نساء الإسكيمو يستعيدون طقوسهم الوثنية في مهرجان الإنويت

مع قدوم المبشرون كان الويل لمن ينقش وشماً على يديه، لكن بعد مائة عام من المنع استعاد الإسكيمو طقوسهم من جديد

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/20 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/20 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش

الويل لمن ينقش وشماً على يديه، إنه طقس وثني ملعون.

مائة عام من المنع كادت تخفي ثقافة دامت قروناً لدى شعب الإنويت (جزء من سلالة شعب الإسكيمو).

ولكن الآن تبثُّ هوفاك جونستون روحاً جديدة في ثقافتها الموروثة عن أسلافها مع كل امرأةٍ تَشِمُها، حسب وصف تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.

الوشم يتم بالوخز اليدوي لصنع علامة شخصية جدا

نشأت الفنانة المنتمية لشعب الإنويت في مجتمع بلدة كوغلوكتوك المنعزلة بإقليم نونافوت بشمالي كندا.

عندما كانت هوفاك طفلةً، كانت تُبهرها النساء الأكبر سناً بوشومهن التقليدية المُميِّزة لشعب الإنويت، وكُنَّ هنّ أفراد المجتمع الوحيدات اللاتي يمتلكن تلك الوشوم.

الوشم عبر الوخز اليدوي
الوشم عبر الوخز اليدوي

ظلَّت تلك الوشوم حاضرةً في ذاكرتها، وبعد مرور عدة أعوام، قرَّرت هوفاك أن تُجري بحثاً عن ممارسة شعب الإنويت للوشوم المقدَّسة، التي كانت قد شارفت على الانقراض بحلول ذلك الوقت.  

كانت هوفاك ضيفةً على مهرجان أداكا، وهو الحدث الثقافي المُقام في مدينة وايتهورس بإقليم يوكون في كندا، وتُقام الآن نسخته الثامنة. تضمَّن برنامج المهرجان هذه المواضيع ذاتها، أي قمع الثقافات، متبوعاً بانبعاثها وإحيائها من جديد، مذكراً الزوار أنَّه ومهما بدا الكفاح في مواجهة القمع مستحيلاً، فإنَّ الفن يظل منارةً للأمل، وحجر أساسٍ للمقاومة، حسب وصف الصحيفة البريطانية.

وشَمَت هوفاك إلى الآن عشراتٍ من نساء شعب الإنويت، ومن بينهن نساء في السبعينيات من أعمارهن وأكبر. وهذه العلامات، الموشومة في الأغلب باستخدام طريقة الوَخز اليدوي، تكون شخصيةً جداً، وعادةً ما ترمز لأحداثٍ حياتية محورية، وكذلك لصلاتٍ عائلية. تُزيِّن الوشوم أصابع النساء وأذرعهن وأفخاذهن، ووجوههن كذلك، وهو الأمر الأكثر لفتاً للنظر.

وهو طقس اعتبره المبشرون المسيحيون وثنيا

لمدة قرنٍ كامل، كانت الوشوم محظورةً صراحةً بأمرٍ من المبشرين المسيحيين، الذين استنكروا الممارسة باعتبارها طقسٌ شاماني (وثني مشعوذ) يخالف المعتقدات المسيحية التي فُرِضَت آنذاك على شعب الإنويت.

وإثر ذلك، نُبِذ كل من تجرّأ وحصل على تِلك الوشوم المزخرفة على جسده. وتطلَّب بذل جهدٍ جبَّار من جانب الأجيال الأصغر سناً لاسترداد عادتهم التاريخية تلك، وتضمَّنت هذه الجهود أبحاثاً أرشيفية وأخرى على أرض الواقع، قام بها فنانون مثل هوفاك، وآخرون مثل آليثيا أرناكوك-باريل، التي يتتبَّع فيلمها الوثائقي "Tunniit" خطى رحلتها للحصول على وشومٍ على جبهتها، ووجنتيها، وساعديها.

هذه الوشوم يحرمها المبشرون المسيحيون
هذه الوشوم يحرمها المبشرون المسيحيون

كان برنامج مهرجان أداكا حافلاً بقصصٍ مشابهة عن إحياء ثقافة الإنويت. وعلى مدار أسبوعٍ واحد، اعتلى خشبة المسرح أكثر من 100 فنانٍ بصري، وراقصين، ومؤدِّي فن الغناء مِن الحنجرة التقليدي، وموسيقيين، ومصمِّمي أزياء، وأقاموا ورش عمل، وألقوا محاضراتٍ عن مواضيع تنوَّعت بين التداوي بالأعشاب، وامتلاك الكلاب في القطب الشمالي، ودباغة جلود الأيل في "مخيَّم صيد سمك" يقع على ضفَّة نهر يوكون.

رحَّب المهرجان بالجميع، بدءاً بأفراد الشعوب الـ14 الأولى لسكَّان إقليم يوكون الأصليين، وحتى بالسكَّان المحليين والزوار الدوليين، وجسَّد المزاج المَرِح كرم روح الإنويت: شارك الأطفال الصغار في نشاطاتٍ خاصة.

والآن لا أحد يتذكر أنه كان يحمل هذه العلامات

تأمَّل السيَّاح الفن المنصوب في صالة العرض، واشتروا بعض الأعمال، واختلط الفنَّانون بالحشود الزائرة، ناقلين معرفتهم لهم فيما كانوا ينسجون، أو ينحتون، أو ينقشون فناً أمام الجمهور.

ووُشِمَت آشلي كامينغر، من بلدة بانغنيرتونغ بإقليم نونافوت، على يد هوفاك في سياق المهرجان.

ومن بين دموعها، شرحت آشلي أنَّه لا أحد من عائلتها يتذكَّر أنَّ أحد أفرادها كان يحمل تلك العلامات، هكذا كان الحظر فعَّالاً. والآن يعد تمكُّنها أخيراً من استرداد حقِّ هذا التقليد "راحةً كبرى" وشرفاً لها.

أخيراً انقلبت الأمور، لكنَّ الفرصة كادت أن تضيع، واللوم في ذلك قد يُلقَى مباشرةً على نظام المدارس الداخلية في كندا.

تحريم الوشم كان جزء من الحرب على السكان الأصليين

أكثر من 150 ألف طفلٍ من السكان الأصليين تم تفريقهم عن عائلاتهم، عن طريق هذه المدارس الداخلية، بدءاً من عام 1840 وحتى أُغلِقَت آخر مدرسةٍ عام 1996.

وأُجبِر هؤلاء الأطفال على أن يصبحوا جميعاً قالباً واحداً. ذهب حقُّهم في أن يروا عائلاتهم، أو يتحدثوا بلغة أسلافهم، أو يرقصوا، أو يعزفوا على الطبول، أو يوجدوا حتى.

أم وطفلها من الإسكيمو
أم وطفلها من الإسكيمو

كان هدف النظام أن "يقتل الهندي في داخل الطفل". توطَّن بينهم وباء الإساءة الجسدية والجنسية، وأُجريَت "تجارب تغذية" وضيعة عليهم. ومات أكثر من 6 آلاف طفلٍ على أيدي المبشِّرين المسيحيين.

وفي خلال أقل من مئة عام، كانت قد جرت عملية إبادةٍ ثقافية فعَّالة بحق شعب الإنويت.

وعلى اللغة المحلية التي أصبحت ممنوعة

وكان دنيس شورتي (60 عاماً) فناناً آخر من ضيوف المهرجان. كان شورتي يبلغ من العمر خمسة أعوام فقط عندما هبطت طائرةٌ مزوَّدة بعوَّامات في مجتمعه المنعزل، الواقع على ضفَّة نهر روس، وأخذوه بعيداً عن أهله إلى مدرسةٍ داخلية تبعد 400 كليومترٍ عن بلدته. وجد نفسه، وقد انفصل عن عائلته وعن مجتمع شعب كاسكا، في نظامٍ يقول إنَّه "جرَّده من روحه ومن كرامته". كان يُضرَب إن حاول التحدُّث بلغة أسلافه، وتعرَّض لإساءةٍ لا توصَف على أيديهم.

وعندما أصبح بالغاً، وفي محاولةٍ للتصالح مع الصدمة التي تعرَّض لها، وجد شورتي عزاءه في فنِّه، الذي عُرِض في مهرجان أداكا. واشتُريت أعماله، ومنها نقوشٌ منمنمة على الخشب وقرون الأيل، ومنحوتات، ولوحات، لتُعرَض ضمن المجموعة الفنيَّة الدائمة بإقليم يوكون. لم ينس شورتي لغة شعب كاسكا قط، وما زال بإمكانه التحدُّث بها بطلاقة. (وعلَّمها لزوجته الألمانية جنيفر فروهلينغ، التي تتحدَّثها بشكلٍ مبهر هيَ الأخرى).

وحتى الموسيقى التقليدية صمتت

كذلك تشغل فكرة نقل التراث بال الفنانة كارمن بيكر، القادمة من بلدة سيلكريك. عندما انتقلت كارمن للعيش في مجتمع بيلي كروسينغ بإقليم يوكون (تعدادها السكاني 354 شخصاً)، دُهِشَت لغياب الموسيقى في المكان. لم يوجَد عزفٌ للطبول، ولا غناء. كانت ثقافتها العائدة لشعب شمال توتشون الأصلي قد مُحِيَت كلياً، بفعل إرث المدارس الداخلية. كان العالم صامتاً.

إحدى القرى في ألاسكا
إحدى القرى في ألاسكا

وفي عام 2004، شكَّلت كارمن مجموعةً لعزف الطبول والرقص دخلتها ست فتياتٍ فقط. واليوم، تضم مجموعتها أكثر من 30 راقصاً (أصغرهم يبلغ من العمر تسعة أشهر، وشارك في رقصةٍ بمهرجان أداكا وهو بين ذراعي والدته).

وفيما قدَّمت كارمن الراقصين وهم يصعدون خشبة المسرح، قالت إنَّها تؤمن بأنَّ "هُويتنا تعود إلينا من جديد. وشبابنا يشاركوننا اكتشافها، إذ إنَّ ذلك جزءٌ من هُويتهم، إنَّه في دمهم".

والكل رفض الاعتذار، حتى الكنيسة

نشأت شو شو إسكويرو (38 عاماً)  في بلدة نهر روس، وهو مجتمعٌ قوامه 350 شخصاً فقط، لكنَّهم، كما تقول شو شو ضاحكةً: "يبلغ عددهم الآلاف إذا ما أحصيت الكلاب أيضاً".

عرضت مصمِّمة الأزياء المنتمية لشعبَي كاسكا وكري مجموعةً من تصاميمها في عرض الأزياء المُقام المُنتظَر بحماس ضمن فعاليات المهرجان. وعُرِضَت إبداعاتها الفريدة من نوعها في عدة معارض عالمية، من بينها متحف سميثونيان الوطني للفنَّ الأميركي الهندي.

بدأ الإنويت يستعيدون ثقافتهم المفقودة من عشرات السنوات
بدأ الإنويت يستعيدون ثقافتهم المفقودة من عشرات السنوات

وفي عام 2014، عندما جرى التواصل مع شو شو لعرض ثماني قطعٍ من تصميمها في باريس، قرَّرت الإقدام على فعلٍ جريء: ستكون مجموعتها تِلك مهداةً لأربعة آلاف امرأةٍ مقتولة ومفقودة من سكَّان كندا الأصليين. كان رئيس الوزراء الكندي آنذاك ستيفن هاربر قد رفض طلب أفراد الشعوب الأصلية بفتح تحقيقٍ في هذه الحوادث، ووجدت شو شو في ذلك فرصةً لجذب الوعي والتكريم لعائلات تلك النساء من جهةٍ أخرى.

وفي آخر أعمالها، تحت عنوان No Apology Necessary أو "لا حاجة للاعتذار"، أشارت لرفض الكنيسة الكاثوليكية القاطع الاعتذار، لأنَّها مَن أدار ثلثي المدارس الداخلية المذكورة. (وكانت القطع الأساسية في المجموعة سترة عليها صورة مقلوبة لبابا الفاتيكان، وقطعة أخرى هيَ معطف من الفرو مطبوع على ظهره شعار "لا حاجة للاعتذار"، وهلَّل الحضور، فيما سارت العارضة على ممشى العرض وهي ترتديه).

وليس أمامهم سوى أن يشفوا جراحهم بأنفسهم

كان والد شو شو، وجدَّاها، وعمَّاتها، وأعمامها جميعاً من الناجين من النظام المدرسي الكندي، وعندما أُعلِن مؤخراً عدم تلقيهم أي اعترافٍ بمعاناتهم، تقول إنَّها رأت بشكلٍ مباشر كيف آذى ذلك مجتمعها. فهمت شو شو ردَّ فعلهم ذاك، لكنَّها تقول إنَّ ذلك أيضاً "أغضبها، أن نجلس بلا حراكٍ منتظرين اعتذاراً قد يحدث وقد لا يحدث… علينا تحمُّل مسؤولية شفائنا من هذا الجرح بأنفسنا".

يتَّفق معها في ذلك شورتي، فنان نقش القرون والخشب، الذي نجا من تجربة المدارس الداخلية.

ويقول شورتي إنَّه لا يهمُّه أنَّ الكنيسة الكاثوليكية لم تعتذر قط عمَّا فعلت. قال: "أريد المضي قدماً، وأن أُعلِّم حرفتي هذه، وأُعلِّم الناس أن يمضوا قدماً، سواءً اعتذروا أم لا".

إذن، ما الذي قد يُصلِح هذا الخطأ المهول؟

لا يتردَّد شورتي في الإجابة: "العمل بجِدٍّ، والعودة إلى أرضنا، والتحدُّث بلغتنا، ومشاركة ثقافتنا مع ثقافاتٍ أخرى".

وهذا يجعل مهرجان أداكا جزءاً من الحل الكلي إذن.