في الثالث من سبتمبر/أيلول 2004، وافق العقيد الليبي معمر القذافي على دفع 35 مليون دولار كتعويضات لأهالي وضحايا تفجير ملهى لابيل الليلي في ألمانيا، الذي يتردد عليه الجنود الأميركيون. والحقيقة أن فترة حكم القذافي التي بدأت بانقلاب عسكري في الأول من سبتمبر/أيلول 1969 فيما يعرف بثورة الفاتح، وحتى مقتله على يد معارضيه في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، شهدت تكرار مثل هذه الحادثة بدفع المليارات من الدولارات لضحايا غربيين كان القذافي خلف مقتلهم، مثل ضحايا طائرة لوكيربي وضحايا الطائرة الفرنسية بالنيجر، في حين لا يزال بعض ضحاياه يسعون للحصول على تعويضات من ليبيا حتى الآن مثل الممرضات البلغاريات، وضحايا الجيش الجمهوري الإيرلندي.
إذ ورط الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بلده في الكثير من الجرائم خارج ليبيا، بخلاف جرائمه الداخلية التي تكشفت عقب سقوطه، وأدى ذلك إلى نبذ المجتمع الدولي إياها سنوات عديدة متتالية، قبل أن يسعى لتصفية تلك الخلافات مع الغرب عبر دفع الملايين من أموال الليبيين، على سبيل "التعويض"، وهو ما رحب به الغرب كثيراً.
كما اضطر رئيس المؤتمر الوطني الليبي، محمد المقريف، للاعتذار عن جرائم القذافي ونظامه للمجتمع الدولي بالأمم المتحدة، في 2012، ككل، متعهداً بمحاربة الإرهابيين داخل المناطق الليبية كافة.
مقتل إيفون فليتشر.. أزمة دبلوماسية تنتهي بتعويضات تتجاوز 200 ألف جنيه إسترليني
في العاشرة والربع صباح يوم 17 أبريل/نيسان عام 1984، خرج مجموعة من معارضي حكم القذافي باتجاه السفارة الليبية بميدان سانت جيمس في لندن، وكانت الضابطة إيفون فليتشر ضمن الفرقة المكلفة مراقبة التظاهرة وحماية المتظاهرين، قبل أن يطلَق الرصاص من داخل السفارة، ليتسبب في مقتل فليتشر البالغة 25 عاماً، وإصابة 10 أشخاص آخرين، من بينهم خطيبها الضابط مايكل ليدل، الذي كان بجانبها عند وقوع الحادث.
وتسبب الحادث في أزمة كبيرة بين ليبيا والمملكة المتحدة التي حاصرت السفارة الليبية ومنعت خروج الدبلوماسيين منها؛ تخوفاً من تهريب سلاح الجريمة في الحقائب الدبلوماسية التي يحظر تفتيشها بموجب القانون الدولي، وقطعت المملكة المتحدة جميع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، كما تعالت التهديدات بحرق السفارة، وفي المقابل رفضت ليبيا السماح للمواطنين البريطانيين بمغادرة أراضيها.
استمرت التحقيقات في مقتل فليتشر والتكهنات بشأن هوية الجاني منذ عام 1984 وحتى عام 1999، عندما قبلت ليبيا تحمل مسؤولية الحادثة ودفعت تعويضات لعائلة فليتشر، لم يعلن عنها لكن قيل إنها تتراوح بين 200 و250 ألف جنيه إسترليني، وهي البادرة التي سبقت استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طرابلس ولندن.
تعويضات ضحايا ملهى لابيل الألماني.. دفعتها مؤسسة القذافي الخيرية ووقّع عليها ابنه
في عام 2001، أصدرت محكمة ألمانية حكماً يقضي بأن المخابرات الليبية تتحمل مسؤولية الانفجار الذي وقع في الخامس من أبريل/نيسان 1986، وخلف قتيلين من الجنود الأميركيين وامرأة تركية وقرابة 200 مصاب.
وقّع سيف الإسلام القذافي على اتفاقية مع الجانب الألماني الذي مثله مجموعة من محامي أسر الضحايا، وتعهدت مؤسسة القذافي الخيرية بدفع المبلغ كاملاً -35 مليون دولار- للضحايا الألمان فقط، بجانب مليون دولار تحصل عليه أسرة الضحية التركية، دون أي إشارة للضحايا الأميركيين في الحادث، الذين تضمنتهم اتفاقية بين الولايات المتحدة وبريطانيا مع ليبيا بعد أشهر في عام 2003 نفسه.
وعقب توقيع الاتفاقية، تحرك الاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات المفروضة على ليبيا بمبادرة من إيطاليا، كما دعا القذافي المستشار الألماني، غيرهارد شرودر، لزيارة بلاده، في بادرة من الرئيسين لتحسين العلاقات تدريجياً، في حين فتحت هذه التسوية المجال لاتفاقيات أعلى قيمة لضحايا حوادث أخرى تورطت فيها ليبيا مثل حادثة لوكيربي.
تعويضات ضحايا لوكيربي 2.7 مليار دولار للضحايا الأميركيين مقابل 300 مليون لضحايا ليبيا
في 21 ديسمبر/كانون الأولعام 1988، انفجرت طائرة ركاب من طراز بوينغ 747 تابعة لشركة بان أميركان -طائرة بان آم الرحلة 103 Pan Am 103- في المجال الجوي لقرية لوكيربي بأسكتلندا، وتسبب التفجير في مقتل كل من كان على متنها، 269 شخصاً، بجانب 11 شخصاً على الأرض، وبلغ عدد الضحايا الأميركيين 180 شخصاً.
في الحطام، عثر المفتشون على آثار لمادة "سيميتيكس" شديدة الانفجار التي تنتجها ليبيا، فأشير بأصابع الاتهام لها، وبعد 3 أعوام من المحاكمة أُدين ضابط المخابرات الليبي عبد الباسط علي المقرحي في 2001، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكن أفرج عنه لأسباب رحيمة بعد إصابته بسرطان البروستاتا وتُوفي في 2012.
وفي أبريل/نيسان 2003، أعلنت ليبيا على لسان وزير خارجيتها عبد الرحمن شلغم، "تحمل المسؤولية المدنية عن تفجير لوكيربي" ودفع التعويضات التي نص عليها "القانون المدني الدولي والاتفاق الذي تم التوصل إليه بلندن في مارس 2003 من قبل المسؤولين الليبيين والأميركيين والبريطانيين".
وكانت الولايات المتحدة في هذه الأثناء قد فرضت على ليبيا عدة عقوبات اقتصادية وفرضت حولها سياجاً من العزلة؛ لكونها تحت حكم نظام القذافي، كما أصدر الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، أوامره بتوجيه الطائرات الحربية الأميركية في عام 1986 عدة ضربات جوية داخل ليبيا، تضمن الاتفاق تعويض ضحاياها الليبيين –ومن بينهم ابنة القذافي بالتبني- بـ300 مليون دولار؛ ولعل هذا ما دفع الرئيس الليبي السابق للجلوس للتفاوض وتسوية الأمر وإن لم يقر صراحة بمسؤوليته عن الحادث.
وقد تم تحويل مبلغ التعويضات، وقيمته 2.7 مليار دولار، من البنك الوطني الليبي إلى حساب في بنك التسويات الدولية ومقره سويسرا، وحصلت كل أسرة من أسر الضحايا على 10 ملايين دولار تقريباً.
ولم تقتصر مزايا التسوية بين الطرفين الليبي والأميركي على دفع التعويضات مقابل رفع العقوبات وقبول انخراط ليبيا في المجتمع الدولي ثانيةً؛ بل كانت هناك وعود بعلاقات تجارية واستثمارية ضخمة بين البلدين، وهو ما اتضح في مقابلة وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس وسيف الإسلام القذافي لأميركا، والمحادثة الهاتفية غير المسبوقة بين جورج بوش والقذافي في العام نفسه والتي أعقبتها زيارة رايس لليبيا، وهي أول زيارة لوزير خارجية منذ عام 1953.
بعدها وقّع الرئيس بوش أمراً تنفيذياً يستعيد الحصانة الليبية من الدعاوى القضائية المتعلقة بالإرهاب، كما اعتمد الكونغرس بالإجماع قانون حل الدعاوى الليبية، مع إعفاء ليبيا من التشريع الذي تم تمريره في العام نفسه لتمكين تعويض ضحايا الإرهاب باستخدام الأصول المجمدة للحكومات الملامة في الهجمات؛ فيما اعتبر إعادة تأهيل ليبيا من دولة إرهابية إلى حليف أميركي.
ضحايا الطائرة الفرنسية أقل حظاً واهتماماً من ضحايا لوكيربي
ربما لم يحظ ضحايا UTA Flight 772 أو طائرة "يو تي إيه" الفرنسية رقم 772 التي انفجرت فوق النيجر بينما كانت في طريقها إلى باريس قادمة من الكونغو برازفيل، بنفس القدر من الاهتمام والضجة الإعلامية اللذين حظي بهما ضحايا لوكيربي عام 1989، وهو الحادث الذي خلف 170 قتيلاً هم أفراد طاقمها والركاب الذين كانوا على متنها.
رغم أنه في مارس/آذار 1999، وعقب محاكمة غيابية استغرقت أقل من ثلاثة أيام، استغرقت محكمة فرنسية خاصة لمكافحة الإرهاب ساعتين قبل أن تحكم على ستة مسؤولين ليبيين بالسجن المؤبد؛ من بينهم عبد الله السنوسي، صهر القذافي ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجي في ليبيا.
واتهمت السلطات الفرنسية النظام الليبي بالضلوع في التفجير للتخلص من خصم ليبي كان على متنها، أو نكاية في السلطات الفرنسية التي لم تقف إلى جانب ليبيا في نزاعها الحدودي مع تشاد في السبعينيات والثمانينيات.
ولم تدخل السلطات الفرنسية في تفاوض مباشر مع القذافي للحصول على تعويضات لعائلات الضحايا، فحصلوا على مبالغ أقل بكثير من عائلات ضحايا الحوادث الأخرى؛ اقتصرت على مبالغ تتراوح بين 3 آلاف و300 ألف يورو، بحسب درجة قرابتهم من القتلى.
لكن أقارب الضحايا لم يستسلموا، كما تابعت منظمة SOS Attentats، وهي منظمة فرنسية لضحايا الهجمات الإرهابية، الحكومة الليبية، ولم يكن هدفها الأول هو المال؛ بل استصدار حكم ضد القذافي نفسه، خاصة بعد أن أعلن المحققون أنهم حصلوا على اعتراف من أحد المتهمين يفيد بأن القذافي شخصياً أمر بتفجير الطائرتين -الأميركية والفرنسية- لذا جاءت تفاصيل الحادثتين متشابهة، وبقي أهالي الضحايا ينتظرون أحكاماً بمزيد من التعويضات.
تعويضات لا تزال مطلوبة.. الحكومة البلغارية تسعى لاسترداد 56 مليون دولار من ليبيا
لم تبت المحاكم الدولية في جميع دعاوى التعويض التي رفعت ضد نظام القذافي بعد أكثر من 7 سنوات على سقوطه؛ إذ تطالب الحكومة البلغارية بأكثر من 56.6 مليون دولار، حصلت عليها ليبيا منها عن طريق "الابتزاز" من أجل الإفراج عن الممرضات البلغاريات اللائي اتُّهمن بالتسبب في إصابة أكثر من 400 طفل بفيروس نقص المناعة "الإيدز" في 2007، وحكم عليهن بالإعدام، ثم خفف إلى السجن المؤبد في 2007.
وسعت الحكومة البلغارية كثيراً لإنهاء أزمة الممرضات التي امتدت 8 سنوات، إلا أن الحكومة الليبية لم تقبل إلا بعد دفع هذا المبلغ، مع تدخل مؤثر من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي تعهد بمزيد من التعاون التجاري مع ليبيا.
وتعالت مطالب الممرضات البلغاريات وحكومتهن بالتعويض جراء ما تعرضن له من حوادث تعذيب على مدار السنوات الثماني للسجن، وخاصة بعد كشف شكري غانم، رئيس الحكومة في عهد القذافي، براءتهن والطبيب الفلسطيني الذي كان رفقتهن، من المكيدة التي نفذها مسؤولون ليبيون بارزون عن عمد، حسبما أوضح في مذكراته.
ضحايا الجيش الجمهوري.. آمال متجددة في الحصول على تعويضات من الخزانة الليبية
حتى الآن لا يزال ضحايا تفجيرات الجيش الإيرلندي الجمهوري يسعون للحصول على تعويضات هائلة من الجانب الليبي، بعد أن زود نظام القذافي هذه القوات بأطنان من الأسلحة، خاصة القنابل شديدة الانفجار من نوع Semtex، التي استخدمها في جرائم وحشية ارتكبها في السبعينيات والثمانينيات.
ومن بين أبرز التفجيرات؛ تفجير متجر هارودز بلندن في عام 1983، وحفل إحياء ذكرى إنيسكيلين في عام 1987، ووارينغتون في عام 1993، وفي كناري وارف، ودوكلاندز بلندن في عام 1996.
واتهمت عائلات الضحايا السلطات البريطانية، ممثلة في توني بلير، بالتهاون في حقوقهم؛ خشيةً على علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الليبيين، وهو ما لم ينفه جاك سترو، وزير الخارجية السابق، الذي أوضح أن حكومة بلير كان همها الأكبر تشجيع النظام الليبي على تفكيك برنامجهم للأسلحة الكيماوية والنووية، لافتاً إلى استفادة الشركات البريطانية من الاستثمار في ليبيا وأهمية إقامة علاقات تجارية ضخمة مقابل التعويضات، إلا أنها لا تزال في سعيها للحصول على ما تعتقد أنه أبسط حقوقها جراء ما حدث لذويها.
في المقابل، كانت روما قد وافقت على دفع تعويضات بقيمة 5 مليارات دولار أميركي إلى ليبيا في 2008، تعويضاً لها عن الأخطاء التي ارتكبتها خلال حقبة الاستعمار الإيطالي لها، ما ساعد على تحسن العلاقات بينهما تدريجياً وزيارة القذافي لإيطاليا في 2009.
وبشكل عام، يمكن القول بأنه في كل مرة تورط فيها القذافي ونظامه في جريمة قذرة دفعت الخزانة الليبية الثمن باهظاً، والعجيب أن أغلب أسباب تلك الجرائم عُزيت عادةً إلى الأهواء الشخصية والرغبة الفردية للقذافي في الانتقام دون أي اعتبار لمصلحة بلده وما قد يعود عليه من ضرر، وكانت النتيجة المنطقية عقوداً من النبذ والرفض والعقوبات عاناها الشعب الليبي وحده.