تصاعدت سُحُب التوتر إلى آفاق جديدة بين تركيا وألمانيا مؤخراً على خلفية خبر اعتزال اللاعب الألماني الجنسية التركي الأصل مسعود أوزيل اللعب الدولي، رداً على الهجوم الذي تعرض له من جانب الصحافة الألمانية، واتهامه بالتسبب في خروج المنتخب الألماني من الدور الأول لكأس العالم 2018، ما أعاد غصّة الماضي إلى الحلوق، وذكّر الأذهان ببدايات العلاقة بين البلدين وذروة توترها.
ربما لا يعرف البعض أن للعلاقة الألمانية – التركية جذوراً أبعد من هذا التوتر المتصاعد في الفترة الأخيرة، جذور علاقة بدأت قبل 100 عام تقريباً ومرت بمراحل كانت فيها مستقرة هادئة، بل تعاونية مُثمرة في بعض الفترات، لكن كما يُوصف المُحال لم تبق الأمور على هذا الحال.
الحربان العالميتان: حلفاء، فأعداء.. ثم أصدقاء!
واحدة من أولى العلاقات بين البلدين كانت عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى مباشرة، عندما وقعت ألمانيا اتفاقية تحالف عسكري مع الإمبراطورية العثمانية في 2 أغسطس/آب 1914، بهدف تحديث وتقوية الجيش العثماني، وتوفير مدخل آمن لألمانيا إلى المستعمرات البريطانية المجاورة.
أدى هذا القرار إلى إعلان كلٍ من فرنسا والمملكة المتحدة الحرب على الإمبراطورية العثمانية، الحرب الضارية التي استمرت 4 أعوام كارثية انتهت بخسارة ألمانيا وحلفائها الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1918، بعدما خسرت الإمبراطورية العثمانية أيضاً العديد من مناطق نفوذها لصالح الفرنسيين والبريطانيين، الذين اقتسموا فيما بينهم الأراضي التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية، والذي يعرفها العالم باسم اتفاقية "سايكس – بيكو".
بعدما ظنَّ الحالمون في العالم أن الدول قد تؤثر في سياساتها دماء ضحايا الحرب العالمية الأولى، وتنبذ الحرب كلغةٍ للحوار، استفاق العالم أجمع على فاجعة الحرب العالمية الثانية التي اندلعت بين دول المحور بزعامة الحزب النازي الألماني الذي رأسه أدولف هتلر. ورغم محاولات الجمهورية التركية (وريثة الدولة العثمانية) أن تبقى على الحياد بعيداً عن تلك الحرب الأشد فتكاً مما سبقتها، فإنها تحالفت مع الجبهة الفرنسية البريطانية في العام 1939 بالتزامن مع سقوط باريس.
الأمر الذي جعل الرئيس التركي وقتها عصمت إينونو يدرك أنه على الجانب الخاسر، ليوقع اتفاقية صداقة مع الألمان في العام 1941، تعهّد فيها ببقاء تركيا على حياد تام، لكن هذا لم يبقها خارج الضغوط الكبيرة من جانب دول الحلفاء عليها للدخول في الحرب، ومن ثم أعلنت تركيا دخولها الحرب في أواخرها في العام 1945 بعد الانضمام إلى دول الحلفاء عسكرياً دون خوض أية معركة تُذكر.
ألمانيا ما بعد الدمار للأتراك: رجاءً ساعدونا!
في أعقاب الحرب العالمية الثانية بهزيمة الحزب النازي ودخول قوات الحلفاء ألمانيا، وتقسيمها فيما بعد إلى دولة شرقية ودولة غربية، أرادت الدولة الغربية أن تصنع نهضة صناعية شاملة، وسريعة للحاق بركب العالم، وتحقيق قفزة تطورية لتعويض ما فات ألمانيا أثناء معاناتها ويلات الحروب على يد الحزب النازي، فبدأت الاهتمام بالتنمية الكبرى في عدة قطاعات صناعية، مثل الحديد والصلب واستخراج الفحم، والصناعات المعدنية الخفيفة، لكنها واجهت أكبر العوائق أمامها بعد توفر المصادر الطبيعية والطاقة، ألا وهي الأيدي العاملة المدربة.
لجأت حكومة ألمانيا الغربية لتخطِّي هذا العائق إلى استقدام العمالة من الخارج، وكونها في قلب القارة الأوروبية عقدت اتفاقيات لبرامج استقدام عمالة من إيطاليا واليونان وإسبانيا، ثم تبعتهم تركيا في العام 1961 بعدما قدمت تسهيلات كبيرة للمواطنين الأتراك للعمل في القطاع الصناعي، بشروط ميسرة لا تتطلب سوى لياقة جسمانية للعمل في القطاعات الصناعية، مع توفير تكاليف الانتقالات.
واشترطت ألا يكون العمال متزوجين، أو السفر دون أسرهم كي لا يعتبر هؤلاء العمال "مهاجرين"، وحددت مدة البرنامج والعقود للعاملين بعامين، توافد خلالها عدد كبير من العاملين الذين سمّتهم الاتفاقية "العمال الضيوف"، بعد أن فتحت ألمانيا مكاتب استقدام عمالة داخل تركيا بمساعدة الحكومتين، وأعطت لتلك المكاتب صفة رسمة بصفتها مُمثلة بوزارة العمل الألمانية، لإعطاء الوظائف المُحدد مدتها سنتين للعمال الأتراك.
وبعد مرور السنين صار من الصعب مادياً وتنظيمياً استقدام عمال جُدد وتدريبهم، وتهيئتهم، لذلك في العام 1964 مُدت فترة العمل للعمال الضيوف لمدد أطول من عامين وسُمح للعمال باستقدام أسرهم من تركيا.
الأمور لم تسِر كما هو مخطط!
عقب الأزمة العالمية للبترول في السبعينيات والتي نتجت عن حظر النفط العربي أثناء الحرب بين العرب وإسرائيل، شهد العالم ركوداً اقتصادياً في بعض المناطق والدول الصناعية الكبرى، فأوقفت ألمانيا الغربية برنامجها التركي لاستقدام العمالة.
كان عدد الأتراك الذين أتوا للعمل في ألمانيا بين أعوام 1961 و1973 وصل 750 ألف تركي من بين 2.7 مليون طلب عمل استقبلته ألمانيا خلال 12 عاماً، ووفقاً للتقديرات عاد نصفهم تقريباً إلى تركيا بينما فَضَّلَ نصفهم الباقي المكوث في ألمانيا وبدء حياة جديدة بها، وقدِّر عدد الأتراك الحاصلين على الجنسية الألمانية منهم عام 2011 بحوالي 700 ألف من بين 2.5 مليون تركي متواجدين في ألمانيا.
التسعينيات وتصاعد الكراهية.. حرق منازل الأتراك!
كانت بداية واحدة من أسوأ سلاسل جرائم الاضطهاد العرقي في ألمانيا الغربية في العام 1988 عندما أحرق أحد أفراد ميليشيات اليمين المتطرف التابعة لمنظمات "النازيين الجدد"، أحد المنازل في مقاطعة بافاريا، ما أدى إلى مصرع أسرة من الأتراك مكونة من 4 أفراد من بينهم طفل يبلغ من العمر 12 عاماً.
لكن الفترة العصيبة المليئة بالكراهية ضد المهاجرين بشكل عام في ألمانيا لم يكن من المتوقع أن تتلاشى، إذ تحققت الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية في العام 1990، وكان لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحسوب على اليمين المحافظ دور كبير وقتها في تأجيج الاحتجاجات على وجود المهاجرين في ألمانيا، ما أثار أجواء من الكراهية ضد المهاجرين عامة والأتراك بشكل خاص؛ نظراً لكونهم من أكبر الجاليات المهاجرة في ألمانيا.
تبع الحادث البشع حادث آخر أكثر بشاعة في العام 1993، والمعروف بـ "حادث زولينغن"، وذلك عندما أضرم مجموعة من "النازيين الجدد" النار في منزل عائلة تركية؛ ما أدى إلى مصرع 5 من أفراد الأسرة تتراوح أعمارهم بين 27 سنة و4 سنوات، في حادث هزّ المجتمع الدولي ووصفته المنصات الإعلامية بأسوأ حادث اضطهاد عرقي في ألمانيا الحديثة، واعتقل على إثره بعض المتهمين الذين حوكموا وثبتت إدانتهم وحُكم عليهم بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و15 عاماً، وهو ما يمكن وصفه بديهياً بالحكم غير العادل.
بعد الحادث المأساوي تكررت حوادث أخرى شبيهة خلال فترة التسعينيات، وبحسب موقع Fair Observer الأميركي فقد قُدرت أعداد ضحايا الاضطهاد العرقي من جانب المتطرفين اليمنيين، وعلى رأسهم "النازيون الجدد"، بما يقرب من 100 قتيل ما بين 1990 و2000 ما بين اشتباكات مباشرة وحوادث اعتداء، جاء بعدهم حادث اعتداء مقاطعة كولونيا الألمانية في العام 2004، عندما انفجرت عبوة ناسفة محشوة بالمسامير في أحد الأحياء المكون غالبية سكانها من الأتراك، وأسفرت عن إصابة 17 دون وفيات.
"لا جمع للجنسيات".. للأتراك فقط!
واحدة من أكثر المشكلات التي يعاني منها الألمان من أصول تركية في ألمانيا هي قوانين الجنسية والهجرة التي تمنع الجمع بين الجنسيتين للأتراك فقط دون سواهم من الجنسيات الأخرى، الأمر الذي وضعت له السلطات الألمانية شرطاً وهو التنازل عن الجنسية التركية للحصول على الألمانية.
ومع وجود جيل جديد من الأتراك المولودين في ألمانيا، حددت السلطات توقيت الشرط عند بلوغ سن 24 عاماً، الأمر الذي انعكس سلباً على العلاقات بين برلين وأنقرة، ويعاني معه الأتراك الذين لا يريدون التخلي عن جذورهم وهويتهم الأصلية.
ومع الشعور بالضغط في مجتمع لا يرحب بأصولهم لم يجد الأتراك حلاً سوى الرضوخ للشرط الألماني التعسفي.
لكن ما زاد الطين بلة في الفترة الأخيرة وساهم في تمزق الجراح هو الحصار المعنوي الذي فرضته السلطات الألمانية على الجالية التركية حيال ممارسة حقوقهم كأتراك، في حضور خطابات انتخابية ودعائية أثناء سير العملية الانتخابية الرئاسية لبلدهم الأم تركيا في العام 2017، والتي منعتها السلطات الألمانية بدعوى الحفاظ على الأمن العام، بجوار خلافات أخرى بين البلدين كان من أهمها احتجاز الصحافي الألماني من أصل تركي دينيز يوغل الذي ااحتُجز من جانب السلطات التركية في أعقاب الانقلاب التركي الفاشل عام 2017، واتهامه بالتجسس والإرهاب، ما دفع الإعلام الألماني لاتخاذ صفّ الصحفي المحتجز، الأمر الذي أطلق سلسلة من الاشتباكات والاتهامات الإعلامية المتبادلة بين البلدين.
مذابح الأرمن وقاعدة إنجرليك.. ضربات متبادلة
من بين القضايا التي عمّقت الخلاف بين البلدين في الآونة الاخيرة اعتراف البرلمان الاتحادي الألماني في العام 2015 بمذابح الأرمن، التي يُعتقد أنهم تعرضوا لعمليات إبادة في العام 1915 في الحرب العالمية الأولى أثناء حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وتسميتها "الإبادة الجماعية"، الأمر الذي خلق ضغطاً مباشراً على أنقرة وحثها بشكل غير مباشر على تحمل مسؤولية تلك الإبادة.
وجاء رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن استخدام قضية الأرمن وتسميتها "الإبادة" سوف يؤثر على العلاقات مع برلين، واستدعى على إثره السفير التركي في ألمانيا للتشاور، وهو الأمر الذي بات متكرراً بشكل كبير في السنوات القليلة الفائتة.
تبع تلك الأزمة في العام 2017 رد تركي بمنع الزوار الألمان من زيارة ذويهم في قاعدة "إنجرليك" التركية التي أقيمت في إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، ما دفع نائب المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل للرد بأن ألمانيا ستسحب جنودها الذين يخدمون في إنجرليك، وهو ما حدث بالفعل في يونيو/حزيران 2017.
هذا قبل أن يطفو الخلاف على السطح مرة أخرى مؤخراً، والذي كان مركزه تلك المرة اللاعب الألماني التركي الأصل مسعود أوزيل، واتهامات متبادلة بين البلدين بالتخاذل وإفشال أداء المنتخب الألماني لحساب أصوله التركية من ناحية، بين اتهامات وتصريحات من مسؤولين أتراك للصحافة الألمانية والفاشية والعنصرية.