في 31 مايو/أيار 1918، دخلت دبابة صغيرة صمَّمها صانع سيارات فرنسي شهير وضابط جيش ذكي الخدمة للمرة الأولى. ولا يزال تصميمها الملهم يفيد الدبابات التي يتم تصنيعها حالياً، أي بعد مرور 100 عام.
وداخل ورشة عمل مختصّة، توجد اثنتان من عربات رينو FT، إحداها أُعيدت إلى حالة العمل قبل أسبوع فقط، وهي المرة الأولى التي تعمل فيها منذ ما يقرب من 100 عام، حسب موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ففي 31 مايو/أيار 1918، شنَّ الجيش الألماني هجوماً مباغتاً بالقرب من غابة ريتز المجاورة لمدينة بلويزي شمال شرقي فرنسا. وكان ذلك هو العام الأخير من الحرب العالمية الأولى، حيث كان الألمان يحاولون يائسين هزيمة الحلفاء الغربيين.
كان الحصار البريطاني يشل الاقتصاد الألماني. وعانى المواطنون من نقص الوقود والمواد الغذائية. وواجهت الإمبراطورية الألمانية الجوع والهزيمة.
وبينما كانت الوحدات الفرنسية في ريتز تحاول مقاومة الاعتداءات، انضمت إليها تعزيزات جديدة، من بينها دبابة جديدة يُطلق عليها FT. وتعد هذه الدبابة صغيرة الحجم مقارنة بالدبابات البريطانية الثقيلة المستخدمة على مدار الأشهر الـ18 السابقة، رغم أنها لا تستوعب سوى شخصين فقط.
وكانت ناجحة في صد الهجوم
ومع ذلك، كانت فعالة إلى حد كبير. فقد اندفعت 30 دبابة إلى هذه المعركة للمساعدة على صد الهجوم الألماني. وتتوقف الدبابات عن التقدم حينما لا تستطيع قوات المشاة المصاحبة لها مسايرتها.
وفي ساحة القتال، وبعد انقضاء قرن من الزمان، يوجد حالياً لوحة لإحياء ذكرى استخدام ما يعرف بأم دبابات العصر الحديث للمرة الأولى. وتعد دبابة FT الصغيرة نموذجاً للتصميم بعيد النظر.
وتدين تلك الدبابة بوجودها لثنائي غير متوقع، هما ضابط بسلاح المشاة وأحد أشهر صانعي السيارات بفرنسا.
ساعدت على حسم الحرب العالمية الأولى
وتقول الأسطورة الحديثة، إن وصول الدبابة -وهي عربة ضخمة مزودة بالبنادق- قد ساعد على إنهاء الحرب العالمية الأولى خلال أسابيع.
فقد ساعدت على تحويل مسار الحرب لصالح الجبهة الغربية، ولكن ذلك لم يحدث بين يوم وليلة، حسب موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC
ومنذ نهاية عام 1914، حدثت المواجهة بين الجيش الألماني والجيش الإنكليزي الفرنسي عبر شبكات الخنادق.
وقد اتسمت الحرب على الجبهة الغربية بالاعتداءات المفاجئة والمباغتة، حيث حاول أحد الطرفين اختراق خطوط الطرف الآخر بقصف مدفعي هائل تلاه عشرات الآلاف من الجنود المهاجمين.
إنها الحل لطرد جيش محتل
ولكن التقدم التكنولوجي جعل هذه الهجمات باهظة الثمن. لقد كانت عملية إزالة الأسلاك الشائكة صعبة وتستغرق وقتاً طويلاً. ويمكن للمدافع الرشاشة أن تقطع الجنود إرباً على بعد مئات الياردات. وهناك المخابئ الخرسانية والخنادق الجيدة التي تحمي جنود العدو حتى من قصف مئات المدافع.
وكان كل من البريطانيين والفرنسيين قلقين بشأن فقدان جنودهم نتيجة الهجمات الفاشلة قبل اختراق الدفاعات الألمانية.
وتوصلت حفنة قليلة من المخترعين والمهندسين أصحاب الرؤية إلى الفكرة ذاتها، صمَّموا نوعاً من العربة المسلحة والمدرعة التي يمكن أن تُحدث فجوات في الأسلاك الشائكة، وتدك المدافع الرشاشة والمخابئ وتحمي المشاة لفترة كافية لاكتشاف والسيطرة على شبكات الخنادق.
ويوضح ديفيد ويلي، أمين متحف بوفينغتون للدبابات، قائلاً "إنها حل لمشكلة كيفية طرد جيش محتل".
"كان القادة الفرنسيون والبريطانيون، ومن ثم الأميركيون يريدون استخدام صفيح المدرعات بدلاً من نزيف الدماء من صدور الجنود. كان يجب عليهم إعادة تعلم القتال في هذا العصر الحديث".
تكفي مشاهدتها لاستسلام العدو
لقد تسللت الدبابات الأولى إلى ساحة المعركة، في سبتمبر/أيلول 1916. ولم يكن بإمكان العربات العملاقة ثقيلة الحركة ذات التصميم البريطاني المسماة "Mark I" أن تتحرك بسرعة تزيد عن سرعة الجندي، الذي يسير على قدميه، ولكنها كانت من الناحية العملية مضادة لنيران المدافع الرشاشة. وفي وقت ما قبل ذلك، كان مجرد مشاهدتها كافياً بالنسبة لبعض القوات الألمانية القوية لكي تستسلم.
وطورها البريطانيون وأدخلوها الخدمة
ومع ذلك، كان للعربة Mark I حدودها. وهرع البريطانيون بإدخالها إلى الخدمة قبل أن يقوم المهندسون بتسوية بعض مشكلاتها، وتعطلت العديد من الدبابات بسبب مشكلات ميكانيكية. لقد كانت مظلمة وذات صوت صاخب وشديدة الحرارة وضيقة. ويمكن لأبخرة المحرك والمواد القابلة للاشتعال أن تحولها إلى فخ قاتل في لحظة.
إن سرعتها البطيئة إلى حد ما جعلتها هدفاً سهلاً نسبياً للمدفعية. وبينما كانت مسلحة بالمدافع والمدافع الرشاشة، إلا أن تلك المدافع كانت على جانبيها، وهذا يعني أنه كان لا بد من نقل العربة بأكملها لتحميل هذه الأسلحة.
لقد قام البريطانيون باستمرار بتحديث هذا التصميم الأساسي بهدف تحويله إلى "سلاح رائع". ودخلت النسخة المحسنة Mark IV الخدمة في عام 1917.
لكن النسخة البريطانية كانت لها عيوبها
ولكن كانت كل من Mark I وMark IV مرهقة وغير عملية، وكان شكلهما شبيه المعين مصمماً للسماح لها بسحق الأسلاك الشائكة، بدلاً من أن يفيدها في السرعة أو القدرة على المناورة. وكانت الفكرة هي أن تعمل الدبابات الجديدة بالتنسيق مع المشاة، وتسير ببطء يكفي لاختباء الجنود خلفها.
وبالنسبة للبعض، كان من الواضح أن هناك حاجة إلى شيء أصغر حجماً وأخف وزناً لتغطية الأرض بمجرد عبور عائق الخنادق.
وهنا جاء دور عالم الرياضيات الموهوب
كان جان بابتيست يوجين إستيان واحداً من أبرز قادة المدفعية في فرنسا. وكان عالم رياضيات موهوباً وفيلسوفاً، وطالب علم مدى الحياة في اليونان القديمة.
لقد رأى كيف كانت التكنولوجيا الجديدة تغير الحروب. وكان رائداً في مجال المدافع غير المباشرة التي تطلق النار على العدو من وراء غطاء وتسترشد بمراقب، وعمل على الآلات التي من شأنها أن تجعل هذا ممكناً. وفي عام 1907 أصبح رئيس مدرسة المدفعية في غرونوبل.
واستفادت من تصميم الطائرات العسكرية
وحتى قبل اندلاع الحرب، أدرك إستيان الدور الذي تلعبه الطائرات العسكرية، لا سيما كيف يمكن استخدام الطائرات في توجيه نيران المدفعية. وفي الأسابيع الأولى من الحرب العالمية الأولى، استخدم إستيان الطائرات لتوجيه قذائف المدفعية إلى حد التأثير المدمر في معركة شارلروا، عندما تدفقت الجيوش الألمانية عبر بلجيكا وشمال شرقي فرنسا.
ولكن أفكاره المستنيرة امتدت إلى أبعد بكثير من الطائرات. ورأى أن نيران المدافع الرشاشة والبنادق المتواصلة جعلت هجمات المشاة بالجبهة الأمامية خطيرة للغاية، وأن القوات قد تحتاج إلى استخدام نوع من الدروع المتنقلة المدرعة لحماية نفسها عند التقدم.
مدفع عيار 75 ملم فوق عربة تسير على كل أنواع الأراضي
وفي أغسطس/آب 1914، اعتقد إستيان أن إحدى العربات المدرعة المسلحة يمكن أن تكون حاسمة في الصراع القادم. وتوجه بحديثه لمجموعة من ضباط المدفعية الفرنسية عام 1914، قائلاً "أيها السادة، إن الانتصار في هذه الحرب سيكون حليف أي من الطرفين المتحاربين، الذي سيكون أول من يضع مدفعاً من عيار 75 ملم على عربة قادرة على السير في جميع أنواع الأراضي".
دبابة ريونو وسياراتها المجنزرة
وحصل إستيان على تصريح من القائد العسكري الفرنسي الجنرال جوفري بإنشاء نموذج أولي. ثم اتصل إستيان بواحد من أشهر مصممي السيارات في فرنسا هو لويس رينو، لتنفيذ النموذج.
كانت مصانع رينو منشغلة بالفعل في صنع سيارات أخرى ورفضت شركة صناعة السيارات المشاركة. وكان التصميم الذي تم تركيبه على جرار هولت أميركي الصنع، بمثابة مشروع طموح جداً لمهندس غير معتاد على بناء سيارات مجنزرة. لذا، تحول إستيان بدلاً من ذلك إلى الشركة الهندسية شنايدر، التي قامت ببناء أول دبابة عاملة في فرنسا، وهي الدبابة CA1، حسب BBC.
وعلى غرار الدبابات البريطانية، كانت CA1 ضخمة وبطيئة، ومصممة لعبور الأراضي الخالية التي تتناثر فيها الحفر وتتجه نحو خنادق العدو. ولكن على عكس الدبابات البريطانية، لم تكن الدبابة CA1 وشقيقتها Saint Chamond ذات تصاميم فعالة.
ويقول ويلي: "هذه التصاميم الفرنسية سيئة للغاية. إنها ببساطة عبارة عن جرار كبير يحمل مدفعاً من عيار 75 ملم في مقدمته، ولكنها لا تقارب الدبابات البريطانية أبداً في جودتها".
دبابة أصغر حجماً وأخف وزناً
ولكن كان لدى رينو فكرة أخرى. كان يعتقد أنه بمجرد عبور الخنادق والأراضي المليئة بحفر القنابل، ستكون هناك حاجة ملحة إلى دبابة أصغر حجماً وأخف وزناً، دبابة قادرة على الانتشار ومهاجمة تشكيلات العدو من الخلف، تقريباً بنفس الطريقة التي قام بها الفرسان على مدار القرون. كما أدركت رينو أن المحركات المعاصرة لن تكون قادرة على نقل دبابة ثقيلة عبر هذه الأراضي الصعبة بسرعة جيدة.
قرَّر بناء شيء أخف بكثير. إن الدبابة البريطانية Mark IV تزن ما يصل إلى 29 طناً، لكن الدبابة الجديدة سوف تزن سبعة أطنان فقط، مما يجعلها أقل عرضة للتعثر في الأراضي الناعمة المليئة بحفر القنابل بين الخنادق.
عملت رينو مع المصمم رودولف أرنست على الدبابة الجديدة.
لقد ضمَّت العديد من الخصائص المختلفة. كانت الأولى التي تحمل أسلحتها -إما مدفع رشاش أو مدفع عيار 37 ملم- في برج يمكن أن يدور بزاوية 360 درجة. وبينما كانت الدبابات البريطانية تسع طاقماً يصل إلى 12 شخصاً، ضمَّت هذه الدبابة مقعداً واحداً لسائق يجلس في المقدمة، وبرجاً يسع القائد/المدفعي خلف السائق مباشرة. ويوجد المحرك في المؤخرة في مقصورة منفصلة، وهو تكوين تبنته كل دبابة تقريباً تم اعتمادها بعد ذلك الوقت.
كما كان لدى البريطانيين دبابة بدلت المدفع الثقيل بمدافع رشاشة، ويشهد هذا النموذج، الوبتة، إمكانية الحركة في المعارك النهائية لعام 1918. لكن محرك الدبابة الوبتة كان في المقدمة، ولم تكن مقصورة طاقمها مزودة ببرج دوار.
وتبرد الهواء
كانت هناك ابتكارات أخرى مخبأة تحت غطاء آليات رينو. فقد قامت الدبابة بتبريد المحرك عن طريق امتصاص الهواء من مقدمة الدبابة وطرد الهواء الساخن من الخلف. وهذا الشيء جعلها عربة مريحة أكثر للقيادة مقارنة بـMark I وMark IV.
وتتسلق الحفر
كما أكد المصممون على إمكانية عمل المحرك عندما يميل إلى زوايا حادة، مما يعني أنه يمكن للدبابة أن تتسلق إلى داخل وخارج الحفر العميقة للقنابل دون توقف.
وتريح طاقمها
ونتيجة لذلك، سار طاقم FT الذي يتألف من شخصين في راحة نسبية -إن لم تكن ضيقة- في عربة قادرة على السفر بسرعة تصل إلى 7 أميال في الساعة (11 كم/ساعة)، وهي سرعة لم يكن يتوقعها أحد في عام 1918. وكانت الخطة هي استخدام أسراب من هذه الدبابات الصغيرة المصاحبة للمشاة لإرباك دفاعات العدو، وتندفع عبر الخنادق ثم تخرج.
وأنتج المزيد منها
لقد شهدت القيادة الفرنسية العليا التصميم الواعد ووضعت خططاً لإنتاج أكثر من 12000 دبابة قبل نهاية عام 1919. ولم تستطع رينو تصنيع أكثر من جزء، ولذلك أنشأت شركات صناعة السيارات الأخرى خطوط إنتاج أيضاً.
وبمرور الوقت عام 1918، تم إنتاج المزيد والمزيد من دبابات FT، مما يسمح باستخدامها بأعداد أكبر. وشهدت الأشهر الأخيرة من عام 1918 هذا النوع من الحروب المفتوحة التي صممت من أجله دبابات FT عندما انهارت الدفاعات الألمانية وتراجعت جيوشها بسرعة عبر فرنسا وبلجيكا.
المسمار الأخير في نعش الألمان
ويقول ويلي: "لقد كانت جزءاً من المسمار الأخير في نعش الألمان. لقد تم حصارهم من قبل البريطانيين ونفد الوقود والغذاء لديهم. وعندما بدأتم ترون المذكرات الألمانية في العشرينات من القرن الماضي تطرح السؤال "لماذا خسرنا"، كانت الدبابة مذكورة دوماً".
ويضيف ويلي أن الدبابة ترمز إلى الحقيقة بأن الحلفاء الغربيين -الذين عزَّزتهم القوة الصناعية للولايات المتحدة منذ عام 1917- كانوا سيفوزون. وبحلول نهاية الحرب، صنع الألمان 20 دبابة فقط. وفي الوقت الذي استغرقوه في صنع هذه الدبابات، أنتج الفرنسيون أكثر من 1000 دبابة FT، حسب BBC.
ويقول ويلي: "عندما تكون الحرب من أجل الإبقاء على المستوى القومي، فإن هذا هو الشيء الذي يختاره الناس".
لقد كان هذا هو النهج الذي ستثبت فاعليته دون شك في السنوات القادمة.
وأخيراً دبابة الحرب الخاطفة رينو FT مرة أخرى
وفي عام 1929، استخدمت مناورات تدريب الجيش البريطاني في سهل ساليسبري دبابات صغيرة وسريعة، مستوحاة من آليات مثل الدبابة الوبتة والدبابة FT، وجذبت اهتمام القادة الألمان. لقد كانوا يجمعون بين هذه التكتيكات والطائرات والمدفعية في أسلوب جديد من الحرب يسمى "الحرب الخاطفة" بعد مرور حوالي عقد من الزمن.
بعد مرور مائة عام على بدء خطوط الإنتاج، لا تبدو الدبابة FT بمثابة شيء مرعب.
لقد أعاد فريق عمل بشق الأنفس تشغيل الدبابة FT، حتى علبة البنزين الصغيرة التي استخدمها الطاقم لتشغيل المحرك -وذلك بصب كمية صغيرة من الوقود مباشرة على الأسطوانات- أُعيد بناؤها من خلال المخططات القديمة. وشارك خبراء من جميع أنحاء العالم، بما يشمل متحف بوفنغتون للدبابات ومتحف فرنسا المكافئ والجيش البرازيلي، لتقديم المساعدة.