الجزيرة الموحشة التي عاش بها جورج أورويل.. هل قتلته بعد أن ألهمته نبوءة “1984” الشهيرة؟

تظهر الدوامة بشكل مفاجئ، مارَّةً عبر الامتداد الضيق للبحر بين جزيرتي جورا وسكاربا النائتين القابعين في الشطر الشمالي البارد للمحيط الأطلنطي.

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/24 الساعة 22:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/25 الساعة 09:06 بتوقيت غرينتش

تجربة مخيفة تحبس الأنفاس؛ إذ إن المرور من دوامة "كورريفركان-Corryvreckan"، مرعب، حتى عندما تكون الظروف مواتية نسبياً.

تظهر الدوامة بشكل مفاجئ، مارَّةً عبر الامتداد الضيق للبحر بين جزيرتي جورا وسكاربا النائتين القابعين في الشطر الشمالي البارد للمحيط الأطلنطي.

كلما أوغلتَ فيها ينخفض أحد جوانب القارب، وتجد نفسك مجبَراً على الوقوف على سطح القارب. وبعد قليل، ينجرف الجانب الآخر من القارب، وتتمسك بقوة بحاجز الحماية، في محاولة للحفاظ على نفسك من الانزلاق في الاتجاه المعاكس.

 لا بد أن جورج أورويل شعر بمثل ذلك الشعور عندما وجد نفسه في غياهب هذه الدوامة حين كان بطريق العودة من نزهة على الجانب الغربي من جزيرة جورا الأسكتلندية.

الأمر كان أسوأ مع جورج أورويل

ولكن بالنسبة له، كان الأمر أسوأ بكثير من مجرد السقوط من على ظهر القارب. فقد انجرف المُحرك الخارجي مع الماء، وحاول ابن أخيه الشاب هنري التجديف نحو جزيرة إليان مور الصخرية الصغيرة.

ومع اقترابهم من الجزيرة، انقلب القارب. وتمكن أورويل من الخروج من أسفل القارب وسحب نفسه وابنه الصغير ريتشارد في اتجاه الصخور. لقد كان محظوظاً للغاية هو ورفاقه.

بعد ذلك، كان عليهم الانتظار إلى أن يجدهم أحد الصيادين المارين ويأخذهم إلى ديارهم، وقد كانوا مصدومين بلا شك، ولكنّ أحداً منهم لم يصب بأذى.

للسير على خطى أورويل، جاء جيمس شاو، مراسل BBC في أسكتلندا، إلى هذه الجزيرة الجميلة التي تقع ضمن مجموعة جزر هبرديس في شمال غربي أسكتلندا، قبالة ساحل أرجيل.

لجأ أورويل إلى هذا المكان؛ هرباً من العمل اليومي الشاق في الصحافة ولإيجاد بيئة نظيفة، اعتقد الأطباء أنها ستساعده على التعافي من نوبة خطيرة من مرض السل.

ولكن، ماذا وجد هنا؟ وهل كان لأسلوب الحياة على الجزيرة أي تأثير على رواية "1984" الرائعة التي سيبدعها فيما بعد؟ يتساءل تقرير BBC.

عندما تتحقق كوابيس أديب

"الأخ الأكبر" مصطلح سكَّه أورويل في روايته "1984" التي كتبها عام 1949 وبات يرمز لتسلط السلطة السياسية على حياة البشر.

ورغم طابعها الأدبي، فقد اعتُبرت هذه الرواية أحد أهم الأعمال الأدبية السياسية في القرن العشرين، ونادراً ما نرى رواية قُرئت مثلها، وأصبحت مفرداتها جزءاً من اللغة اليومية للناس.

فالذي يثير الاهتمام في رواية "1984" هو حضور خوف كبير من تلك الإمكانات التقنية-السُلطوية؛ التي وفرها القرن العشرون للدكتاتوريين.

ويرى بعض الكُتاب أن رواية "1984" مهمّة في فهم القرن العشرين، ويصفها البعض بأنها الرواية التي تحولت إلى نبوءة.

الطريق إلى المرزعة

يتوقف قائد المركب، دنكان فيليبس، عند ما يوصف بأنه رصيف، ولكنه في الواقع مجرد كتلة كبيرة من الخرسانة ينحدر منها سُلم قديم صدئ. ويشير إلى طريق يقود إلى أرض مرتفعة إلى الجنوب، ويقول إن بارنهيل تبعد نحو نصف ساعة في هذا الاتجاه.

بارنهيل ، هي مزرعة مهجورة في الطرف الشمالي من الجزيرة،  استأجرها الكاتب البريطاني وعاش بها فترات خلال أربعينيات القرن العشرين، حيث ألَّف خلالها رواية "1984" بعد نجاح روايته الشهيرة "مزرعة الحيوانات".

الطريق، يحدُّه البحر يساراً، والتلال المنحدرة التي تغطيها أشجار السنديان القديمة وغيرها من أنواع الأشجار المحلية تقع على الجهة الأخرى.

على قمة التل، تظهر بارنهيل في الأفق، حيث تقع على أرض جوفاء على الجانب الشرقي من الجزيرة. ويمتد خلفها مضيق جزيرة جورا نحو سواحل أرجيل الضبابية.

هنا كتب رائعته وهو يحارب جبهات عدة

حوض استحمام صلب من الحديد الزهر، هو أبرز ما تبقى من آثار الزمن الذي عاش فيه أورويل في المنزل الكائن في بارنهيل.

يقول مراسل BBC: "وقفنا هناك للحظة نتخيل فيها المؤلف الشهير وهو منغمس في الحمام مثل كوب ساخن من الشاي قوي المفعول".

دلَّه على هذا الأثر، روب وسكوفي فليتشر، اللذان يملكان المنزل الآن، وهما يعرفان تاريخه جيداً؛ لأن جديهما هما من أجَّرا المكان لأورويل في أربعينيات القرن العشرين.

يوجد أسفل الممر غرفة نوم أورويل، حيث أكمل كتابة مسودة رواية "1984". ولأنه لم يكن قادراً على إحضار كاتب على الآلة الكاتبة إلى الجزيرة لكتابة نسخة مُنقحة من الرواية ليرسلها إلى ناشره، كان عليه أن يفعل ذلك بنفسه.

فقد كان يجلس وهو مريض في السرير، مستمداً قوته من أكواب الشاي، والسجائر الملفوفة باليد، وربما كأس من الجن من حين إلى آخر.

حتى سريره يقبع في مكان قاسٍ

هذا المكان قاسٍ بما يكفي للعيش فيه، يقول روب وهو يحرك إصبعه عبر الجدار الرطب فوق السرير.

ويضيف أنه "أمر قاسٍ إذا كنت تقيم هنا في فصل الشتاء وهناك تكثيف ينساب على الجدران، وتحاول فقط تدبير شؤونك اليومية وإطعام نفسك ورعاية أسرتك والعناية بأطفالك".

فما بالك بمحاولة تأليف كتاب مهم للغاية! يبدو أمراً صعباً أن يتمكن أورويل من الجمع بين كل تلك الأشياء، أو ينهي الكتاب بينما كان يعاني مرضاً ميؤوساً من شفائه!".

هل أودت بحياته؟

إنها فكرة مؤلمة. إن تلك الرواية الكلاسيكية من أدب الديستوبيا أودت بالفعل بحياة الرجل الذي كتبها في هذه البيئة الجميلة والقاسية في الوقت ذاته، هكذا يتساءل كاتب التقرير.

لا يتذكر نجل أورويل بالتبني، ريتشارد بلير، تلك الفترة على ذلك النحو. فقد كان عُمره عامين بالكاد عندما وصل إلى الجزيرة في عام 1946.

من منزله في مقاطعة يوركشير البريطانية، تحدث عن أقوى انطباعاته تجاه والده في ذلك الوقت.

"أولاً وقبل كل شيء، إنه كان يدخن، بالإضافة إلى صوت النقر على الآلة الكاتبة في غرفة النوم. فقد كان يستيقظ، ويتناول وجبة الإفطار، ثم يذهب إلى غرفة نومه، ويبدأ في الكتابة طوال فترة الصباح. ثم ينزل ويتناول الغداء معنا"، هذا ما يتذكره بلير عن والده في تلك الفترة.

ويضيف: "كان صوته ضعيفاً إلى حدٍ ما ومرتفع النبرة قليلاً. لكن، يرجع ذلك لإصابته بطلقة في العنق بإسبانيا. إلى جانب السعال المتواصل الذي كان يعانيه منذ طفولته".

رحلة النهاية المؤلمة

تدهورت حالة أورويل الصحية كثيراً في شهر يناير/كانون الثاني عام 1949، وقرر الأطباء أنه بحاجة إلى العلاج في البر الرئيسي ببريطانيا.

ولكن، بينما كانت آفريل، شقيقة أورويل، تنقلهم بالسيارة إلى أسفل الطريق الوعر المؤدي إلى العبّارة، انفجرت أحد إطارات السيارة القديمة الكبيرة.

مكث ريتشارد ووالده في السيارة بينما سارت آفريل وصديق العائلة، بيل دنّ إلى بارنهيل لإصلاح الإطار.

يقول ريتشارد: "كنا نجلس هناك لا نفعل شيئاً، كما يُمكنك أن تتخيل في ظهيرة مظلمة بفصل الشتاء، في شهر يناير/كانون الثاني، ولتمضية الوقت كان يحكي لي بعض القصص. أعتقد أنه ألّف تلك القصص بينما كان يسردها. وأتذكر أنه أعطاني نوعاً من الحلوى. وهناك جلسنا في انتظارهم إلى أن يعودوا ويصلحوا السيارة، ثم ذهبنا إلى جزيرة أردلوسا، حيث أعتقد أنه قضى فيها ليلته".

ربما كان بوسعه أن يكتب عملاً أفضل

كانت هذه اللحظات الأخيرة التي قضاها ريتشارد مع والده في الجزيرة.

بقي هو وآفريل وبيل في جزيرة جورا خلال الفترة المتبقية من عام 1949. وذهب لرؤية أورويل في مصحة استشفاء بمقاطعة غلوسترشاير، في وقت لاحق من ذلك العام. لكنه عاد إلى جزيرة جورا عندما أُعلنت وفاة والده في أخبار الساعة الثامنة عبر هيئة الإذاعة البريطانية.

إن هدوء الجزيرة مكَّن أورويل من التركيز على عمله بطريقة لم تكن ممكنة في لندن، حسب ابنه بالتبني، الذي يعتقد أن التجربة التي شهدها أورويل في جزيرة جورا أثرت على الكتاب الذي أنهى تأليفه في نهاية المطاف.

و قال أورويل بنفسه في رسائله، إنه ربما كان كتب كتاباً أفضل لو لم تكن حالته الصحية سيئة إلى هذه الدرجة.

إنها استراحة قصيرة قبل الوداع الحتمي والخليج مازال ينتظر

الفترة التي قضاها في جزيرة جورا كانت مجرد فترة نقاهة قصيرة، استراح فيها من صحته المتدهورة التي كانت ستودي بحياته حتماً في نهاية المطاف.

ذلك ما يراه جيمس شاو مبرِّئاً الجزيرة النائية على ما يبدو، من المسؤولية عن موت الكاتب الكبير.

ويرى أن تلك الفترة منحته ما يكفي من الوقت لتأليف الكتاب الذي خطط له عدة سنوات.

ولم ينته المطاف برواية "1984" باعتبارها عملاً أخيراً عظيماً غير المكتمل؛ بل كانت تحفة فنية روائية رائعة  في سياق الدعاية المناهضة للشمولية.

وعلى الرغم من المشقة ووفاة والده، ما زال ريتشارد بلير يتذكر الحرية والسعادة التي شعر بها عندما كان يعيش في جزيرة جورا ويستكشفها، والتي ما زال يصفها بأنها منزله الروحي حتى بعد مرور 70 عاماً على هذا التاريخ.

وحين تصل حياته إلى نهايتها، يرغب ابن أورويول بالتبني، في أن ينثر رماده على خليج كورريفركان، قالها مبتسماً وهو يتذكر تجربته الصعبة هو ووالده مع الدوامة "سيحصل (كورريفركان)، أخيراً، على ما كان مستحقاً له يوماً ما".

علامات:
تحميل المزيد