أول “إرهابية” روسية – قصة الأيقونة السوفياتية التي شُنقتْ بسبب اغتيالها أحد القياصرة

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/31 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/31 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش

يهيمن الرجال البيض على صفحات الوفيات في جريدة New York Times الأميركية، منذ العام 1851… لكن الجريدة، ومن خلال صفحة "المنسيّون" أو "المهملون"، أضافت قصص أشخاص جديرين بالاهتمام، لم تسردها من قبل. ومن بين هذه القصص، إليكم قصة النبيلة صوفيا بيروفسكيا، التي أُعدمت في العام 1881، لارتكابها جريمة سياسية، إثر عملية اغتيال القيصر آلكسندر الثاني.

فجَّر القتلة أول قنبلة، بينما كان القيصر آلكسندر يستقلّ عربته في شوارع سانت بطرسبرغ الروسية.. لكنه نجا، بفضل العربة التي كانت مصفّحة. ومع ذلك، أخطأ آلكسندر خطأً فادحاً بالنزول إلى الشارع.. فحينذاك، تمَّ إطلاق القنبلة الثانية، ونزف وتُوفي خلال ساعات.

وتزعَّمت المعتدين في ذلك اليوم، الموافق 13 مارس/آذار 1881، النبيلة صوفيا بيروفسكيا من سليلة بيتر الأكبر. وسرعان ما تمَّ اعتقال صوفيا (27 عاماً) مع شركائها الأربعة، الأعضاء في منظمة إرادة الشعب المتطرّفة، وتمَّت إدانتهم وصدر الحكم بإعدامهم جميعاً.

مراسم الإعدام

وأصبحت صوفيا تُعرف بكونها أول إرهابية في روسيا، ويرجع الفضل إليها في دفع الإمبراطورية نحو الثورة، فيما حصلت في وقتٍ لاحق على عباءة الاستشهاد. وأطلق تولستوي عليها لقب "جان – دارك العقائدية".

حظي إعدام بيروفسكيا بنفس أهمية اغتيال القيصر. ففي 15 أبريل/نيسان من العام نفسه، تمَّ اقتيادها مع شركائها عبر شوارع سانت بطرسبرغ، في عربات المزارع. كانوا يرتدون الملابس السوداء، وأيديهم مقيَّدة خلف ظهورهم، مع لافتاتٍ عللى أعناقهم كُتب عليها عبارة "قتلة القيصر". وتحرَّك الموكب في ظلِّ حراسةٍ عسكرية، خلال قرع الطبول، وسط حشود هائلة.

تواجدت 5 توابيت في منطقة العرض المركزية في العاصمة الروسية، خلف منصَّة الإعدام السوداء. وقيل أن بيروفسكيا، وهي أول امرأة في روسيا يتمّ إعدامها جراء ارتكابها جريمة سياسية، قامت بتقبيل شركائها، ومن بينهم حبيبها آندريه زليابوف. وكانت تزعَّمت خطة الاغتيال، بعد اعتقاله.

واحتفظت بيروفسكيا برباطة جأشها، وفقاً للعديد من الروايات. وفي خطابها الأخير إلى والدتها، بدا واضحاً أنها تقبّلت مصيرها المحتوم: "صدّقيني يا أمي العزيزة، إنه ليس مصيراً مظلماً على الإطلاق. فقد عشتُ وفقاً لمعتقداتي، ولم أستطع أن أفعل غير ذلك. وأنتظر ما هو مُخبّأ لي، بضميرٍ نقيّ".

رسمٌ تقريبي لـِ صوفيا وحبيبها آندريه زليابوف
رسمٌ تقريبي لـِ صوفيا وحبيبها آندريه زليابوف

الأيقونة والرمز

انجرفت بيروفسكيا وراء حماستها للثورة، حينما كانت فتاة صغيرة.. واعتبر شركاؤها أن القيصر هو العقبة الرئيسية، التي تحول دون إجراء الإصلاح الدستوري. وبمجرَّد وفاته، اعتقدوا أن الشعب سيدرك أن الإمبراطور لم يكن شبه الإله الذي تصفه تعليمات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وسينهض لمواجهة الاستبداد.

كان آلكسندر الثاني ليبرالياً متحرّراً، قام بإلغاء العبودية وتأسيس نظامٍ قضائي، رغم أنه تنازل عن سلطاته للقوات الرجعية في سنواته الأخيرة. وأدَّى اغتياله إلى اعتلاء ابنه المحافظ، آلكسندر الثالث، كرسي العرش. وتراجع القيصر الجديد عن العديد من الإصلاحات التي قام بها والده، وفرض تدابير أشدَّ قمعاً.

ومع ذلك، مهدَّت بيروفسكيا ومجموعتها الطريق نحو ثورة 1917، بحسب ما ذكره آندريه زوبوف، مؤرِّخ ومحرَّر كتاب "تاريخ روسيا، القرن العشرين" المكوَّن من ثلاثة مجلدات (2009). وقال زوبوف "بطريقةٍ ما – وليس على الفور، بل خلال عقود – أدَّت أفعال بيروفسكيا وأفكارها إلى اندلاع ثورةٍ اجتماعية".

وسرعان ما أصبحت "الإرهابية الأولى" تحظى بالكثير من الاحترام والتقدير، بسبب تضحيتها بحياتها. وذكرت بربارا إيفانز كليمنتس، الأستاذة الفخرية بجامعة آكرون ومؤلّفة كتاب "تاريخ المرأة في روسيا: منذ العصور الأولى حتى الوقت الحالي" (2012): "في القرن التاسع عشر، كانت بيروفسكيا تُعتبر شهيدة الصراع من أجل العدالة الاجتماعية والإصلاح الدستوري، بين النخبة المثقفة من الليبراليين والمتشدّدين".

وفي العشرينيات من القرن العشرين، جعل البلاشفة من بيروفسكيا أيقونة ورمزاً. وتناولت السير الذاتية والروايات والأفلام السوفيتية قصتها بإعجاب. وتمَّت تسمية بعض المعالم والميادين والشوارع، بل أحد الكواكب الصغيرة التي تمَّ اكتشافها عام 1968، على اسمها.

من الصور النادرة لـِ صوفيا في طفولتها
من الصور النادرة لـِ صوفيا في طفولتها

من هي بيروفسكيا؟

وُلدت صوفيا بيروفسكيا في 13 سبتمبر 1853. وكان والدها، ليف نيكولافيتش بيروفسكيا، جنرالاً عسكرياً تولَّى منصب الحاكم العام لمدينة سانت بطرسبرغ، وكان سليل الأسرة القيصرية. والدها كان يحتقر والدتها المتديّنة فارفرا ستيبانوفنا بيروفسكيا، لكونها من النبلاء المحافظين.

وفي وقتٍ سابق، اصطدمت بيروفسكيا مع والدها المستبدّ. وتصاعدت حدّة التوتر، بعد أن شجعت والدتها فارفرا بناتها على الالتحاق بالدراسة الجامعية، التي لم تكن تقليدية للمرأة في ذلك الحين. والتحقتْ بيروفسكيا بالجامعة النسائية، حيث نظّمت دورة دراسية.

وبوحي من الأدب المتطرّف ونفورٍ من أوجه الظلم الاجتماعي، الذي يعاني منه المجتمع الروسي – ناهيك عن ظلم والدها – تركتْ بيروفسكيا المنزل، بينما كانت في سنّ المراهقة.

بيروفسكيا فتنت الكثيرين بذكائها المتوهّج وضحكتها الرائعة وجاذبيتها وملامحها الشقراء، بالإضافة إلى عينيها الزرقاوتين ووجهها الطفولي. وأشاد كاتب سيرتها الذاتية، نيكولاي تروتسكي، بشرفها وإحساسها بالواجب، واعتبرها "أكثر الشخصيات احتراماً، بين آلاف المقاتلين الذين ناضلوا ضدّ استبداد القياصرة".

ومع اكتساب الحركة الثورية زخماً، سعتْ بيروفسكيا إلى خدمة الشعب، واجتازت الاختبارات لتصبح معلمة، ثم استكملت دراستها كمساعدة طبيب. وانضمَّت إلى الحركة الشعبية، التي تمثل أولى محاولات المثقفين الروس، لإنشاء علاقة جيدة مع الفلاحين من أجل تحريضهم على المشاركة في الثورة الاشتراكية.

وأدى ذلك إلى اعتقالها عام 1874، حيث انضمَّت بعدها إلى منظمة ثورية أخرى أصبحت منظمة سرّية في نهاية الأمر. وفي عام 1879، انضمَّت إلى حركة إرادة الشعب الأكثر شهرة خلال ذلك العصر.

شاركت بيروفسكيا في محاولتين فاشلتين لاغتيال آلكسندر الثاني- إحداهما بالقرب من موسكو والأخرى في أوديسا – قبل أن تنجح في المحاولة الثالثة. وتمَّ تخليد موقع الاغتيال ببناء مَعلم مُلوَّن بالمدينة، هو كنيسة "منقذ الدم المسكوب".

ومؤخراً، تلاشت ذكرى بيروفسكيا، وسط أجواء تبجيل الحكم القيصري. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، تمَّت إعادة تسمية الشوارع التي تحمل اسمها وإزالة النصب التذكاري الخاص بها.