استسلام “إيتا” آخر حركة انفصالية مسلحة بأوروبا.. مسلسل تراجع الحركات الاستقلالية

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/23 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/23 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش

لم تنل صك البراءة الذي تشتهيه، رغم توسلات قادتها بالعفو خاصة من قبل ذوي الضحايا.

مؤتمر السلام الذي دعت إليه منظمة إيتا ETA التي كانت تطالب بانفصال إقليم الباسك لم يستقبل أياً من ممثلي الحكومتين الإسبانية والفرنسية، وبدت مدريد متشككة في نوايا الحركة رغم تسليمها أسلحتها.

فبعد عقود من المواجهة، تنوعت فيها أشكال النزاع بين سياسي وعسكري، أعلنت حركة إيتا التي تعد آخر حركة انفصالية مسلحة في أوروبا استسلامها في مؤتمر عقد بجنوبي غرب فرنسا في 4 مايو/أيار 2018، وصف بأنه لإعلان السلام في الإقليم.

 والآن وبعد سقوط كثير من الضحايا، انتهت المواجهات التي خاضتها الحركة بخفي حنين في الإقليم الذي تتوزع أجزاءه بين إسبانيا وفرنسا.

ولم تكن إيتا الحركة الانفصالية الأولى التي تفشل في الوصول إلى رغبتها، فخلال العام الماضي تحديداً فشلت مغامرات انفصالية أخرى في مناطق مختلفة من أوروبا والشرق الأوسط، فهل هذا بداية ذبول الحركات الاستقلالية أم مجرد هدنة قابلة للفض.

بداية إيتا الغريبة.. خليط من القومية والكاثوليكية والماركسية

الجذور التاريخية والفكرية لـ "إيتا" تستقي مصادرها من مزيج من الفكر القومي الباسكي والإيديولوجيا الإثنية الكاثوليكية والأفكار الماركسية، في توليفة تطرح مفارقة فكرية، لكنها لم تعطل إمكانية المنظمة للتحرك وتوجيه الضربات وإثبات وجودها في المشهد السياسي الإسباني خاصة.

بدأت كحركة تحررية، تأمل في تكوين دولة خاصة بها، في ذلك الإقليم الواقع بين فرنسا وإسبانيا، وقد كان الظهور الأول لها في عام 1958، إبان فترة حكم الطاغية الإسباني فرانشيسكو فرانكو، وصاحب ذلك حرباً ضروس من قبل فرانشيسكو تجاه الحركة، حيث قتل منهم 60 شخصاً تقريباً، بالإضافة إلى سجن أخرين.

عمليات الاغتيال والعنف بدأت من قِبل الحركة في العام 1968 واستمرت بعدها لعقود، تعددت ما بين عمليات اغتيال لشخصيات مهمة، أو تفجيرات في أماكن حيوية.

ونجحت الحركة في اغتيال وريث فرانكو في الحكم لويس كاريرو بلانكو في العام 1973، الذي حوّل اغتياله مسار التاريخ وساهم في تحول إسبانيا لدولة ملكية دستورية.

وقد بلغت ذروة عنف الحركة في عام 1980، حيث بلغ عدد الضحايا 100 شخص، في ذلك العام فقط.

وقد وصلت محصلة عملياتها بحسب تقارير إلى 853 قتيلاً، من بينهم جرائم راح ضحيتها أشخاص خارج المعادلة السياسية تماماً.

وفي ذروة أحداث العنف، شهدت إسبانيا هجمات تركت أثراً مدوياً، كان من بينها تفجير سيارة ملغومة عام 1987 في "سوبرماركت" في برشلونة ما أسفر عن مقتل 21 شخصاً من بينهم امرأة حامل وطفلان. وأثار ذلك صيحات استنكار على المستوى الدولي.

وعقب عودة إسبانيا للحكم الديمقراطي في سبعينيات القرن الماضي، حصل إقليم الباسك على قدر أكبر من الحكم الذاتي، وتسبب استمرار الحركة في التفجيرات والاغتيالات في تراجع التأييد الشعبي لها.

نهاية غير مكتملة.. من يرفض منحهم السماح؟   

قنبلة ضخمة انفجرت في موقف للسيارات في مطار مدريد في ديسمبر/كانون الأول 2006 ، قتلت مهاجرين من الإكوادور، أفسدت الهدنة  التي دعت اليها حركة "إيتا" في مارس/آذار من العام ذاته.

وفِي العام 2017 أعلنت الحركة عّن إيقافها العمل المسلح، وذلك بعد إعلان الحكومة الإسبانية السماح لحزب بوتسوانا وهو الحزب الممثل للحركة بالمشاركة في الانتخابات.

 وفي الثاني من مايو/أيار الجاري أعلنت الحركة توقفها تماماً عن ممارسة أنشطتها، وتسلمت قوات الأمن الفرنسية أسلحة "إيتا" في 8 مواقع، بحضور 172 مراقباً، بينهم الناشط السياسي الفرنسي المعروف بمناهضته للعولمة، جوزي بوفي. وأكد وزير الداخلية الفرنسي، ماتياس فيكل، في مؤتمر صحافي في باريس، رسمياً تسلّم الأسلحة. وقال إن الأمر يتعلق بخطوة كبيرة.

غير أن الحكومتين الفرنسية والإسبانية رفضتا الحضور إلى المؤتمر الخاص بالاستسلام ما ألقى بظلاله على الأسئلة المتعلقة بمصير أعضاء الحركة، لا سيما بعد عمليات القتل التي تورطت فيها على مدار سنوات.

وبعد إعلان الحركة أنها تطلب العفو من بعض ضحاياها، وأن يكون إعلان التوقف بمثابة صفحة جديدة، بدت ردود الأفعال وكأنها غير مطمئنة بالمرة لأعضاء الحركة، فبالإضافة إلى رفض الحكومتين الفرنسية و الإسبانية حضور المؤتمر، أعلن رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخو أن حكومته لن توقف عن مطاردة كل من قاموا بأعمال عنف في الماضي.

كما رفض أهالي الضحايا، فكرة العفو وطالبوا بأن يُلقى من مارسوا العنف في السجن.

يمكن القول أن إعلان الحركة التوقف والاستسلام، يشكل لخطة تاريخية مفصلية بالنسبة لأوروبا، فحركة "إيتا" هي آخر حركة مسلحة انفصالية في أوروبا، كما أن أزمتها كانت من الأزمات التي تؤرق إسبانيا بجوار أزمة إقليم كتالونيا والتي انتهت هي أيضاً بالرضوخ للحكومة، وهو ما مثل هدنة إثنية بالنسبة لأوروبا تأمل بها القارة العجوز أن تتجنب الرياح الانفصالية.

إقليم كتالونيا.. الجذور تعود لعهود الأندلس

منطقة مستقلة واقعة بين حكم الإفرنج وبين نطاق سيطرة المسلمين في إسبانيا (الأندلس)، في القرن التاسع الميلادي.

هكذا كان إقليم كتالونيا وهذه هي الأصول الأولى  لأزمته التي احتلت أخبار استفتائه على الاستقلال عناوين وسائل الإعلام في أكتوبر/تشرين الأول 2017 ، كما يحتل فريقها برشلونة قلوب مشجعيه في كافة أنحاء العالم.

بحلول القرن الخامس عشر، دخل الإقليم ضمن سيطرة إسبانيا ذات القوة المتصاعدة، ولكن بحلول القرن التاسع عشر بدأت مرحلة إعلان القومية الكتالونية، والمطالبة باستقلال الثقافة الكتالونية عن إسبانيا، ثم عانى الإقليم تحت سلطة فرانكو .

وبعد نهاية حكمه تم التعامل مع الإقليم في العام 1979 بصفته ذا صفة قومية كتالونية، وأُدخلت اللغة الكتالونية بجانب اللغة الإسبانية.

لكن كانت أزمة الانفصال في كتالونيا لم تتخذ الطابع العنيف الذي لجأت إليه إيتا، كما أنه ليس هناك اتفاق داخل الإقليم على الانفصال.

فحينما أعلن برلمان الإقليم عن الاستفتاء، والذي رفضته إسبانيا وتدخلت بالقوة لمنعه، كانت ردود الفعل الكتالونية نفسها إزاء الاستفتاء متفاوتة ومختلفة، فالإقليم الذي يبلغ عدد مواطنيه 7.5 مليون نسمة، قاطع 43% منهم الاستفتاء، بينما صوت %90 من المشاركين بالموافقة على الانفصال.

السياق الدولي والإقليمي يعاند برشلونة

كان هناك عامل خارجي ساهم في إفشال المحاولة ، فقد كان ما يشبه الاتفاق الدولي على رفض فكرة الاستقلال، إذ عارضت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وتركيا، مبدأ الانفصال، بينما انتقدت إسكتلندا عدم لجوء الحكومة الإسبانية للحوار، ودعت بلجيكا للتحاور بين الطرفين لحل الأزمة.

إذ أنه كان هناك خوف أوروبي من انعكاس قوة رياح الحركة الداعية للاستقلال والانفصال في الإقليم الإسباني على أقاليم أوروبية أخرى.

وبعد أن تم الاستفتاء وأُعلنت النتيجة، وأعلن الإقليم انفصاله، تدخلت الحكومة الإسبانية بالقوة، لفرض سيطرتها على الإقليم، ووقف سير الإجراءات. وقد لاقى ذلك الإجراء رفضاً ومعارضة من شريحة كبيرة من سكان الإقليم، حيث خرجت مظاهرات قُدر عدد المشاركين فيها بـ 750 ألف متظاهر.

أما زعيم المحاولة رئيس الإقليم كارلس بوغديمونت، فقد انتهى به الأمر معتقلاً في ألمانيا حينما حاول دخولها من الدانمارك، بسبب صدور قرار اعتقاله من قِبل الحكومة الإسبانية، ثم خرج مؤخراً بعد دفع مبلغٍ كبير من المال.

كردستان العراق.. عدو مشترك يرجئ مؤقتاً حلم المائة عام

تنظيم "داعش" أرجأ نوايا رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني التي أعلن عنها بالفعل في العام 2014، بالاستقلال عن العراق، إذ شكل التنظيم عدواً مشتركاً لكل من الحكومة العراقية والأكراد على السواء.

وقد توحد الجانبان آنذاك للتخلص من ذلك الخطر، حتى تجدد الحلم القديم في العام 2017. بعد هزيمة "داعش" ليعلن الإقليم عن إجراء استفتاء للانفصال عن العراق، في سبتمبر/أيلول من ذلك العام.

وترجع أحلام استقلال كردستان إلى العام 1918، حينما وقع أكراد العراق تحت حكم بريطانيا التي ضمت مناطقهم للعراق بعد خروجهم من تحت عباءة الإمبراطورية العثمانية التي هزمت في الحرب العالمية الأولى .

وقد تعرض الأكراد للهجوم من الرئيس العراقي صدام حسين والذي شن حملتين عسكريتين على الإقليم الكردي، الأولى في 1980 والثانية في 1988.

دولة واحدة جاهرت بدعم استقلالهم وتحالف الجيران أفسده

على غرار كتالونيا، لعبت ردود الأفعال الدولية دوراً في إفشال المحاولة الكردية، حيث رفضت جميع دول الجوار وهي تركيا وإيران وسوريا انفصال الإقليم، إذ أن الدول الثلاث لديها أقليات كردية .

ولعبت طهران دوراً في حشد الميلشيات الشيعية الموالية لها المعروفة باسم الحشد الشعبي إضافة إلى تنسيقها مع حزب الزعيم الكردي الراحل جلال طالباني المنافس لحزب برزاني لإفشال المحاولة، كما لوحت تركيا بإغلاق الحدود البرية ووقف التجارة مع الإقليم.

 أما عن أوروبا فلم يكن الدعم الذي انتظره الأكراد حاضراً، بل إن الاتحاد الأوروبي أعرب عن أسفه لإجراء الاستفتاء في كردستان العراق.

وحدها إسرائيل كانت حاضرةً وبقوة، فكانت أول من أعلن دعمه لانفصال الإقليم الكردي، ويرجع ذلك إلى العلاقات القديمة بين الطرفين، والتي تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث يرى البعض أن هذه العلاقات ترجع لهجرة مجموعة من الأكراد اليهود إلى إسرائيل بعد إعلان قيام الدولة، وهو ما فتح العلاقات بينهما.

ولكن هناك من يقول إن العامل الأساسي هو أن "الحركة الصهيونية" حاولت مد الجسور مع الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة خاصة في مواجهة الصعود القومي العربي الذي ناصب إسرائيل العداء. 

و قال أحد الباحثين الإسرائيليين إن العلاقة بين إسرائيل والأكراد تختلف تماماً عن مثيلاتها، فالسلام بين إسرائيل ومصر والأردن مرتبط بالحكومات فقط، أما عن الشعوب فهي تحمل كراهية تجاه إسرائيل، أما الأكراد فالقادة والشعب يحملون مشاعر جيدة نحو إسرائيل، حسب قوله.

هل هي نهاية دائمة أم هدنة مؤقتة؟

الاستفتاء شكل نهاية ولو مؤقتة للطموحات الكردية، حيث دخلت القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي إلى كركوك، التي يصفها الأكراد بأنها قدسهم، وأعلنت سيطرتها الكاملة على المدينة الغنية بالنفط، وأُسقط مسعود بارزاني من رئاسة الأكراد.

ويبدو أن هذا موسم تراجع الحركات الانفصالية، لأسباب متباينة، بعضها قطرية يتعلق بنجاح الحكومات المركزية في إفساد هذه المحاولات ولكن أيضاً نتيجة خطأ حسابات القادة الانفصاليين في تقييم قدرة دولهم الموعودة على الصمود في مواجهة الدولة المركزية.

ولكن هناك أيضاً خطأ حساباتهم في الاحتماء بالرأي العام العالمي والمواقف الدولية، إذ يبدو السياقان الإقليمي والدولي في الحالات السابقة الثلاث، معارضين بشكل واضح لفكرة الاستقلال أو الانفصال خوفاً من انتشار هذه العدوى، فهل تؤدي هذه النهايات إلى وأد المشاعر الاستقلالية للأبد أم أنها دخلت في هدنة مؤقتة؟

علامات:
تحميل المزيد