بسببها اختير اسم أميركا.. تعرَّف على خريطة “فالدسميلر” التي تمثل شهادة ميلاد للعالم الجديد

قبل بضع مئات من السنين، عندما كان معظم العالم لا يزال غامضاً ومجهولاً، اجتمع عدد من الأوروبيين في هذه المدينة لإعداد خريطة غير عادية للعالم، كانت خريطة اختلفت جذرياً

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/07 الساعة 13:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/07 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش
خريطة فالدسميلر Waldseemüller map

مدينة سينت ديه دي فوج بشرق فرنسا قرب الحدود مع ألمانيا وبلجيكا هي مدينة صغيرة كثيرة الأشجار تُطل على وادي مورت في شمال شرق فرنسا، وهي التي يُعزى إليها السبب في إعطاء قارة أميركا بأكملها هذا الاسم، حسب موقع شبكة BBC البريطانية.

لكن قبل بضع مئات من السنين، عندما كان معظم العالم لا يزال غامضاً ومجهولاً، اجتمع عدد من الأوروبيين في هذه المدينة لإعداد خريطة غير عادية للعالم، كانت خريطة اختلفت جذرياً عن جميع الخرائط التي سبقتها، وما زالت آثارها موجودة في زماننا هذا.

صورة قديمة لمدينة سينت ديه دي فوج

خريطة لوصف العالم كله

بلغت أبعاد الخريطة التي طُبعت عام 1507، حوالي 1.4 متر طولاً، و2.4 متر عرضاً، وهو الحجم الذي يتماشى مع طموحها الكبير لوصف العالم بأسره. وفي الواقع، تمكنت هذه الخريطة من وصف أجزاء أكثر من العالم بوضوح أكثر من أي وقت مضى، حسب شبكة BBC البريطانية.

خريطة فالدسميلر
Waldseemüller map

ثلاث قارات مركزها القدس، هكذا تصور الأوروبيون العالم

اعتقد الأوروبيون لمئات السنين أن العالم يتكون من ثلاث كتل رئيسية من اليابسة وهي: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتتمركز القدس في قلبها.

وسافر المستكشف الإيطالي والمستعمر الذي عمل لصالح الإمبراطورية الإسبانية في ذلك الوقت، كريستوفر كولومبوس، إلى الأراضي الجديدة قبل هذا الاجتماع بسنة لكنه كان يعتقد أن الموقع الذي اكتشفه في الأميركتين، ما هو إلا جزء آخر من آسيا.

عندما وُضعت الأميركتان على الخريطة لأول مرة

لكن هذه الخريطة الجديدة صورت جزءاً رابعاً من العالم لأول مرة. فقد أظهرت على يسار قارة أوروبا، نسخة طويلة قليلة العرض من قارة أميركا الجنوبية، تعلوها قارة أميركا الشمالية صغيرة الحجم. كانت القارة الجديدة محاطة بالمياه، وعلى الجزء الذي يُعرف اليوم باسم البرازيل، وضع صانعو الخرائط اسماً: ألا وهو أميركا.

خريطة فالدسميلر

تُعرف هذه الخريطة التي تُعد علامة بارزة في مجال رسم الخرائط  باسم خريطة فالدسميلر، وسُميت بهذا الاسم تيمناً برسام الخرائط الألماني الذي رسمها. إلا أن مارتن فالدسميلر كان واحداً من ضمن مجموعة من الباحثين الذين جمعهم والتر لود، وهو قسٌ كاثوليكي تابع لكنيسة مدينة سينت ديه دي فوج، وجاء بهم إلى هذه المدينة.

كان لود مهتماً بشكل خاص بعلم أوصاف الكون -الذي يشمل دراسة الأرض وموقعها في هذا الكون السحيق- وقد أراد أن يصنع صورة للعالم تجمع بين المعرفة القديمة، والمعلومات الجديدة القادمة من الرحلات التي كانت تجري في ذلك الوقت. وتحقيقاً لهذه الغاية، حصل على تمويل من رينيه الثاني دوق لورين، لتأسيس مطبعة تدعى Gymnasium Vosagense، وجمع فريقاً ضم فالدسميلر ومتبعاً آخر للمذهب "الهيوماني" هو ماتيس رينمان.

رواية جديدة لإطلاق اسم أميركا

ووفقاً لما ذكره الصحفي توبي ليستر، مؤلف كتاب "الجزء الرابع من العالم: التسابق إلى نهايات الأرض، والقصة الملحمية للخريطة التي منحت أميركا اسمها"، اضطلع رينمان بالدور الرئيسي في تأليف الكتاب الذي طُبع جنباً إلى جنب مع الخريطة ويكاد يكون من المؤكد أنه السبب في إطلاق اسم أميركا.

إذاً لماذا اختاروا هذه المدينة بالذات لاجتماعهم المهم؟

لم يجتمع راسمو الخرائط الألمان للقيام بمثل هذا المشروع في مدينة سينت ديه دي فوج من أجل الحصول على المال فقط. فقد احتل موقع المدينة أيضاً أهمية بالغة. وكما قال توبي ليستر: "كان هناك مستكشفون ينطلقون من ساحل المحيط الأطلسي في إسبانيا والبرتغال، ويعودون بكل ما لديهم من معلومات إلى هناك، وقام الإيطاليون الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تمويل هذه البعثات الاستكشافية بتداول الكثير من المعلومات، بينما كان الألمان في وسط كل ذلك، يؤدون عملاً قوياً وقيادياً في عملية الطباعة. كانت مدينة سينت ديه، التي تقع بالقرب من ستراسبورغ وبازل وفرايبورغ، مثل المواقع الأخرى التي أُنشئت فيها المطابع، تُمثل نقطة التقاء يُمكن أن تنتقل المعلومات إليها ومنها بسهولة.

 

وتقع المدينة على بُعد 68 كلم جنوب غرب مدينة ستراسبورغ الفرنسية، و93 كلم شمال غرب مدينة بازل السويسرية، و74 كلم شمال غرب مدينة فرايبورغ الألمانية. وبفضل الخرائط الحديثة والأساليب الدقيقة لقياس خطوط الطول والعرض، يمكننا اليوم تحديد مكانها على هذا الكوكب بدقة.

رسمت أخيراً الخطوط الأولية لقارة أميركا الجديدة

لا تتوفر اليوم سوى القليل من الأدلة التي تشير إلى تاريخ مدينة سينت ديه دي فوج في القرون الوسطى، فقد أعيد بناؤها بشكل شبه كامل بعد الحرب العالمية الثانية. رُسمت الخطوط الأولية لقارة أميركا على الأرض خارج الكاتدرائية مباشرةً، على ألواح من الحجر الرملي المتطابق وردي اللون، التي من الممكن أن يعتقد المرء بأنها زخرفة للتزيين.

ويمكن رؤية تمثال غرغول حجري يجسد أحد السكان الأصليين من القارة الجديدة في الدير؛ وفي كل عام تستضيف المدينة مهرجاناً دولياً للجغرافيا حيث يجتمع الخبراء والهواة في علم الجغرافيا لتبادل الأفكار. ولعل هذا هو السبب في أن معظم زوار المدينة لا يعرفون تاريخها في صنع الخرائط، أو أنهم يستطيعون رؤية بقايا هذا التاريخ عن طريق زيارة المكتبة المحلية الحديثة والمبهجة.

بتمويل إيطالي وطباعة ألمانية وبحارة إسبان وبرتغال.. صنعت أول كرة مطبوعة في التاريخ

يشير المجلد، الذي كُتِب باللغة اللاتينية بأكمله، بوضوح إلى الغرض منه: فهو مدخل إلى العالم الذي صورناه على سطح كروي وعلى سطح مستو. ويشير "السطح المستوي" إلى خريطة فالدسميلر التي طُبِعت على 12 ورقة منفصلة ليجري تجميعها معاً على سطح مستو، في حين أن "الكروي" يشير إلى نسخة أصغر من الخريطة، صُمِمت ليجري تقطيعها ولصقها على كرة، مما يجعلها أول كرة مطبوعة جرى بيعها في التاريخ، كما تُظهِر -خلافاً للاعتقاد الشائع- أن الأوروبيين في القرون الوسطى عرفوا تماماً أن العالم كان كروياً وليس مُسطحاً.

ومن الجدير بالذكر أن النص يوضح أيضاً السبب في تسمية القارة، التي يزعم المجلد بأنها اكتُشِفت على يد المستكشف الإيطالي أمريكو فسبوتشي. وبما أن أسماء القارات الأخرى تعتبر مؤنثة في اللغة اللاتينية -أوروبا، إفريقيا، آسيا -علّل المؤلف ذلك بأن اسم هذه الأرض الجديدة ينبغي أيضاً أن يكون مؤنثاً، ليصبح "أميركا، نسبة إلى مكتشفها".

رحلات أمريجو فسبوتشي للعالم الجديد
 

لكن، ألا يعد ذلك ظلماً لرحلات المسكتشف الأول كولومبوس؟

وكانت هذه الكلمات سبباً في خلاف استمر على مدار القرون التالية، بدءاً من قول الراهب الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس،  في النصف الأول من القرن السادس عشر بأن ذلك مثّل "ظلماً وإجحافاً" لكولومبوس، الذي سبقت رحلاته إلى الأميركتين رحلات فسبوتشي، وانتهاء بالكاتب الأميركي واشنطن إيرفينغ، الذي كتب في عام 1809 عن "الحيل الماكرة" التي من خلالها سرق أهل فلورنسا المجد الذي حققه كولومبوس.

رحلات كولومبوس إلى العالم الجديد

لكن على الرغم من أن الرحلات البحرية الأربع التي خاضها كولومبوس عبر المحيط الأطلسي  بدأت في عام 1492 عندما صادف جزر الكاريبي، إلا إنه لم يلمس أرض القارة إلا في الرحلة الثالثة عام 1498. وعلى النقيض من ذلك، واستناداً لرسالة كتبت بتاريخ  1504 من فسبوتشي إلى الدوق رينيه وأُعِيدت طباعتها في كتاب مقدمة لعلم أوصاف الكون Introduction to Cosmography وتصف رحلاته البحرية الأربع بدءاً من عام 1497 حتى عام 1504، فقد وصل فسبوتشي  إلى اليابسة قبل عام من كولومبوس. شكك المؤرخون في صحة هذه الرسالة، إلا أن فالدسميلر ورينمان أخذا رسالة فسبوتشي على ظاهرها، واعتمدا في تسميتها للقارة الجديدة على محتوياتها.

وتقاسمت إسبانيا والبرتغال الأراضي الجديدة

لم يكن اسم القارة الجديدة هو نقطة الخلاف الوحيدة التي تدور حول الخريطة. لقد قيل الكثير عن حقيقة أن القارة الجديدة كانت مُحاطة بالمياه. فكيف عرف راسمو الخرائط في سينت ديه دي فوج، عام 1507، بوجود مياه على الجانب الآخر من الأرض التي عثر عليها كولومبوس وفسبوتشي؟ وفقاً للمخطوطات، كان أول أوروبي يرى المحيط الهادئ على الجانب الآخر من القارة الأميركية، هو المستكشف الإسباني فاسكو نونييث دي بالبوا، الذي رآه من أعلى قمة جبل في بنما بعد مرور ست سنوات، في عام 1513.

خريطة لإمبراطوريتي إسبانيا والبرتغال في فترة الاتحاد الإيبيري تحت حكم اتحاد سلالي لملوك إسبانبا 1580–1640

هل كان ذلك بمثابة تخمين، أم أن صانعي الخرائط تمكنوا من الوصول إلى المعلومات من الرحلات البرتغالية التي زعمت وصولها إلى الجانب الآخر من القارة، وأبقوا الأمر سراً نظراً لأنهم عبروا إلى المياه *الإسبانية؟ (في عام 1494، قرر الإسبان والبرتغاليون تقسيم العالم الواقع غربي أوروبا بأكمله بينهما وذلك في معاهدة تورديسيلاس. وبهذا فإن كل ما هو أبعد مما يُعرف حالياً باسم البرازيل كان ضمن الأراضي الإسبانية، ولهذا السبب تعتبر البرازيل هي الدولة الوحيدة في أميركا الجنوبية التي تتحدث اللغة البرتغالية.

لكن خريطة فالدسميلر اختفت في ظروف غامضة

أحد الألغاز الأخرى المتعلقة بالوجود الحالي للخريطة، هو أنَّه على الرغم من طباعة ألف نسخة من خريطة فالدسميلر Waldseemüller عام 1507، إلا أنَّ جميع هذه النسخ اختفت بعد وقت قصير. وعلى خلاف الكتاب الذي حُفِظ في المكتبات، عُرضت الخرائط في المؤسسات التعليمية، ولم تدُم طويلاً. أنفق هواة الخرائط مئات السنين وهم يبحثون عن خريطة فالدسميلر، أو يحاولون إعادة رسمها استناداً إلى الوصف المُفصل الذي أورده لها كتاب Introduction to Cosmograph. أخيراً، وجد أستاذ علم التاريخ والجغرافيا، الأب جوزيف فيشر، نسخة متبقية من الخريطة عام 1901 في قلعة فولفج بألمانيا.

وبيعت لاحقاً بـ 10 ملايين

كانت نسخة الخريطة هذه -التي يُشار إليها أحياناً بـ"شهادة ميلاد أميركا"- هي التي اشترتها مكتبة الكونغرس في 2003 بمبلغ كبير بلغ 10 ملايين دولار.

لكن القيمة التي اكتسبتها خريطة فالدسميلر ليست نابعة من رسم أو تسمية أميركا فقط. وكما أوضح ليستر "تشبه هذه الخريطة صفحة من ويكيبيديا، فهي تجمع وتحرر معلومات الكثير من الأشخاص. صحيحٌ أنَّها خريطة جغرافية، إلا أنَّها لا تتعلق بالمكان فقط، بل بالزمان أيضاً".

وتجمع الأسلوبين القديم والجديد في رسم الخرائط

تُمثَّل هذه الفكرة بواسطة صورتين موجودتين أعلى الخريطة: إحداهما للجغرافي اليوناني بطليموس، الذي يمثل الأسلوب القديم في النظر إلى العالم، كما يمثل دليلاً معرفياً تاريخياً كاملاً؛ والأخرى لفسبوتشي، الذي يُمثِّل الأسلوب الجديد في النظر إلى العالم، الرجل المتخم بالمعرفة والاكتشافات الجديدة.

تُمكن رؤية تجاور هذين العصرين المختلفين في الخريطة نفسها كذلك؛ على سبيل المثال، ليست الطريقة التي صُورت بها أوروبا في الخريطة دقيقة فنياً، لا لأنَّ فالدسميلر لم تكن لديه فكرة أكثر دقة عن جغرافيا أوروبا، لكن لأنَّه وكما كتب ليستر، قرر "أنَّه سيرسم العالم المعروف، تماماً مثلما رسمه بطليموس قبل ألف سنة".

وتحمل تصورات فلسفية ودينية

أضف إلى ذلك أنَّ رسم شخصين أعلى الخريطة، عوضاً عن رسم إله كما كان سائداً، يوصل رسالة قوية كذلك، فقد قال ليستر "في السابق، كان الله وحده هو من يستطيع أن يُشرِف على العالم من عليائه، لكننا بتنا الآن قادرين على أن نُريك العالم كله مرة واحدة. يقود هذا إلى فكرة الإمبراطورية والسيطرة، فإذا كنا نستطيع رسم خريطة للعالم بأكمله وامتلاك هذه الخريطة، فيُمكننا أن نحكم العالم بأكمله إذن".

وتعتبر خريطة سياسية متمركزة حول أوروبا

تذكرنا خريطة فالدسميلر بأنَّ جميع الخرائط هي خرائط سياسية. فعن طريق وضع الشمال في أعلى الخريطة، في حين كان العُرف يقضي سابقاً بوضع الشرق في الأعلى، وعن طريق وضع أوروبا في المنتصف، تُصبح هذه الخريطة متمركزة حول أوروبا حرفياً. قرار صناع الخرائط بتسمية قارة كاملة مأهولة بالسكان، باسم رجلٍ أوروبيٍ ذهب إلى هناك، يُكسب المنظور الأوروبي لرؤية العالم تميزاً وسيادةً، بالإضافة إلى أنه يوضح الموقف والطموح الأوروبيين في ذلك الوقت. هذه الخريطة هي نظرة استشرافية تتنبأ بالطريق الذي سوف يستمر الأوروبيون بسلوكه، محتلين الأراضي والموارد والبشر، وماحين ثقافاتٍ ومودين بحياة الملايين من البشر.

أو مثلما لخص ليستر كتابه قائلاً "إنَّ هذه الخريطة هي شهادة ميلاد للعالم الذي وُلد في عام 1492 – وهو شهادة موت للعالم الذي كان موجوداً قبله".


واقرأ أيضاً..

الأمم المتحدة طلبت إضفاء الشرعية على المخدرات وبيعها بالأسواق علناً في أميركا اللاتينية.. ما الذي دفعها لذلك؟

استعان بالفضائيين لبنائها واتخذها مدافن ومعابد.. أشهر أساطير عشق الإنسان للأهرام منذ فجر التاريخ

علامات:
تحميل المزيد