تراجيديا الحب المحبوس.. رسائل السجن غير المنشورة لنيلسون مانديلا تكشف وجهاً رومانسياً للمناضل الإفريقي

"منذ فجر التاريخ، وبنو آدم يلاقون التكريم والاحترام… الرجال والنساء أمثالك عزيزتي، فتاة عادية جاءت من قريةٍ ريفية لا تكاد تُرى على معظم الخرائط".

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/16 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/16 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش

في عام 1929، أي بعد انقضاء 6 سنوات ونصف السنة من مدة حبسه التي دامت 27 عاماً، كتب نيلسون مانديلا لزوجته ويني. وهذا جزءٌ مما ورد في خطابه:

"منذ فجر التاريخ، وبنو آدم يلاقون التكريم والاحترام… الرجال والنساء أمثالك عزيزتي، فتاة عادية جاءت من قريةٍ ريفية لا تكاد تُرى على معظم الخرائط".

كان هذا الخطاب واحداً من عدة خطابات كتبها مانديلا لزوجته ويني، يمكنك أن ترى حبه لها يضيء صفحات هذا الكتاب الفتَّان، الذي يضم رسائلَ السجن التي لم يُنشر معظمها من قبل.

جيليان سلوفو: كاتبة "عشرة أيام، رسائل نيلسون مانديلا من السجن" هي ابنة الناشط السياسي جو سلوفو، الذي ناضل ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، تعرض كتابها الجديد في صحيفة The Guardian البريطانية.

حُكِمَ عليه بالمؤبد

حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد في عصرٍ من تاريخ جنوب إفريقيا، كانت حينها كلمة مؤبد تعني حرفياً مدى الحياة، وفي البداية لم يكن يُسمَح له سوى بكتابة 500 كلمة كل 6 أشهر، ولأفراد عائلته فقط. كتب مسوداتٍ على الأغلفة الصلبة للمذكرات التي احتفظ بها في الزنزانة (وفي مرةٍ من المرات استشاط غضباً عندما اختفت اثنتان من هذه المسودات، بالإضافة إلى قلمٍ عزيز عليه). ولأنَّ السلطات كانت تُؤَخِّر خِطاباته ولا ترسلها في بعض الأحيان، وقد يعلِّقون الردود أو يصادرونها، لم يعلم قط إذا ما كان أهله قد تسلموا أياً من هذه الخطابات. وذات مرة، عندما أدرك أنَّ أحدهم لم يتلق خطابه، أخذ يعيد كتابته بعنايةٍ شديدة بنفس صياغته التي كتبها منذ عقدٍ من الزمان، حسب الصحيفة البريطانية.

مكث مانديلا 27 عاماً في السجن، أولاً في جزيرة روبن آيلاند، ثم في سجن بولسمور وسجن فيكتور فيرستر. وبالموازاة مع فترة السجن، انتشرت حملة دولية عملت على الضغط من أجل إطلاق سراحه، الأمر الذي تحقَّق في عام 1990 وسط حرب أهلية متصاعدة. صار بعدها مانديلا رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

هكذا يمر الوقت في السجن، بطيئاً.

كان نيلسون مانديلا الذي أصبح رئيس جنوب إفريقيا 1994-1999 واحداً من أيقونات عصره، وتحوَّل إلى أسطورةٍ بعد وفاته باعتباره الرجل الذي جلب السلام للبلاد، وأثبت أنَّ نشر التسامح على نطاقٍ شامل يبدو ممكناً. إنَّ صوته الذي عاد للحياة مُمَثَّلاً في هذه الخطابات التي تُنشَر احتفالاً بعيد ميلاده المائة يساعد القارئ ليفهم لماذا تنبض كتاباته بالإدانات المتسقة مع الإنسانية، التي ساعدت في إرساء قواعد معجزة التحوُّل السلمي لجنوب إفريقيا. وفي الوقت نفسه، تمنحنا هذه الخطابات لمحةً متميزة عن مدى المعاناة التي لقيها هذا الرجل وعائلته في سبيل هذا التحوُّل.

نافذته على العالم وأم أولاده التي دخلت السجن أيضاً

يعد العام الذي أرسل فيه خطابه لـ"فتاته العادية" أحد أفظع السنوات التي قضاها في أقبية السجن. ويني، نافذته على العالم، كانت في السجن، تنتظر محاكمتها وتركت أولادهما "يتامى".

وقبلها توفيت أمه ولم يحضر جنازتها

لم يكن قد مرَّ الكثير من الوقت على وفاة أمه التي لم يُسمَح له بالذهاب إلى جنازتها، وهو الفقدان الذي لم يفارق عقله لمدةٍ طويلة للغاية. في عددٍ من الخطابات، كُتِبَت بعضها بعد سنواتٍ من ذلك، وصف زيارة أمه له، وآخر مشهد لها في ذاكرته وهي تمشي مبتعدةً عن السجن، متجهةً إلى القارب الذي سيأخذها إلى البرِّ الرئيسي، وشعوره المفاجئ بأنه لن يراها ثانيةً.

ومات ابنه في حادث تصادم

وفي معاناة فقدان أمه، تَسلَّم برقيةً كُتب فيها أنَّ ابنه ثيمبي (من زوجته الأولى إيفلين)، البالغ من العمر 24 ربيعاً مات في حادث تصادم. يصف نيلسون مانديلا كيف تجمَّدَ الدم بداخله، وكيف وجد طريقه في النهاية ليعود لزنزانته، التي وصفها بأنَّها كانت

"آخر مكان يجب أن يكون فيه رجلٌ أصابه الحزن".

وكما كان الحال عند وفاة أمه، لم تسمح له السلطات بدفن ولده، أو حتى أن يزور قبره. وكتب والألم يعتصره عن آخر مرة رأى فيها ثيمبي في عام 1962:

"كان فتىً مفعماً بالحيوية عمره 17 عاماً، حتى أني لا أستطيع الربط بين صورته والموت. كان يرتدي أحد سراويلي، وكان واسعاً جداً عليه… كانت لدى ثيمبي الكثير من الملابس، وكان شديد التأنُّق في ملبسه، ولم يكن هناك أيُّ سببٍ يدفعه لارتداء ملابسي. تأثَّرتُ كثيراً لأنَّ الجانب الشعوري وراء أفعاله كان واضحاً للغاية. وتهيَّجَ عقلي وشعوري بعدها لأيامٍ لإدراك الضغوط والقيود النفسية التي فُرِضَت بغيابي عن المنزل".

قبل أن نضطر نحن أيضاً لمغادرة الوطن، كِلا والديّ، روث فيرست وجو سلوفو، عملا مع مانديلا عن قرب. وشكَّل جو ومانديلا معاً المنظمة الوليدة "المؤتمر الوطني الإفريقي".

بعدها أُرسلَ جو إلى المنفى في نفس فترة اعتقال مانديلا، ولم يعد من المنفى إلا في عام 1990 كجزءٍ من فريق مفاوضات المؤتمر الوطني الإفريقي، قبل أن يصبح أول وزير للإسكان لمانديلا بعد انتخابات 1994. وبعد عامٍ عندما مات جو من السرطان، كان مانديلا أول الحاضرين. جلس أمامنا، نحن بنات جو الثلاث، وبهدوءٍ كبزوغ الفجر أخبرنا أنَّه لم يندم إلا على شيءٍ واحد، وهو أنَّ أطفاله وأطفال رفاقه كانوا من يدفعون ثمن التزامات آبائهم. اعتقدتُ وقتها أنَّه يفعل ما يجيده للغاية، يرانا ويُقِر بخسارتنا، لكن الآن، وبعد قراءة هذه الخطابات، أفهم مدى عمق الندم الذي يسري بداخله.

هل كان الانشغال بالقضايا الكبرى مبرراً لإهمال عائلته؟

وها هو يكتب لأحد أقاربه في عام 1971: "هل يُعذَر المرء على إهمال عائلته على أساس انخراطه في قضايا أكبر؟ هل يصح أن يحكم المرء على أولاده الصغار ووالديه الشُيَّب بالفقر والجوع، أملاً في إنقاذ الجموع البائسة في هذا العالم؟". وكتب لأحد أعمام ويني أنَّه لا يستطيع تحمُّل مجرد التفكير في بناته من ويني، زيني (زيناني) وزيندزي (زيندزيسوا التي رآها آخر مرة عندما كان عمرها أقل من عامين)، لشدة ما يحمله عليه هذا التفكير من ألم.

ولم يسمح لبناته بزيارته طويلاً

لم يُسمَح لزيني وزيندزي بزيارته حتى بلغتا 16 عاماً، لذا حاول الضلوع بواجباته الأبوية تجاههما من خلال المراسلة. تعتبر بعض خطاباته لأطفاله من بين خطاباته الأكثر تأثيراً، ولكن في أوقاتٍ أخرى كانت تتحوُّل الخطابات إلى نصائح أبوية قديمة. كان يكتب في عام 1970 لمكجاثو، ابنه الثاني من إيفلين، خطاباتٍ صارمة يُوبِّخه فيها على غياب عزته، أو ضميره، أو إرادته، أو استقلاليته (على الرغم من أنَّه كان يلين في توبيخه بإلقاء اللوم على غيابه عن المنزل، وأنَّه السبب في انحلال أخلاق ابنه).

وفي 1971 كتب لزيني، التي خطت له على الظرف: "كن مثل ألفيس، هيا يا رجل هيا"، أنَّه تمنَّى لو كانت تسمع موسيقى ميريام ماكيبا أو بول روبسون أو بيتهوفن. وفي عام 1979 كتب ناصحاً ويني بأن تُقدِّم لزيندزي الشاي الساخن، وتضع لها صبغة ماندل على فرشاة الحنجرة ليساعدها هذا على تخطي الالتهاب الرئوي الذي تعاني منه. لكنَّه حتى من داخل السجن كان يعرف الوقت الذي يُثقِل فيه عليهم. وكتب لأرملة ثيمبي التي لم يلتق بها من قبل خطاباً مليئاً بالنصائح، وكان يُخفِّف من حدته بقوله:

"تذكَّري أنَّه سواء قبلتِ نصائحي أم لا فلن يؤثر هذا على موقفي تجاهك، أنتِ زوجة ابني التي أعتز بها جداً. أنتِ عزيزةٌ على قلبي".

وزواجه "بفتاته العادية" كان مؤلماً لكليهما

يحوم الموت في هذه الخطابات. إذ يكتب مانديلا:

"يجب أن تُحبس في زنزانةٍ في السجن لكي تشعر بمدى الحزن المُعجز الذي يملك روحك عندما يضرب الموت بالقرب منك".

وفي الوقت نفسه يصور الإدراك المتأخر خسارةً مستقبلية في وعي القارئ، تتعلق بزواجه بويني. فقراءة ما مرت به، وفترات سجنها (في إحدى المرات اعتُقِلَت لمدة 200 يوم بدون السماح لها بالاستحمام)، وهجوم الحكومة وأشخاصٍ مجهولين عليها، ونفيها لأماكن قاصية في البلاد، يجعل القارئ يتعاطف معها. أنَّها انتصرت على مضطهديها في دلالةٍ واضحة على شجاعتها. لكنَّ الخسائر تراها العين، في خطابات مانديلا وما نعرفه الآن عن نهاية زواجهما. إذ كتب إليها مانديلا في خضم مشاكلها:

"أشعر أنِّي غارق في المرارة، كل جزء مني، لحمي ودمي وعظامي وروحي تملأه مرارة العجز التام عن مساعدتِك".

كتب هذا وهو يعلم أنَّها تواجه ما تواجهه من اضطهاد بسبب تضامنها معه.

مانديلا وزوجته ويني وابنتهما الكبرى

وكان يراها في منامه

كان يراها في منامه عندما كان في السجن، وكتب عن هذه الأحلام. في عام 1970، حلم بها وهي تؤدي "رقصة هاواي رشيقة". وكتب:

"التفتِّي فجأةً تجاهي، بالابتسامة الساحرة التي أتوق لرؤيتها بلا أمل".

لكن في عام 1981 كانت الأحلام أكثر قتامة. في أحد أحلامه كانت ويني تمشي، مطأطئةً رأسها إلى الأسفل، وكأنَّها تبحث عن شيءٍ ما. وبينما هو ذاهب ليرحب بها، وجد ما خيب آماله:

"فقدتُكِ في الوديان التي تغوص عميقاً في المنطقة، ولم ألتقِ بكِ ثانيةً إلا عندما عدتُ إلى الكوخ. وعندها كان المكان يعج بالرفاق الذين حرمونا من خصوصيتنا".

حسنا، نحن الآن نعرف أنَّه فقدها بالفعل في الوديان، وهو أسى لاحقه في إطلاق سراحه.

صنعا التاريخ لكن زواجهما لم يستطع الصمود

وفي عام 1962 شدت من أزره بما كتبته:

"لا شيء يمكن أن يكون أغلى من أن تكون جزءاً ولبنةً من تكوين تاريخ البلاد".

وبرفقته ساعدت في صنع التاريخ، لكنَّ زواجهما لم يستطع الصمود أمام الصعاب التي واجهاها، حسب جيليان سلوفو مؤلفة الكتاب.

وفي خطاب عزائه لأرملة ألبرت لوتولي، الذي تولى رئاسة المؤتمر الوطني الإفريقي، كتب مانديلا أنَّ "محارباً عظيماً" قد "نزل من على المنصة إلى التاريخ". وكذلك مانديلا أيضاً نزل من على المنصة. لكن من خلال هذه الخطابات المثيرة عاد إلينا الرجل المفكر والحساس والمحب.

كانت ويني زوجة مانديلا الثانية، وأصبح والدها وزير الزراعة في ترانسكاي بينما كان مانديلا في السجن، وانتهى زواجهما بالانفصال في أبريل 1992 فالطلاق الرسمي في مارس 1996، وكان للقطيعة السياسية دورا رئيسيا في ذلك.


واقرأ أيضاً..

الطابع "الخطير والأعمى" لإسرائيل في غزة يدفع جنوب إفريقيا لاستدعاء سفيرها في تل أبيب

شابة فلسطينية تواجه السجن 5 سنوات بسبب كلمة "شهيد".. محكمة إسرائيلية أدانتها بـ"التحريض" لنشر قصيدة على فيسبوك

تحميل المزيد