رمز الدولة والحضارات المختلفة في خطر..التغير المناخي يقتل أشجار الأرز في لبنان

فقدت محمية غابة أرز تنورين الطبيعية -أعلى غابات الأرز كثافة في لبنان- أكثر من 7% من أشجارها من جراء انتشار الإصابة بحشرات لم تكن معروفة قبل عام 1997. وهي ترتبط مباشرة بالمناخ الدافئ الجاف

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/21 الساعة 07:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/21 الساعة 07:44 بتوقيت غرينتش
cedar of Lebanon against blue sky

التنزه بين أشجار الأرز على المنحدرات الجبلية في لبنان يمنحك شعوراً بأنك تزور أرض كائنات قديمة. إذ توجد هنا بعض من أقدم الأشجار منذ ما يقرب من 1000 عام، ناشرة  فروعها أفقياً على نحوٍ فريد وكأنها أذرع ممدودة، وتضرب جذورها عميقاً في الأحجار الجيرية المتحدرة، وكذلك في النشيد الوطني اللبناني الذي يقول "مجدُه أرزه رمزه للخلود"

وتزدهر أشجار الأرز في الأجواء الرطبة الباردة حسب تقرير صحيفة New York Times الأميركية، وهو نظام إيكولوجي استثنائي في الشرق الأوسط، على قمم الجبال التي تقع في شرك السحب الطافية من البحر الأبيض المتوسط وتتلألأ عليها ثلوج الشتاء.      

لكنها الآن في خطر

ولكن الآن، وبعد قرونٍ من الدمار البشري، تواجه أشجار الأرز اللبناني ما يُحتمل أنَّ يكون أخطر التهديدات: إذ يُمكن أن يقضي التغير المناخي بنهاية القرن على أغلب ما تبقى في لبنان من غابات الأرز.

وفيما مضى كانت أشجار الأرز تمتد على آلاف الكيلومترات المربعة في مرتفعات لبنان. والآن، لم يبقَ منها سوى مساحة 17 كيلومتراً مربعاً فقط، توجد في بساتين متفرقة.  

تنحسر الأراضي المزروعة بها

مع ارتفاع درجات الحرارة، بدأت تنحسر المساحة البيئية المناسبة لنمو أشجار الأرز إلى ارتفاعات أعلى على قمم الجبال، لتلحق بالشتاء البارد الذي تحتاجه للتكاثر. لكن هنا في غابة الباروك، وهي جزء من محمية أرز الشوف الطبيعية، جنوب بيروت، لم يعد هناك مزيد من الارتفاع للصعود إليه.

ويقول بعض العلماء إنَّه إذا ظلَّت درجات الحرارة ترتفع بنفس المعدل المتوقع نتيجة الزيادة المستمرة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الجو، فبحلول عام 2100 لن تتمكن أشجار الأرز من النمو إلا في الطرف الشمالي من البلاد، حيث قمم الجبال أعلى بكثير، حسب صحيفة New York Times الأميركية.

وحشرات جديدة تقضي عليها                

ومع ذلك، يوجد في الشمال مشاكل أخرى. إذ فقدت محمية غابة أرز تنورين الطبيعية -أعلى غابات الأرز كثافة في لبنان- أكثر من 7% من أشجارها من جراء انتشار الإصابة بحشرات لم تكن معروفة قبل عام 1997. وهي ترتبط مباشرة بالمناخ الدافئ الجاف.    

أشجار الأرز اللبنانية إلى معابد القاهرة والقدس

وعلى مدار التاريخ، كانت أشجار الأرز تعتبر أغلى من أن تُستخدَم لتشييد المباني والمراكب، لكن كانت تُقطَع لبناء المعابد في مصر القديمة، والقدس وغيرها. لذا رغم أنَّ الاعتداء على أشجار الأرز لم يبدأ بحدوث التغير المناخي، إلا أنه يمكن أن يمثل الضربة القاضية لها.

وينمو شجر الأرز اللبناني، وهو فصيلة مميزة معروفة علمياً باسم Cedrus libani، بصفةٍ أساسيةٍ في لبنان وفي تركيا. وتنبُت الأشجار مع اشتداد الشتاء؛ لأنَّها تحتاج إلى طقسٍ متجمدٍ ويُفضل أنَّ يصاحبه الثلوج.        

ولكن هذا العام، جاء الشتاء معتدلاً. ولفت عمر أبو علي، منسق السياحة البيئية في محمية الشوف الطبيعية -أكبر مساحة محمية في لبنان- إلى وجود أدلة على ذلك على الأرض في غابة الباروك.    

غابة "أرز الرب" في خطر

ومنذ عام 1876، طُوِقَت أكثر رقعة من أشجار الأرز شهرةً في لبنان، والتي يُطلق عليها أحياناً اسم غابة "أرز الرب"، لحمايتها.   

وقال أنطوان جبرائيل طوق، كاتب مؤلفات حول الأرز، إنَّ البعض يعتقد أنَّ المسيح ظهر بعد بعثه لأتباعه في هذه الرقعة.

إنبات قبل الموعد

كانت بداية أبريل/نيسان، وقد بدأت براعم الأرز في الظهور من التربة، وهذا عادة ما لا يحدث قبل مطلع مايو/أيار. وإنباتها مبكراً يجعلها تصبح أكثر عرضة للموت بلسعة صقيع أو الإصابة بالحشرات، وقال عمر: "هذا إنباتٌ مبكرٌ، قد تموت".

منذ جيل مضى، كان من المعتاد أنَّ تتساقط الأمطار والثلوج على الجبال لمدة 105 أيام كل عام. وعلى ارتفاعات جبلية عالية، وكانت الثلوج تبقى على الأرض لمدة تتراوح بين 3 إلى 4 أشهر. أما الشتاء الماضي، فلم تكن هناك أمطار سوى لمدة 40 يوماً، وغطاء ثلجي لمدة شهر واحد فقط.             

والتغيير المناخي يزيد الأمر صعوبة

من جهته، قال نزار هاني، مدير محمية الشوف الطبيعية: "التغير المناخي حقيقة هنا. الأمطار أصبحت أقل، ودرجات الحرارة أعلى، وأكثر تطرفاً سواء تلك الحارة أو الباردة".    

وأضاف: "أصبحت غابات الأرز تنزح إلى ارتفاعات أعلى"، مضيفاً أنَّه من غير الواضح أي من السلالات الحية التي تعيش إلى جانب الأرز ستنجو على هذه الارتفاعات؛ مما سيتسبب بمزيد من التغيرات في النظام الإيكولوجي.  

سباق الأشجار والاحتباس الحراري

وتوقعت دراسة أجريت عام 2010 أنَّه في حال استمرار زيادة الاحتباس الحراري وفق المعدلات المُتوقَعة، فلن تنمو أشجار الأرز بعد الآن في محمية الشوف؛ لأن جبالها ليست بالارتفاع الكافي. وعلى الرغم من أن بعض المختصين اللبنانيين يرون أنَّ هذه الدراسة تُبالغ في توقعاتها، فهم يوافقون على أنَّ أشجار الأرز تواجه موقفاً حرجاً.

وعلق الدكتور هاني: "نحن في سباق. لم يعد هناك وقت لنضيعه".

وفي محمية غابة أرز تنورين الطبيعية، شمال بيروت، دفعت قلة الثلوج المتساقطة هذا العام مدراء الغابة لتحضير أنفسهم لموسم صعب من سيفالسيا تنورينينسيس، وهي حشرة غشائية الأجنحة تنسج خيوطاً تشتهر بأنَّها تهاجم الأرز وتتغذى على رؤوس الأغصان اليافعة.

ولم تكن هذه الحشرة معروفة لدى العلماء حتى عام 1998، حين حدد عالم الحشرات اللبناني نبيل نمر أنَّ هذه الحشرة هي السبب وراء الآفة التي أصابت غابة تنورين عام 1997، وتسببت بموت مساحات واسعة من أشجارها، حسب صحيفة New York Times الأميركية.

وباستدعائه للتحقيق في الأمر، اكتشف نمر أنَّ حشرة غشائية الأجنحة هي المتسببة في ذلك، وهي تدفن نفسها في الأرض خلال فصل الشتاء. ولم تُلاحَظ هذه الحشرة من قبل؛ لأن دورة حياتها في البداية لم تتداخل مع أشجار الأرز. لكن مع ذوبان الجليد مبكراً، أصبحت تظهر مبكراً وتضع بيضها في وقت يسمح لليرقات بالتغذية على بتلات الأرز الجديدة.   

وقال نمر: "نستطيع رؤية أثر مباشر للتغير المناخي"؛ ففي الفترة ما بين عام 2006 وحتى 2018 فقط قتلت هذه الحشرة 7.5% من أشجار غابة تنورين، والنسبة الأكبر منها أشجار يافعة.

فطريات لمكافحة الحشرات

ودفع اكتشاف الحشرة غشائية الأجنحة إلى إنشاء محمية تنورين لحماية الأشجار، إذ يستخدم العلماء سبلاً جديدة لمحاربتها باستخدام فطريات تتواجد بصورة طبيعية في الغابة ويمكنها القضاء على يرقات الحشرة.   

تُمثل هذه الحشرات أحدث حلقة في سلسلة تهديدات تواجه أشجار الأرز، والتي -على غرار لبنان نفسها- صارعت تحدياً تلو الآخر: أرضٌ قاسيةٌ، وغزوٌ، وسلبٌ، وصراع.    

رمز الدولة والحضارات المختلفة

على مدار 5 ألفيات من التاريخ الموثَّق، أشادت مواكب من الحضارات بأشجار الأرز اللبناني، ثم قطعتها. وجُرِفَت جبال لبنان على يد شعوب بلاد الرافدين والفينيقيين والمصريين القدماء، والإمبراطوريات الرومانية واليونانية، والصليبيين، والمستعمرين، وأخيراً نتيجة الاضطرابات الحديثة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، تُعتبر هذه الأشجار رمزاً للدولة حتى أنَّ شجرة أرز تقبع في منتصف العلم اللبناني.

وهي مصدر فخر لهذه الدولة الصغيرة الضعيفة، وتُمثل جذوراً لأجيال مزقتها المجاعة والصراعات، وتاريخاً عريقاً لدولة نحتتها قوى الاستعمار.   

وكانت سبباً لغزو البلاد

وعلى مدى سنوات طويلة استهدف الغزاة لبنان لما تتمتع به من مخزون وافر من الماء، ولموانئها وأشجار الأرز الثمينة، والتي حملوها لبناء قصورهم ومعابدهم وسفنهم. وعلى مدار قرونٍ، جذبت الجبال الصخرية المتحدرة طوائف الأقليات الفارة من الأحياء العدائية، وقد استهلك ماعزهم ومواقدهم التي تعمل بالخشب مزيداً من أشجار الأرز. ولا تزال تتسبب صراعات قادة الحرب العنيدين في أضرار بيئية جسيمة إلى يومنا هذا.        

وراح منها الكثير في الحرب الأهلية

وفي فترتي الستينيات والسبعينيات، وضع لبنان خطة بيئية قومية تمكنت من إعادة زراعة الكثير من أشجار الأرز. ثم اندلعت بعدها حربٌ أهليةٌ استمرت 15 عاماً، لتدفع بالأشجار إلى غياهب النسيان. وحمى بعض قادة الحرب أشجار الأرز على طريقتهم الخاصة؛ فمثلاً في جبال الشوف زرعت مليشيات الدروز ألغاماً أرضيةً حول الغابات، حسب صحيفة New York Times الأميركية.     

منذ 4 سنوات مضت، شرع وزير الزراعة اللبناني في خطة جديدة لزراعة 40 مليون شجرة، من بينها أشجار الأرز.  

وتشرف وزارة البيئة على نحوٍ مستقل على إدارة مناطق الأرز المحمية. ومع ذلك، يقول علماء البيئة إنَّ الانقسامات السياسية وإرث الحرب لا يزالان إلى يومنا هذا يضعفان الحكومة ويجعلانها مجزأة للغاية بحيث تعجز عن بناء أنظمة وطنية فعالة لتوصيل الكهرباء والمياه، أو الصرف الصحي أو إزالة القمامة، ناهيك عن خطة قوية قابلة للتنفيذ من أجل حماية أشجار الأرز.

لكنها تمثل رمزاً للصمود

ومع ذلك، يرى اللبنانيون في هذه الأشجار انعكاساً لتفرد أرضهم وقدرتها على الصمود في وجه العواصف على مر التاريخ.

وعلق هاني، مدير محمية الشوف، قائلاً: "إنَّها شجرةٌ قويةٌ للغاية، قوية بما يكفي لتتمكن من العيش في ظروف قاسية. وهي مميزة جداً ومختلفة عن أي نوعٍ آخر من الأشجار".       

ويمكن إيجاد شجرة الأرز في كل مكان في لبنان: على اللافتات، وفي هيئة أوشام، وبواجهات المحلات والهدايا التذكارية والملصقات السياسية. وغالباً ما تكون على هيئة رسمة مُصمَمة بصورة مختلفة عن الواقع، مثل الرسمة الخضراء الزاهية المطبوعة على علم البلد البهيج، والتي تمثل رؤية طفل للشجرة المثالية. ويفوح عطر الشجرة في صابون زيت الزيتون والأرز وعسل الأرز. وترسم شركة "ميدل إيست للخطوط الجوية" اللبنانية الشجرة على أذيال طائراتها وعلى أطراف أجنحتها الموجهة لأعلى؛ وكأنها ترغب في ضمان ألا يفوت أي راكب مشاهدة الرمز.      

وبنيت بها القصور والحصون

وتعود الروايات حول أشجار الأرز إلى واحدة من أوائل القصص البشرية التي لا تزال تُروى لوقتنا هذا، وهي ملحمة جلجامش. وفي القصة، يقتل جلجامش همبابا، حارس غابة الأرز، ويأخذ الأشجار لبناء قصور وحصون. ويصف فيصل عبد العزيز، الذي يؤرخ كتابه Memories of a Cedar قروناً من تجريف الغابات، هزيمة همبابا بأنها الأولى بين انتصارات كثيرة حققها المستهلك ضد المحافظ على البيئة.     

وذُكِرَت أشجار الأرز مراراً في الإنجيل. ففي إنشاد سليمان مثلاً، تمثل أشجار الأرز جمال المحبوب: "طلعتهُ كلبنان. ممتاز كالأرز".

حتى أنَّ بعض اللبنانيين يُقسِم بها: "أقسم بالأرز".

ومحاولات لحمايتها وإعادة زراعتها

ولحماية الأرز من الدمار الكامل، تحاول العديد من الجماعات اللبنانية المعنية بحماية البيئة تنويع أماكن وجودها وزيادة كثافتها. ويقولون إنَّ الهدف الأساسي من إعادة زراعتها هو جعل غابات الأرز أكبر وأكثر تكيفاً مع أية ضغوطات بيئية مستقبلية قد تتعرض لها.

وتاريخياً، كان الارتفاع المناسب لنمو الأرز يتراوح ما بين 1400 و1800 متر. غير أنَّ بعض الأشجار يمكن أنَّ تصمد على ارتفاعات أعلى أو أقل، وفقاً للماء والظل والرياح. ومن خلال التجارب، وجد حماة البيئة أنَّ شتلات الأرز يمكنها الصمود على ارتفاع يصل إلى 2100 متر.

وفي "أرز"، تضم محمية غابة أرز الرب 2100 شجرة فقط. ويحاول الطبيب يوسف طوق، وهو من حماة البيئة، وزملاؤه إعادة إنماء غابة أكبر. ويمثل هذا تحدياً لأنَّ المحمية نفسها مُنعزِلة. وأغلب المساحات المثالية للزراعة إما ذات ملكية خاصة أو مصممة لاستخدامات حكومية أخرى.      

ولكن منذ عام 1998، نجحت مجموعة طوق في زراعة 100 ألف شجرة في رقع من أراضٍ منفصلة حول المحمية القديمة.     

وفي هذا الصدد، أوضح طوق: "كانت هناك الكثير من المحاولات والأخطاء. ولكن حيثما استطعنا وحيثما سمحت لنا البلدية زرعنا (أشجار الأرز)".  

وتنمو أشجار الأرز ببطء، ولا تنمو المخاريط عليها إلا بعد أنَّ تصبح في عمر الـ40 أو 50 عاماً. وحين تكون صغيرة، بحسب معايير الأرز، تبدو شبيهة بغيرها من الصنوبريات ومدببة مثل أشجار أعياد الميلاد . لكن بعد مرور حوالي قرنٍ من الزمن، تتحول إلى شكلها المميز. إذ تزداد سماكة الجذع، وتنتشر الفروع بموازاة الأرض، وتجثم المخاريط فوقها وكأنها طيور تستريح عليها.

وحين تقترب من غابات الأرز، تكون عادة أول الأشجار التي تراها يافعة. وتظهر على نحو مخادعٍ وكأنها أشجار عادية كاملة النضج.

ثم تسلك منعطفاً، لتخوض تجربة تكاد تكون محيرة؛ فأشجار الأرز الناضجة لا تشبه أبداً ما تتوقع أنَّ تبدو عليه أية شجرة. فستجد بعضها يقف وحيداً كالتمثال، وأخرى تنمو في مجموعات، وتتقاطع الخطوط الأفقية للفروع مع العمودية للجذوع والمنحدرات الزَلِقَة والجروف، لتخلق مؤثرات مدهشة.        


واقرأ أيضاً..

ربح البيع: كيف يمكن أن يغير "الحشيش" وجه لبنان؟