ظهرت لإنقاذ الجنود لا المدنيين.. تاريخ سيارات الإسعاف يُظهر كيف لقّن الموت البشرية دروساً قاسية للحياة

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/01 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/01 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
عجلة إسعاف بدائية

هي لحظات، تلك التي تقف بين الموت والحياة. جهود المسعف في استعادة النفَس وإنعاش القلب مدة ثوانٍ تؤجِّل الموت فتعطي فرصة ثانية للحياة.

ويدين الملايين حول العالم لسيارات الإسعاف بحياتهم، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن أول سيارة إسعاف في العالم ظهرت في 28 يوليو/تموز 1792، على يد البارون والجراح الفرنسي البارز في جيش نابليون بونابرت، دومينيك جان لاري، إبان الحرب الفرنسية-النمساوية، قبل أن تصبح في حياتنا المعاصرة جوية عبر طائرات الهليكوبتر.

الرومان أول من بدأ الاعتناء بجرحى الحرب وتدريب الأطباء العرب في القدس

اقترن مفهوم "الإسعاف" بضحايا الحروب منذ بداية الصراع البشري والحروب. كانوا هؤلاء الضحايا يُتركون على أرض المعركة يعانون البرد والعطش واحتمالات التعذيب من قِبل الأعداء حتى انتهاء المعارك، بعدها يتم نقل القلة التي تبقى على قيد الحياة وبطرق تقليدية للغاية.

حمل المصابون على نقالات تُرفع على الأكتاف أو تحملها الحيوانات الأليفة -كانت النقَّالات تُثبَّت على ظهور الحيوانات ببعض الأربطة- أو على ظهور تلك الحيوانات أو في سلال أو جوَّالات أو كراسي توضع عليها، أو على عجلات يدفعها إنسان أو تجرها الخيول والبغال، لتضميد جراحهم.

نقل المصابين قبل اختراع سيارة الإسعاف
نقل المصابين قبل اختراع سيارة الإسعاف

إلى أن قرَّر فيليب الثاني المقدوني، والد الإسكندر الأكبر، تعيين عددٍ من الأطباء والجراحين ونقَّالة لحمل المصابين لكل كتيبة قتالية في جيشه.

بدأت الجيوش الرومانية في الاعتناء بجرحاها من الجنود منذ القرن السادس الميلادي، وعيَّن الإمبراطور البيزنطي موريكيوس فرقاً من الفرسان الذين يمتطون خيولاً عليها سروجٌ مُعدَّة بشكلٍ يسمح بنقل المصابين عليها إلى الخيام الطبية المجهَّزة لتضميد جراحهم في أثناء الحرب.

في القرن الحادي عشر، خصَّص الصليبيون عرباتٍ لنقل الجنود المصابين في قوافل الأمتعة إلى خيامٍ مخصصة لعلاجهم قبل نقلهم إلى مستشفيات القدس. كانت تتراوح التجهيزات بين سريرٍ من القشّ أو قش ملقى على أرضية عربة شحن، أو عربة ركاب مخصصة لنقل الجرحى.

وأصبحت فرقة فرسان القديس يوحنا، التي تأسست عام 1080، توفر الرعاية الطبية لحجاج الأراضي المقدسة.

أول كتيبة طوارئ أوكلت إليها مهمة تطبيب المصابين على جانبي ساحة المعركة، ونقل الجرحى إلى الخيام، بعد تلقِّيهم تدريبات من أطباء عرب ويونانيين على الإسعافات الأولية.

ثم فرضت إسبانيا تصميم عربات لنقل جنودها الجرحى

وفي عام 1476، أمرت الملكة إيزابيلا، ملكة إسبانيا، بتصميم عربات مخصصة لنقل الجرحى من الجنود، وهو التوجه الذي تبنَّته مختلف جيوش أوروبا بعد ذلك.

ورغم أن معظم الجيوش الأوروبية كان لديها أطباء وجراحون متخصصون بعلاج الجرحى من جنودها، بجانب المستشفيات الميدانية والثابتة حتى منتصف القرن الثامن عشر، فإن خدمة إسعاف الجرحى ونقلهم من ميدان المعركة لم تكن متوافرة.

وكانت اللحظة المفصلية عندما شهد كبير الأطباء بجيش نابليون بونابرت، دومينيك جان لاري، معاناة الجرحى من الجنود الفرنسيين في معركة ليمبورغ؛ بعد أن تُركوا في أرض المعركة طيلة 24 ساعة قبل البدء في مداواة جراحهم.

سيارة إسعاف يجرها حصان في نيويورك 1895
سيارة إسعاف يجرها حصان في نيويورك 1895

ثم ابتكر كبير أطباء بونابرت أول عربة إسعاف رسمية

ولئلا تتكرر تلك المأساة، ابتكر الطبيب الفرنسي لاري أول عربة إسعاف وكانت ذات عجلتين تجرها الخيول، لها هيكلٌ خفيف لسرعة الحركة، ومزودة بغطاءٍ للحماية من تقلبات الجو، ومهمتها تقديم العلاجات الأولية للجنود قبل نقلهم إلى خيام الرعاية الطبية، مع نقل الحالات التي تستلزم إلى مستشفيات مجهزة، وكانت هذه أول مجموعة طبية رسمية في أي جيش بالعالم.

المحفة أو الكراسي المحمولة التي نلقت المرضى في القرن الـ18
المحفة أو الكراسي المحمولة التي نلقت المرضى في القرن الـ18

وفي هذه الفترة كان مصطلح "ambulances" لا يزال يطلق على المستشفيات المخصصة لعلاج المصابين والعربات التي تنقلهم، حتَّى ظهر مصطلح "field hospital-أو المستشفى الميداني" في منتصف القرن التاسع عشر، بعدها اقتصرت ambulance على الوسائل التي تنقل المرضى والمصابين.

وظهرت خدمة منافِسة لسيارة الإسعاف التي ابتكرها لاري، تمثَّلت في عربة معبَّأة بالتجهيزات الطبية والضمادات، تحمل الأطباء وأطقم التمريض، إلى ساحة المعركة لتضميد جراح المرضى هناك، ابتكرها البارون بيرسي.

نقالة في بريطانيا 1890
نقالة في بريطانيا 1890

كما ابتكر البارون لاري، بعد ذلك، عربة إسعاف أخرى  لها 4 عجلات تستطيع السير على المنحدرات وتوفر قدراً أكبر من الراحة للمرضى، ومنذ ذاك الوقت أصبح الاعتماد على "عربة" نقل الجرحى والمصابين هو المتبع عالمياً، خاصة في الحروب.

من جر الخيول إلى محركات فورد

بدأت شركة Hess and Eisenhardt، المتخصصة في مجال تصنيع السيارات، بصناعة سيارات الإسعاف عام 1890. أما أول سيارة إسعاف كهربائية مزودة بمحركات، فظهرت عام 1899، وصُنعت في شيكاغو وتبرَّع بها 5 من رجال الأعمال البارزين لمستشفى مايكل ريس، وامتازت بالسرعة الكبيرة مع السهولة السلاسة في الحركة، ودرجة حفاظ أكبر على سلامة المريض، واستطاعت السير من 20 إلى 30 ميلاً.

خدمة إسعاف المرضى إبان الحرب الأهلية الأميركية
خدمة إسعاف المرضى إبان الحرب الأهلية الأميركية

ثم صنعت Hess and Eisenhardt سيارة إسعاف مدفوعة بمحرك عام 1906، ومع بداية الحرب العالمية الأولى كانت لا تزال بعض سيارات الإسعاف تجرها الخيول. وبمرور الوقت، تم تكييف سيارات الأجرة في باريس للقيام بخدمات الإسعاف.

سيارة إسعاف أميركية 1918
سيارة إسعاف أميركية 1918

وعندما دخلت أميركا الحرب العالمية، أحضرت 1000 من سياراتها Model-T Fords لأغراضٍ عديدة، من بينها نقل الجرحى، وأثبتت كفاءة عالية؛ نظراً إلى قدرتها على السير بسرعة 45 ميلاً/الساعة، وخاصة على الطرق الوعرة، وصنعت المزيد منها لنقل وتوزيع الجثث وغيرها من المهام.

سيارة إسعاف Model-T Fords الأميركية
سيارة إسعاف Model-T Fords الأميركية

وفي عام 1937 أنتجت Hess and Eisenhardt آخر إصداراتها من سيارات الإسعاف وهي في الوقت ذاته  أول سيارة إسعاف مكيفة الهواء في أميركا، أما أول سيارة إسعاف كهربائية شهدتها مدينة نيويورك فظهرت عام 1990، وبلغت سرعتها 60 ميلاً/ساعة.

سيارة إسعاف ألمانية إبان الحرب العالمية الثانية
سيارة إسعاف ألمانية إبان الحرب العالمية الثانية

منافسة بريطانية – أميركية على ابتكار السيارة الملائمة لكل الظروف

زاد الاهتمام بسيارات الإسعاف خلال الحرب العالمية الثانية، فقامت الولايات المتحدة الأميركية بتطوير سيارات دودج بمحرك أقوى وسرعات أكبر ووزن بلغ نصف طن، في حين استخدم البريطانيون سيارات "روفر 9" في الصفوف الأمامية، وكانت تتسع لنقالتين، أو نقالة واحدة و3 جرحى جالسين، أو 6جرحى جالسين.

سيارة إسعاف كاديلاك 1948
سيارة إسعاف كاديلاك 1948

وكانت آخر سيارة إسعاف بريطانية استخدمتها قوات التحالف هي سيارة "بيدفورد"، البالغ طولها 19 قدماً، واتسعت لـ4 نقالات، أو 10 جرحى جالسين، كما استُخدم نمط ثالث من سيارات الإسعاف، تمثَّل في المركبات أو العجلات البرمائية التي تستطيع السير على الأراضي الوعرة وعلى امتداد الشواطئ.

من الحروب للمدنيين

عقب تعيين إدوارد باري دالتون، الجراح السابق في الجيش، مشرفاً على الشؤون الصحية لمدينة نيويورك، تفشَّى وباء الكوليرا، فابتكر نظاماً لمواجهته، تمثل في: الشرطة التي يتم إبلاغها بالحالات المشتبه فيها، لتقوم على الفور بزيارة الحالة مع فريق من المفتشين الصحيين.

عربة إسعاف بريطانية 1904
عربة إسعاف بريطانية 1904

وعند التأكد من الإصابة، يتم استدعاء فريق متخصص بالتطهير في عربة مجهزة؛ أي إن العناصر الأربعة؛ الشرطة، والتلغراف، والمستشفى، وعربة نقل المرضى، نواة لابتكار سيارة الإسعاف بمفهومها الحديث.

في الوقت نفسه، كانت هناك مناشدات بتوفير المستشفيات لسيارات إسعاف في بريطانيا، بدأتها المجلة الطبية البريطانية عام 1862، كما كان عدم تأهيل القائمين على نقل المصابين عائقاً وتسبب في تفاقم الكثير من الكسور، وانتهى بالعديد من الحالات إلى بتر أطرافها أو الوفاة.

تفشي حمى الكوليرا شكل دافعاً قوياً

لكنَّ المناشدات لم تكن كافية لإقناع السلطات البريطانية، خاصة مع وجود أزمة في توفير تكاليف ذلك، غير أن  الخوف من تفشِّي الحمى، ومن بعده وباء الكوليرا، بسبب نقل المصابين في سيارات الأجرة وعربات اليد المكشوفة، دفعها للبحث عن طريقة آمنة لنقل مرضى الحالات المعدية.

عجلة إسعاف بدائية
عجلة إسعاف بدائية

وظهرت أول خدمة إسعاف مدني عام 1869، على يد دالتون في مستشفى "بلفيو" بنيويورك. كانت عبارة عن مركبات مجهزة بشكلٍ جيِّد ومزوَّدة بنقالات وأصفاد وسترات ضيقة، مع بعض التجهيزات الطبية مثل الضمادات وأدوات التجبير والخمور الطبية أسفل كرسي السائق، ولها أرضية متحركة يسهل سحبها لاستقبال المريض.

وبعد انتهاء الحرب بدأ توزيع سيارات الإسعاف على المستشفيات المدنية، ما ساعد على انتشارها.

أول سيارة إسعاف مخصصة للطرق الوعرة من دومينيك لاري
أول سيارة إسعاف مخصصة للطرق الوعرة من دومينيك لاري

إلا أن جون فورلي، أحد مؤسسي إسعاف القديس يوحنا، صمم سيارة إسعاف معدلة اعتمدتها أغلب قطاعات الشرطة -التي كان موكلاً إليه مهمة إسعاف المرضى آنذاك- حول العالم.

افتتح جمعية إسعاف سانت جون عام 1877، وبدأ حملة قومية لتدريب الأشخاص على إجراءات الإسعافات الأولية، المصطلح الذي ابتكرته جمعيته، ومن هنا بدأ تاريخ الإسعاف المدني في بريطانيا.

ثم طور إسعاف سانت جون عدة أشكال من عربات الإسعاف؛ من بينها نقالة ثابتة بين دراجتين في ليستر عام 1892، إلى دراجة رباعية العجلات في برمنغهام 1895، ثم دراجة غير عادية يسهل تحويلها إلى نقالة تُحمل على الأيدي من قِبل رجال الشرطة في 1906.

حادثة راح ضحيتها 112 شخصاً أدت إلى انتشار تدريبات الإسعافات الأولية

في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، لفت تطوران رئيسيان النظر إلى أهمية تدريب الجميع على خدمات الإسعاف؛ وهما: الإنعاش من الفم (التنفس الاصطناعي)، وتدليك القلب؛ إذ يلعب العلاج في مكان الحادث دوراً فعالاً في إنقاذ حياة المصاب، خاصة في حالة التعرض لنوبات قلبية مفاجأة.

كما أدى الحادث المروع إلى تحطم قطار هارو وويلدستون عام 1952، والذي راح ضحيته 112 شخصاً وخلَّف 340 مصاباً، إلى إعادة هيكلة مفهوم سيارات الإسعاف لتصبح مستشفيات متنقلة ومجهزة بشكل تام.

كان من الممكن إنقاذ العديد من الأشخاص لولا فقر التجهيزات، ومنذ ذاك الوقت، بدأ الاهتمام بتصنيع موديلات حديثة من سيارات الإسعاف وتجهيزها بأفضل الإمكانات واللوازم الإسعافية.           

ثم انتقل الإسعاف من الأرض إلى السماء عبر الهليكوبتر

خدمة الإسعاف الطائر في أستراليا عام 1954
خدمة الإسعاف الطائر في أستراليا عام 1954

تمت أول عملية نقل مصابين عبر الإسعاف الجوي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1915، حينما قام كابتن دانغيلرز، طيار فرنسي، بإجلاء ضابط صربي جريح من ساحة القتال إبان الحرب العالمية الأولى.

وبنهاية المعارك، كان هذا الطيار ومعه 5 طيارين آخرين قد أجلوا نحو 11 مصاباً بالطريقة نفسها. بعدها أصبح النقل العسكري الجوي للمصابين شائعاً نسبياً.

أما البريطانيون فاستخدموا الإسعاف الجوي لأول مرة في 1917، وأدى إلى تقليل زمن رحلة الإنقاذ من 3 أيام براً إلى 45 دقيقة فقط جواً.

وفي عام 1928، بدأت بولاية كوينزلاند، في أستراليا، أولى خدمات "الطبيب الملكي الطائر"؛ اتسعت الطائرة لطيار وطبيب وممرضة مع التجهيزات الطبية اللازمة لعلاج المصابين أينما وجدوا، وأحياناً مريض واحد إذا استدعت حالته نقله إلى المستشفيات المجهزة.

أسطول سيارات الإسعاف في أثناء الحرب
أسطول سيارات الإسعاف في أثناء الحرب

وأول استخدام للمروحيات في إجلاء الجنود المصابين من أرض المعركة، كان عام 1945، عندما تمَّ إنقاذ جندي أميركي جريح من الغابات في بورما، وبعدها أصبح الاعتماد على هذه الوسيلة شائعاً بفضل مناسبتها لظروف الحرب.

وتمركزت أول مروحية لإسعاف المدنيين بمستشفى سانتا مونيكا الأميركية في سبتمبر/أيلول من عام 1954، وسرعان ما انتشرت هذه الخدمة في أرجاء أميركا، وتباعاً انتشرت حول أنحاء العالم.