طريق طويل يمتد لأكثر من 1600 عام مرَّت به كسوة الكعبة حتى وصلت إلى الشكل الذي نراها عليه الآن، وفي موسم الحج كل عام تتردد بعض الأسئلة في أذهان المسلمين عن أول مَن كسا الكعبة؟ وكيف أصبح لون الكِسوة أسود؟ ومتى بدأت الكتابة عليها؟ وما دور مصر فيها على مر التاريخ؟ هذا ما سنحاول التعرف عليه سوياً من صفحات التاريخ.
ملك يمني أول مَنْ كساها بعد رؤية في منامه
أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن أول من كسا الكعبة هو النبي إسماعيل بن النبي إبراهيم، وقيل إنه عدنان بن أد، لكن العديد من كتب التاريخ تُرجع الفضل في كسوتها للمرة الأولى إلى الملك اليمني "تبع أبوكرب أسعد الحميري".
وقد حدث هذا قبل الهجرة النبوية بنحو 220 سنة، عندما كان الحميري عائداً من إحدى غزواته إلى يثرب "المدينة المنورة حالياً"، ورأى في منامه أنه يكسو الكعبة ويجعل لها باباً ومفتاحاً، فعرج إلى مكة وحقق رؤياه.
ويُقال أن الملك اليمني أنشد بعد أن كسا الكعبة:
وكسونا البيت الذي حرم … الله مُلاء معضداً وبرودا
فأقمنا من الشهر عشراً … وجعلنا لبابه إقليدا
وكانت كسوة الكعبة الأولى من المسوح والأنطاع، وقيل إنها كانت من الخُصف، وهي ثياب غلاظ تنسج من الخوص والليف، واستبدل "الحميري" بعد ذلك هذه الكسوة بأخرى من الملاء والوصائل، وهي ثياب يمنية ناعمة حسنة.
واظب خلفاء "الحميري" على كسوة الكعبة، فكسوها بالجلد والقباطي "قماش مصري من الكتان" زمناً طويلاً، ثم أخذ الناس يقدمون إليها هدايا من الكساوى المختلفة، ويلبسونها على بعضها، فكان إذا بلي ثوب وضع عليه آخر، ولم تكن الكعبة في ذلك الحين تُكسا بكسوة واحدة كما هو الحال الآن، بل كنت توضع عليها كُساً شتى، وتوصل ببعضها البعض دون تقييد بلون خاص.
أم العباس أول امرأة كست الكعبة في التاريخ
استمرت كسوة الكعبة دون تنظيم حتى جاء قُصي بن كلاب "الجد الرابع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم" فاتفق مع قبائل قريش على جمع مبلغ من المال لكسوة الكعبة سنوياً، واستمر أبناؤه من بعده على هذا التقليد، حتى جاء أبوربيعة بن المغيرة بن مخزوم -وهو تاجر قرشي ثري- وأخذ على نفسه أن يكسو الكعبة منفرداً سنة، وتكسوها قبائل قريش جمعاء سنة، وسُمي لهذا "الفعل العدل" لأنه عدل بين قبائل قريش كلها، وكانت الكعبة تُكْسا في ذلك العصر يوم عاشوراء بعد انتهاء موسم الحج.
قبل ساعات من الوقوف بعرفة كسوة الكعبة تتطاير وعواصف في منى تطيح بخيام الحجاج
وممن كسوا الكعبة أيضاً قبل الإسلام السيدة نُتيلة بنت جناب بن كليب، والدة العباس بن عبدالمطلب "عم النبي محمد"، ويُروى أن العباس قد ضلّ الطريق وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو الكعبة بالديباج الأبيض وهو ما حدث.
كان تزيينها موضعاً للتنافس بين الفاطميين والعباسيين
استبدل النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) كسوة الكعبة في عام فتح مكة 8 هـ/629 م، بعدما احترقت على يد امرأة أرادت تبخيرها، وروى ابن هشام في سيرته أن الكعبة في عهد الرسول كانت تُكسا بالقباطي البيضاء المصنوعة في مصر، ثم كُسيت بالبرود وهي ثياب يمنية.
وكسا الخلفاء الراشدون الكعبة من بعد الرسول فكساها أبوبكر الصديق بالقباطي، وكذلك فعل عمر الذي أمر بأن تكون الكسوة من بيت مال المسلمين وأن تحاك في مصر، أما الخليفة عثمان بن عفان فكساها بثوبين أحدهما من البرود اليمنية وكان يوضع يوم التروية "الثامن من شهر ذي الحجة"، والآخر من القباطي ويوضع فوق الأول يوم السابع والعشرين من رمضان، وكان عثمان بذلك أول رجل في الإسلام يضع على الكعبة كسوتين إحداهما فوق الأخرى، أما الخليفة علي بن أبي طالب فلم يذكر المؤرخون أنه كسا الكعبة، وربما يعود هذا لانشغاله بالفتن التي حدثت في عهده.
وحافظ خلفاء بنو أمية على تقاليد كسوة الكعبة فكانوا يكسونها من بيت مال المسلمين مرتين في السنة: الأولى من الديباج الخراساني وكانت يوم عاشوراء، والثانية من القباطي في آخر رمضان.
واستمرت الكعبة تُكسا مرتين في السنة في عهد العباسيين حتى جاء الخليفة العباسي المأمون، فرُفِع إليه أن الديباج يبلى ويتخرّق قبل بلوغ عيد الفطر، فأمر بأن تكسا الكعبة ثلاث مرات في السنة: الأولى بالديباج الأحمر يوم التروية، والثانية بالقباطي يوم هلال رجب، والثالثة بالديباج الأبيض وتكسا به يوم 27 رمضان.
وقد تغير لون كسوة الكعبة عدة مرات خلال الحقبة العباسية، فكُسيت بالديباج الأحمر والأبيض، ثم كُسيت بالديباج الأصفر ثم بالديباج الأخضر، ولما تولى الخلافة الناصر لدين الله أبوالعباس أحمد (575هـ – 622هـ) كساها بالديباج الأسود واستمر هذا لون كسوتها حتى اليوم، بحسب ما جاء في كتاب "تاريخ الكعبة المعظمة: عمارتها وكسوتها وسدنتها" للكاتب حسين عبدالله باسلامه.
بينما تعود أصول زركشة كسوة الكعبة والكتابة عليها إلى عصر العباسيين، فقد ذكر المؤرخ محمد بن إسحاق الفاكهي في كتابه "أخبار مكة" أنه رأى كسوة من قباطي مصر مكتوب عليها: "بسم الله بركة من الله، مما أمر به عبدالله المهدي محمد أمير المؤمنين، أصلحه الله محمد بن سليمان، أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة، على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة 159 هـ".
ونافس الفاطميون خلفاء بني العباس على كسوة الكعبة منذ سيطرتهم على مصر سنة 362 هـ/ 973 م، إذ أمر المعز لدين الله الفاطمي بعمل كسوة الكعبة في مصر وإرسالها باسمهم إلى مكة، وكانت هذه الكسوة مربعة الشكل من ديباج أحمر وفي حوافها 12 هلالاً ذهبياً، وفيها ياقوت أحمر وأصفر وأزرق، ومنقوش عليها بحروف من الزمرد الأخضر المزين بالجواهر الثمينة، وكانت كل هذه الأمور مستحدثة، وتأتي في إطار التنافس بين الخلافتين الفاطمية والعباسية، الذي كان الصراع بينهما على أشده في ذلك الحين.
تمرد آل سعود والوهابيين على العثمانيين أدى لامتناع محمد علي باشا عن إرسالها
بدأت قصة مصر مع كسوة الكعبة منذ عصر ما قبل الإسلام، عندما كسا خلفاء "تبع أبوكرب أسعد الحميري" الكعبة بالقباطي، وهو قماش مصري منسوج من الكتان المبيض، وكان يُصنع في مدينة تنيس "تقع نواحي بورسعيد الآن"، وكسا الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) وخلفاؤه أيضاً الكعبة بقماش القباطي المصري الشهير، لكنه كان يُرسل بأمر من الخليفة حتى سقطت دولة العباسيين وتولى سلاطين مصر أمر الكسوة.
كان الملك المظفر الرسولي ملك اليمن أول من كسا الكعبة، بعد سقوط الدولة العباسية عام 656 هـ/ 1258 م، وكان الظاهر بيبرس البندقداري أول من كساها من ملوك مصر المملوكية، واستمرت الكسوة ترد من مصر حيناً ومن اليمن حيناً آخر حتى عهد الملك المصري الصالح إسماعيل بن ناصر بن قلاوون (743 هـ/ 1342 م)، الذي اشترى ثلاث قرى هي: بيسوس وسندبيس وأبوالغيط من قرى محافظة القليوبية، ودفع ثمنها من بيت مال المسلمين، ثم وقفها على كسوة الكعبة، وكانت الكعبة تُكسا في ذلك الحين مرة واحدة في العام يوم النحر، بحسب كتاب "تاريخ الكعبة المعظمة: عمارتها وكسوتها وسدنتها".
ووصف المؤرخ الشهير ابن بطوطة كسوة الناصر بأنها كانت سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان، وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً"، وفي سائرها طراز مكتوب فيه بالبياض آيات من القرآن.
ظلت الكعبة تُكسا سنوياً من ريع وقف الصالح إسماعيل طوال عهد المماليك، وحتى بعد أن سيطر العثمانيون على مصر ظل المحمل -موكب الكسوة- يخرج من مصر وسط احتفال شعبي ورسمي، ولما تولى السلطان سليمان خان "سليمان القانوني" الخلافة رأى أن القرى الموقوفة للكسوة قد خربت وضعف ريعها عن الوفاء بمصروف الكسوة، فأمر بأن يكمل الباقي من الخزائن السلطانية بمصر، ثم أضاف إلى القرى الثلاث الموقوفة 7 قرى أخرى فأصبح الوقف عامراً فائضاً.
واستمر وقف الكسوة قائماً حتى حلَّه محمد علي باشا وضم إيراداته إلى خزانة الدولة، مع التعهّد بصنع الكسوة من المال العام، وأقام لذلك داراً خاصة في شارع "الخرنفش" بحي الجمالية.
حافظت الحكومة المصرية لنحو 6 قرون على التزامها بإرسال كسوة الكعبة سنوياً باستثناء فترتين امتنعت فيهما عن إرسالها، أولى هذه الفترات كانت بين عامي 1221 هـ/1806 م و1228هـ/1813 م خلال حكم محمد علي باشا، الذي امتنع عن إرسال الكسوة إلى أراضي الحجاز بسبب تمرد آل سعود على العثمانيين. وثانيهما بين عام 1345هـ/1927م و1358هـ/1940م، خلال حكم الملك فؤاد، الذي منع إرسال الكسوة بعدما هاجم جنود تابعون للملك عبدالعزيز آل سعود موكب "المَحمل" بدعوى أن به بدع.
عادت مصر عام 1358هـ/1940م لإرسال كسوة الكعبة سنوياً، واستمر الحال كذلك حتى عام 1381هـ/1962م عندما توقفت مصر عن إرسال المحمل لاختلاف وجهات النظر السياسية مع الدولة السعودية، فقررت السلطات السعودية منذ ذلك الحين أن تتولى بنفسها صناعة الكسوة.
كسوة الكعبة في العهدة السعودية.. استلمت المهمة بعدما توقفت مصر
لما استشعرت السلطات السعودية الخطر من أن تظل الكعبة بلا كسوة، بعدما امتنعت مصر عن إرسالها عام 1345هـ/1927م، أمر الملك عبدالعزيز آل سعود في عام 1346هـ/1928م، بإنشاء دار خاصة بصناعة الكسوة، وأنشئت الدار بمنطقة أجياد بمكة المكرمة.
واستمرت الدار تحيك الكسوة حتى عادت مصر لإرسالها عام 1358هـ/1940م، فتوقفت عن العمل حتى عام 1381هـ/1962م، ثم أعيد فتحها وتشغيلها مرة أخرى. وظل هذا المصنع يقوم بصنع الكسوة إلى عام 1397هـ/1977م. حيث نقل العمل في الكسوة إلى المصنع الجديد، الذي تم بناؤه في أم الجود بمدينة مكة، ولازالت الكسوة تصنع به إلى يومنا هذا.
مراحل تصنيع الكسوة: أفخم أنواع الحرير.. ويمر في مختبرات خاصة
تمر صناعة كسوة الكعبة حالياً بالعديد من المراحل، فهي تبدأ بشراء أفضل أنواع الحرير الطبيعي الخالص في العالم، ويتم استيراده من إيطاليا، وهو عبارة عن خيوط مغطاة بطبقة من الصمغ الطبيعي تسمى "سرسين" تجعل لون الحرير يميل إلى الاصفرار.
مئات الكيلوغرامات من الذهب والحرير والفضة.. هكذا يتم تغيير كسوة الكعبة
تتم صباغة الحرير على مرحلتين لتحويله إلى اللون الأسود الذي نراه، الأولى مرحلة الغسيل لإزالة الصمغ "السرسين"، والثانية تتم صباغة الخيوط وفق معايير محددة وصارمة حتى يخرج في أفضل شكل.
بعد ذلك تأتي مرحلة الحياكة، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين، أحدهما قسم النسيج الآلي لصناعة قطع القماش، والآخر النسيج اليدوي لصناعة القماش المنقوش. ويتم إرسال القماش إلى المختبر لبحث مطابقة الخيوط للمواصفات من حيث رقمها وقوة شدها ومقاومتها.
ترسل الكسوة بعد ذلك إلى قسم الطباعة لمعالجتها وإنتاج تصميمات الزخارف والكتابات المطرزة على الحزام والستارة، ومنه إلى قسم التطريز حيث يطرز الثوب بالأسلاك الفضية والذهبية. وتتم عملية التطريز أولاً بوضع الخيوط القطنية بكثافات مختلفة فوق الخطوط والزخارف، ليتكون الهيكل الأساسي البارز للتصميم والحروف، ثم يغطى هذا التطريز بأسلاك من الفضة فقط ، المطلية بالذهب ليتكون في النهاية تطريزٌ بارزٌ مذهبٌ يصل ارتفاعه فوق سطح القماش من "1-2.5 سم".
بعد كل هذه المراحل يرسل الثوب إلى قسم التجميع، لأن كل جنب من جوانب الكعبة يتم تفصيله على حدة حسب عرض الجنب. ويقوم القسم بتوصيل القطع بعضها مع بعض مع المحافظة على التصميم الموجود عليها، ثم تبطينها بقماش من القطن بنفس العرض والطول، وعند التوصيلات تتم خياطتها بمكائن الخياطة الآلية.