يقف مُتورِّد الخدَّين إلى جانب مسؤول وزارة التعليم بإقليم تِنغير بالجنوب الشرقي المغربي، متسلِّماً شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) الخاصة به، ويهُزُّ رأسه تفاعلاً مع كلمات ثناء تحتفي بـ"شيخ المتمدرسين" البالغ من العمر 69 سنة.
يعود العمُّ الحسن شاكري بذاكرته نصف قرن إلى الوراء، حين اضطرَّه فقر والديه إلى مغادرة مقاعد الدراسة في أكتوبر/تشرين الأول 1967، 3 أسابيع فقط على انطلاق الموسم الدراسي، ساعتها كان الحسن يافعاً يبلغ من العمر 18 سنة.
لم تشفع ثروات منجم الفضة الموجود بنواحي تنغير البعيدة عن العاصمة الرباط بـ547 كيلومتراُ، والتي ينحدر منها الشاب آنذاك، ليُكمل دراسته ويحقق أحلامه، ولو أنه أكبر منجم للفضة بالمغرب والقارة الإفريقية.
ولأن الفقر والتهميش غلَبا على ما سواهما ولا يزالان، يُضطر عدد من التلاميذ إلى اختيار تعلُّم أي حرفة أو عملٍ؛ لمساعدة آبائهم على مصاريف البيت وتوفير ضروريات العيش.
لم يستطع إكمال تعليمه لكنه استكمل ثقافته
الحسن شاكري ليس استثناء، فلم يكن من السهل على أسرته الفقيرة القاطنة بقرية بعيدة أن تضمن سومة كراء غرفة لابنها، فضلاً عن مأكله حتى يتمكن من متابعة الدراسة الإعدادية في مؤسسة تعليمية بعيدة عن البيت، وهكذا بدأ الحسن سنته الدراسية تلميذاً في الصف قبل أن ينتهي به الحال بائعاً للجرائد على الطرقات.
"انقطعتُ عن مقاعد الدراسة، لكني لم أنقطع عن القراءة والمطالعة والاستزادة من المعارف"، يقول العم الحسن لـ"عربي بوست"، فبعد شهور معدودة تمكَّن من الالتحاق بالمنجم مُحتكّاً بالآليات والمعدات، وناسجاً علاقات جيدة مع تقنيي المنجم آنذاك من عمال فرنسيين ممن زرعوا فيه حب المطالعة وزوَّدوه بروايات وكتب من الأدب الفرنسي.
الأدب الفرنسي هو ما ينوي اليوم الشيخ الحسن دراسته بالجامعة، فطيلة سنواته الـ51 الماضية كانت الكتب والروايات رفيقته في أوقات فراغه، قارئاً لكبار الروائيين والأدباء، لا ينتهي من عمله ورعاية أبنائه الستة إلا ليُقبل عليها وعلى ما حوَته من معارف وحكايات.
لهذا الاختيار ما يُبرره حتماً؛ ذلك أن فصلاً جديداً فُتح أمام العم الحسن بداية سبعينيات القرن الماضي قاده صوب الأراضي الفرنسية مشتغلاً وملتحقاً بمراكز التكوين المهني هناك، مستزيداً من علوم عديدة، على رأسها كهرباء الميكانيك واللغة الفرنسية والقليل من الفيزياء وغيرها.
متعلِّق بالكتب والروايات
عائداً إلى المغرب عام 1982 ومستقراً ببلدته، تشبث شاكري أكثر بالمطالعة والقراءة ووجد بين صفحات الكتب ضالته، وبات معروفاً بين أبناء المنطقة بمرافقته الكتب، إلا أن إحالته إلى التقاعد وتفرُّغه أحيَيا حلمه القديم، وهو ما كان فعلاً.
مخطئٌ من يظن أن العم شاكري اجتاز الاختبارات الإشهادية لأول مرة هذه السنة؛ بل كانت البداية عام 2014 حين اجتاز اختبار نيل شهادة الإعدادي ونالها باستحقاق، قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى الانتظار 3 سنوات أو أكثر لاجتياز امتحان نيل شهادة البكالوريا وفق المساطر القانونية المعمول بها بالمغرب.
حين قرَّر الشيخ السبعيني اجتياز امتحان البكالوريا، جمع كتب أبنائه ومقرراتهم الدراسية التي انتهوا منها وبدأ في الدراسة والمذاكرة وحيداً، حصل بالدورة العادية على معدل 9.88/20، ليمر لاجتياز الاستدراكية ويحصل على معدل 11.29/20، بعد أن حرص مجموعة من الأساتذة على مساعدته وشرح ما تعسَّر عليه.
ومن جميل الصدف، أن الشيخ السبعيني اجتاز اختبار البكالوريا داخل المؤسسة نفسها التي غادرها قبل 51 عاماً والتي باتت ثانوية كبيرة تحمل اسم "بولمالن دادس"، حيث تمكن من التجول بساحات مدرسته الأولى وأروقتها واستعادة بعض ذكرياته المتناثرة بين جدرانها، وفق ما أكده لـ"عربي بوست".
سيكمل الجامعة.. بالفرنسية!
لا يُخفي العم الحسن سعادته بنجاحه، يقول لـ"عربي بوست" بعامية عربية تغلب على مخارجها اللكنة الأمازيغية: "كنت مصرّاً على النجاح حتى أُدخل الفرح لقلوب المغاربة ممن تابعوا قصتي وشجعوني على المضي قدماً والنجاح".
للشيخ فلسفة خاصة في الحياة وهو الذي خبرَ الكثير من التجارب، يقول في هذا الصدد موجهاً كلامه للشباب: "نتعلَّم ونستزيد من المعرفة لنكون بشراً ونواكب تطور المجتمع ونسهم في رُقيِّه، هذا ما أطمح إليه تحديداً بعيداً عن رغبتي في نيل أي عمل أو منصب".
صحيح أن حب العم الحسن شاكري للغة الفرنسية كبير، حيث اختارها شعبة لمتابعة دراسته الجامعية، لكنه في الحقيقة يعشق علم الاجتماع ويبقى اختياره المفضل وفق ما أسَرَّ به لـ"عربي بوست"، إلا أن خُلوَّ الكليات القريبة من مدينته من هذا التخصص واقتصارها على كليات مراكش وأغادير البعيدة بمئات الكيلومترات، جعلاه متخوفاً من أن ينقطع مرة أخرى عن مقاعد الدراسة للأسباب الأولى نفسها.
كيف لا وهو المُسنّ المتقاعد، في حين تحتاج الدراسة الجامعية بعيداً عن البيت مصاريف إضافية لسداد أجر الكراء والخدمات والمأكل والكتب والمراجع.