الملك الإنكليزي بالمغامرات والمؤامرات وخيانات شارك بها ضد أقرب الناس إليه، وصولاً إلى نهايته الغريبة بالنسبة لملك ذاع صيته في الشرق والغرب.
فروسية ريتشارد لم تستطع أن تصمد أمام رغبته الجامحة في حيازة السلطة والمجد، كما أن ميله للمغامرة تفوّق على حنكته العسكرية، ونبله مع غريمه صلاح الدين قابلته حماسته الصليبية، التي لم تختلف كثيراً في نتائجها عن غيره من القادة الصليبيين الدمويين، الأمر الذي جعله شخصية محيرة للشرق والغرب.
ولذا فإن كثيراً من المؤرخين المحدثين يَرَوْن أن هناك وجهاً لريتشارد قلب الأسد لم يتم التركيز عليه، وهذا الجزء الغائب والأكثر إثارة سيكون هو ما يركز عليه هذا التقرير.
ريتشارد قلب الأسد ابن ملك استثنائي
ولد ريتشارد في 8 سبتمبر عام 1157 في أكسفورد، وهو ابن الملك هنري الثاني من زوجته إليانور.
وتُعتبر شخصية الملك هنري الثاني من أهم الشخصيات تأثيراً بالتاريخ الإنكليزي والأوروبي.
فهو من أوائل الحكام الأوروبيين الذين عملوا على تقليص نفوذ الكنيسة التي كان لها دور عظيم وتأثير بالغ في حياة الناس بذلك الوقت.
وكان مبرره الأكبر حينها هو تطبيق القانون على الجميع، وهذا أدى إلى نقلة نوعية في إنكلترا بعد بدء تطبيق القانون العام، والحدّ من تطبيق القوانين والأحكام الكنسية.
ولكن هذا لم يشفع له لدى ابنه.. هكذا تعامل ريتشارد قلب الأسد مع أبيه
كان الملك هنري الثاني والد ريتشارد قلب الأسد قد أنجب من زوجته إليانور 8 أبناء خمسة منهم ذكور.
حظى بعض أبناء هنري بشهرة تاريخية واسعة فإلى جانب ريتشارد كان هناك جون الذي قامت ضده عندما تولى الحكم بعد ريتشارد ثورةُ نبلاء إنكلترا وأُرغم على توقيع الوثيقة العظمى المعروفة باسم "الماجنا كارتا" (Magna Carta) التي تعتبر أساس الديمقراطية الإنكليزية.
وكان لهم شقيق ثالث هو هنري الابن الذي كان من المفترض أن يكون هنري الثالث وريث العرش لكنه توفي عام 1183، تاركاً وراثة العرش لريتشارد.
رغم الدور التاريخي لوالدهم الملك هنري الثاني، فإن ريتشارد قلب الأسد، وأخوته تمردوا ضده، ولَم يكتفوا بذلك بل انضموا إلى قوات فيليب الثاني ملك فرنسا في الحرب ضد والدهم عام 1189، فطاردوا هنري من "لومان" إلى "سومور"، وأجبروه على الاعتراف بريتشارد كوريث له، وظلوا يحاربونه حتى وفاته التي جاءت في العام نفسه.
ويقول المؤرخون إن هنري مات كمداً بعد هزيمته من أبنائه الشرعيين، وأن أياً منهم لم يتواجد بجوار والده عندما أتاه الموت، وقد قيل أن خروج الأبناء على والدهم جاء بتحريض من والدتهم، وكان هذا عام 1173.
وتم تتويج ريتشارد قلب الأسد بعد وفاة أبيه كدوق لنورماندي، وكملك إنكلترا ليحمل لقب Richard I of England، وليبدأ الفصل الأكثر شهرة في تاريخه والذي لا يخلو أيضاً من الجدل.
موقفه من اليهود.. استقبال مفجع لهم في حفل التتويج
منع ريتشارد جميع اليهود والنساء من حضور حفل تنصيبه، ولكن بعض القادة اليهود وصلوا لتقديم الهدايا للملك الجديد.
ووفقاً لرالف ديسيتو Ralph of Diceto رئيس كاتدرائية القديس بولس، قام حراس ريتشارد بتجريد وجلد اليهود، ثم طردوهم خارج القاعة.
عندما انتشرت شائعة بأن ريتشارد أمر بقتل جميع اليهود، هاجم سكان لندن اليهود، وتم تدمير العديد من المنازل اليهودية.
غير أنه قيل إن ريتشارد قلب الأسد عاقب المعتدين وسمح لليهود الذين أجبروا على التحول للمسيحية بالعودة لديانتهم.
الحروب الصليبية.. القدس تسيطر على عقل قلب الأسد
أصبح ريتشارد ملكاً لإنكلترا، وعُرف فيما بعد باسم "قلب الأسد"، انشغل ريتشارد منذ توليه الحكم بالحروب الصليبية الخارجية، إلى الحد الذي جعله يقضي 6 أشهر فقط في إنكلترا خلال فترة حكمه التي استمرت 10 أعوام.
فقد كان طموحه الرئيسي الانضمام إلى الحملة الصليبية الثالثة، التي كان هدفها إعادة احتلال القدس بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي لها في عام 1187.
وقد قام ريتشارد ببيع ما تركه والده من ممتلكات وعقارات ومكاتب أعمال لتمويل الحملة بالأسلحة اللازمة لها، وبدأ في عام 1190 التحرك إلى القدس، وحينما وصل إلى قبرص استولى عليها وتزوج من "برينجاريا" ابنة ملك "نافارا"، وفي شهر يوليو 1191م سقطت عكا على الساحل الفلسطيني أيضاً في يديه.
ولكن الخلافات العميقة وشجاعة جنود صلاح الدين منعته من نيل هذا المجد
كاد ريتشارد يقترب من تحقيق هدفه بانتزاع القدس من المسلمين، إلا أن الأمر استعصى عليه بسبب قيادة صلاح الدين وبسالة جنوده من جانب، ومن الجانب الآخر ساهمت الخلافات الشديدة بين الوحدات الفرنسية والألمانية والإنكليزية في عدم إنجاح الحملة وإتمام هدفها.
إذ أهان ريتشارد ليوبولد الخامس، دوق النمسا، عن طريق تمزيق رايته والتشاجر مع فيليب الثاني، الذي عاد إلى فرنسا بعد سقوط عكا.
وبعد عام من هذه المناوشات والخلافات العقيمة، عقد ريتشارد هدنة لمدة ثلاث سنوات مع صلاح الدين، الذي سمح للصليبيين بالاحتفاظ بعكا وقطاع ساحلي رقيق وأعطى الحجاج المسيحيين حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، وبدأت رحلة ريتشارد للعودة لبلاده.
ريتشارد قلب الأسد يقع في الأسر.. وهذه هي الفدية
أثناء رحلة العودة كان الطقس السيئ هو المُسيطر على المشهد، فتسبب في جنوح السفينة على الشاطئ بالقرب من فينيسيا بإيطاليا، وأصيب ريتشارد بحمى شديدة.
سارع دوق ليوبولد النمساوي بالذهاب به إلى المستشفى، وسرعان ما وشى بمكانه إلى الإمبراطور الألماني هنري السادس، الذي قام بأسره وطلب بدوره فدية ضخمة مقابل إطلاق سراحه وعدم تسليمه إلى خصمه فيليب الثاني ملك فرنسا.
قدّر هنري السادس الفدية من 100 إلى 150 ألف مارك، وبالفعل دفعت له الفدية، وأُطلق سراح ريتشارد في فبراير 1194.
وعاد ريتشارد مرة أخرى إلى إنكلترا حيث تُوج مرة ثانية، وبعد شهر تقريباً من التتويج، ذهب إلى مقاطعة نورماندي الفرنسية والتي كانت تابعة للتاج الإنكليزي، وأمضى السنوات الخمس الأخيرة من حياته في الحرب المُتقطعة ضد فيليب الثاني ملك فرنسا.
نهاية قلب الأسد جاءت على يد نملة كما قالت العرب
نهاية ريتشارد جاءت غريبة، فبينما كان يُحاصر قلعة شالوس وسط فرنسا حيث كان يُعد لهجوم كاسح على القلعة، وأخذ يجول حولها جيئةً وذهاباً غير عابئ برماة السهام على أسوار القلعة، قام واحد منهم بإطلاق سهمه على ريتشارد فأصاب ذراعه.
ولكن ريتشارد لم يعبأ بجرحه وقاد هجومه الكاسح على القلعة، غير أن جرحه تفاقم، ولم يفلح استخراج السهم في تخفيف الاحتقان.
وتورمت ذراعه وأصابته الغرغرينا التي تفشت في جسده كله وأدى ذلك إلى وفاته في النهاية، في 6 أبريل عام 1199.
وتبين بعد ذلك أن رامي السهم لم يكن إلا فتى صغيراً قال إن ريتشارد قتل أباه وأخويه، وأنه أراد أن يثأر لهم، فقالت العرب عن موت ريتشارد بهذه الطريقة إنه "الأسد الذي قتلته نملة".
ودُفن في كنيسة الدير في فونتفراولت، وهو المكان الذي دُفن فيه والده هنري الثاني والملكة إليانور أيضاً، وورث العرش الإنكليزي بعد ريتشارد شقيقه جون الذي قضى سنوات غياب ريتشارد في الحروب في نسج المؤامرات ضده.
غرائب عن ريتشارد قلب الأسد.. لم يكن يتحدث الإنكليزية ولهذا السبب كان لا يريد الزواج
كان في شخصية ريتشارد قلب الأسد بعض المعلومات الغريية وغير المُنتشرة، منها كونه على الرغم من مولده في إنكلترا فإنه من المحتمل ألا يكون مُتحدثاً للإنكليزية، ومنها أنه قد خُطب في سن التاسعة من عمره لابنة الملك الفرنسي لويس السابع.
والأغرب أنه قيل إنه كان لا يرغب في الزواج لأنه لا يرغب أن يأتي للحياة بوريث لعرشه، وربما يعود تفسير هذا إلى حالة العداء والصراع التي كانت بينه وبين أبيه.
حينما تؤرخ الموسوعة التاريخية البريطانية Britannica للملك ريتشارد تقول "خارج مبنى البرلمان البريطاني هناك تمثال لريتشارد وهو جالس على حصانه، كدليل على أنه أحد أشجع ملوك إنكلترا، كذلك فإن جميع أطفال المدارس الإنكليزية يتعلمون سيرة حياة هذا الملك العظيم الذي حكم من 1189-1199، وقد حصل على لقب "قلب الأسد" لأنه كان جندياً شجاعاً، وصليبياً عظيماً، وقد انتصر في العديد من المعارك ضد صلاح الدين، زعيم المُحتلين الذين كانوا يحتلون القدس في ذلك الوقت."
حتى صورته النبيلة لدى العرب تبدو غير صحيحة.. فهذا ما فعله مع الأسرى المسلمين
في الشرق أيضاً يرى الكثير من العرب أن ريتشارد هو فارس نبيل يحاول الدفاع عن دينه، ويتصف بالإنسانية في كثير من المواقف، وهو ما جسده الفيلم السينمائي المصري، "الناصر صلاح الدين الأيوبي"، و قام بدور ريتشارد قلب الأسد الفنان حمدي غيث.
ولكن بحسب بعض المؤرخين في الشرق فإن الأمر ليس كذلك، فوفقاً لكتاب "الغرب وصناعة الكراهية.. في نقد الإسلاموفوبيا والعولمة" يرى الدكتور أحمد رشاد حسانين أن ريتشارد قلب الأسد قد اقترف جرائم وحشية كالتي قام بها رجال الحملة الصليبية الأولى، وكان أول ما بدأ به ريتشارد هو قتل 3000 أسير مسلم.
كذلك في كتاب "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية: سيرة صلاح الدين الأيوبي" لـ أبي المحاسن بهاء الدين بن شداد، يرى أبو المحاسن أن ريتشارد والذي لقبه بكونه "ملعوناً" قد غدر بأسرى المسلمين، وكان قد صالحهم وتسلم البلد منهم على أن يكونوا آمنين على نفوس كل حال.
هذه أشهر الأفلام التي تناولت سيرته
كانت شخصية الملك ريتشارد جاذبة للعديد من المُخرجين السينمائيين لنسج أفلام سينمائية حولها، فقد جُسدت شخصية الملك ريتشارد في العديد من الأعمال السينمائية والوثائقية.
وبخلاف الفيلم المصري الشهير الناصر صلاح الدين جُسدت شخصية ريتشارد أيضاً في فيلم Richard the lion heart والذي أنتج في عام 2013، وفيلم Richard the Lionheart: Rebellion، والذي أنتج عام 2015 ويرصد تمرد أبناء الملك هنري عليه، والحرب التي دارت بين الأب الملك وأبنائه.
كما تناول فيلم The Lion in Winter الذي أنتج عام 1968، أحداث القصر الملكي الإنكليزي عام 1183 عندما أعلن الملك هنري الثاني والد ريتشارد قلب الأسد أنه بصدد اختيار ولي العهد، ويبرز الجهات المتصارعة المتنافسة على العرش.
وتحدث عن ريتشارد وصلاح الدين الفيلم الوثائقي الحملة الصليبية الثالثة، والذي يرصد العلاقة بين القائدين.