اكتشاف إصبع عمره 85 ألف عام في صحراء السعودية.. السؤال: من هم أصحاب الإصبع، هل جاءوا من أفريقيا؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/10 الساعة 16:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/10 الساعة 16:16 بتوقيت غرينتش

ترتبط شمال إفريقيا والشرق الأوسط ارتباطاً جغرافياً وثقافياً وثيقاً بدرجة تجعل اسم "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" غالباً ما يُشار به إلى المنطقة ككل في قضايا السياسة والحماية غيرها. ويمكن أن يتنقل المسافرون بين قارتي إفريقيا وآسيا في رحلةٍ تبلغ مسافتها 2.4 ميل (1.44 كم) فقط عبر قناة السويس أو جسرها.

لم يستخدم البشر الأوائل مثل ذلك الجسر الحديث والمرافق القائمة بالقناة في هجراتهم، ولكن حسب المناخ والفترة الجيولوجية، على الأرجح كان السفر ممكناً لآلاف السنين.

ووفق شبكة Seeker الأميركية، يجعل هذا الاستنتاج نموذج "الخروج من إفريقيا" الأصلي الشهير موضع شك. حيث يشير النموذج إلى أنَّ جميع البشر بطريقةٍ ما كانوا يعيشون في إفريقيا، قبل أن تُقرر مجموعة مولعة بالمغامرات أخيراً الهجرة إلى بلاد الشام منذ 60 ألف سنة، أي إلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

اكتشاف في السعودية يرجع لـ85 ألف سنة

وما جعل هذه النظرية القديمة محل شك هو الاكتشاف الأخير في المملكة العربية السعودية لعظام إصبع متحجر لبشرٍ من جنسنا يتراوح عمرها بين 85 ألفاً إلى 90 ألف سنة.

ووفقاً لدراسةٍ نُشِرَت عن الاكتشاف في دورية Nature Ecology & Evolution، عظمة السلامي الوسطي المُكتشفة (عظمة متوسطة في جميع الأصابع باستثناء الإبهام) هي أقدم حفرية تعود لجنسنا يُعثَر عليها خارج إفريقيا وبلاد الشام.

وقال هيو قروكت مؤلف الدراسة الرئيسي لشبكة Seeker الأميركية إنَّه عاش هو وفريقه الدولي لحظات ابتهاج شديد عند اكتشاف الحفرية التي يبلغ طولها 3.3 سم.

ففي البداية، شعروا بالإثارة في يناير/كانون الثاني 2016 عندما عثروا لأول مرة على العظمة، وعرفوا على الفور أنَّها تنتمي على الأرجح للإنسان العاقل.

وعندما عاد العلماء إلى الفندق، حمّلوا معلوماتٍ عن عظام الأصابع، واكتشفوا أنَّ حفريتهم لا تشبه حفريات الإنسان البدائي وغيره من أسلاف الإنسان.

وسمح فحص الحفرية فحصاً ثلاثي الأبعاد بمقارنةٍ أكثر تفصيلاً مع أسلاف الإنسان، وكذلك الرئيسيات غير البشرية أيضاً. وأكدت النتائج شكوك الفريق بأنَّ الإصبع في الواقع يعود إلى جنس الإنسان العاقل من الناحية التشريحية.

كيف حددوا عمر الإصبع؟

وأضاف قروكت، وهو زميل ما بعد الدكتوراه بجامعة أكسفورد: "شعرنا بسعادةٍ بالغة بكل تقدمٍ أحرزناه". وأوضح أنَّه هو وزملاؤه "أمضوا أفضل وقت" أثناء بحثهم عن حفريةٍ كهذه في جنوب غرب آسيا.

لتحديد عمر حفرية الإصبع، ترأس المؤلف المشارك رينر غرون الأستاذ بجامعة غريفيث والجامعة الوطنية الأسترالية فريقاً استخدم تقنية تُعرف باسم التأريخ بتسلسل اليورانيوم. انطوت الطريقة استخدام أشعة الليزر لعمل ثقوب مجهرية في العظام، ثم قياس النسبة بين آثار العناصر المشعة الصغيرة.

كشفت هذه النسب أنَّ الحفرية عمرها 88 ألف عام. وبأخذ نتائج فحص الرواسب والبقايا المرتبطة بالحفرية في الاعتبار، يقترب عمرها من حوالي 90 ألف سنة.

خلال ذلك الوقت، كان الموقع الذي عُثر فيه على الحفرية -وهو منطقة الوسطى التي أصبحت تُعرَف الآن بصحراء النفود الكبير- موطناً لواحدةٍ من عدة بحيرات للمياه العذبة. وكشف تحليل الرواسب وطحالب الدياتوم أو الكائنات المجهرية أنَّ طبيعة البحيرة السابقة كانت من البحيرات الدائمة، وبالتالي لم تجف سريعاً بل وتجددت مع تغير الفصول.

كانت المنطقة أرضاً عشبية

وقال قروكت: "كانت معظم المنطقة على الأرجح عبارة عن أرضٍ عشبية، مع بعض الأشجار المتناثرة حول البحيرات، إضافةً إلى أنَّها كانت منطقة موسمية للغاية، فكان يمكن أن تمطر خلال فصل الصيف. لذا ربما كانت في فصل الأمطار عبارة عن أرضٍ عشبية خصبة، ولكن خلال موسم الجفاف تبدأ الأعشاب في الموت. لكن حقيقة وجود بحيرات دائمة كانت تساعد البشر والحيوانات على البقاء على قيد الحياة طوال السنة".

وأضاف: "هناك المئات من حفريات الحيوانات في الوسطى، وفي مواقع أخرى كذلك عملنا عليها في المنطقة، مما يدل على أنَّه كانت توجد قطعان كثيرة من الحيوانات في المنطقة".

تكشف حفريات الحيوانات ارتباطها ارتباطاً كبيراً بالحيوانات الإفريقية، إذ تشمل بقايا أفراس النهر، والجاموس العملاق (فصيلة منقرضة من الماشية البرية الإفريقية المنقرضة)، والظباء الإفريقية.

وقال قروكت: "ربما تبع البشر قطعان الحيوانات، أو ربما انتشر كلاهما بصورةٍ متوازية بينما عاشا جنباً إلى جنب".

380 أداة حجرية صنعها الإنسان

لم يكن ينقص المهاجرين الأوائل إلى المملكة العربية السعودية الأدوات المتعلقة بالصيد والتعامل مع جلود الحيوانات. إذ عثر قروكت ومؤلف الدراسة البارز مايكل بتراجليا الأستاذ بمعهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري مع فريقهما على 380 أداة حجرية صنعها الإنسان في منطقة الوسطى.

وأضاف قروكت: "هناك عدة طرق لصنع الأدوات الحجرية، فيمكنك تشكيل قطعة من الحجر لتصبح أداة مثل الفأس الحجري، أو استخدام قطعة من الصخر كمصدر للرقائق الحادة التي يمكن استغلالها في مهام مختلفة. والأدوات الحجرية المُكتَشَفة في الوسطى هي من النوع الثاني، إذ أُعدت قطع الصخور الصغيرة بطريقة معينة".

وتُعرف التقنية التي استخدموها باسم تقنية لوفالوا.

ربما وصل السكان المؤسسون إلى الموقع مصطحبين معهم نفس الأدوات. وربما يكون المهاجرون قد جاؤوا من بلاد الشام. إلا أنَّ مجموعات الأدوات التي صنعها البشر من الموقعين لا تتشابه كما قد يظن البعض.

إما عبر سيناء أو مضيق باب المندب

إذا كانت أصول المهاجرين في ذلك الوقت تنحدر من شمال إفريقيا، فمن المحتمل أنَّهم سافروا عبر شبه جزيرة سيناء، وذهبوا شمالاً إلى المناطق المُشجَّرة من بلاد الشام، أو استكملوا الحركة جنوباً وشرقاً إلى الجزيرة العربية.

من الممكن أيضاً أن يكون المهاجرون قد غادروا إفريقيا أو دخلوها بالقرب من الطرف الجنوبي للبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب الضيق، وفقاً لما قال دونالد هنري الأستاذ الفخري للأنثروبولوجيا بجامعة تولسا. لم يشارك هنري في الدراسة الجديدة، ولكنه نشر مقالاً تعليقاً على البحث.

وأخبر هنري شبكة Seeker أنَّ "الجزيرة العربية وجزء كبير من بلاد الشام تُعد امتدادات لشمال شرق إفريقيا في المجال الحيوي البيئي والجيولوجيا والمناظر الطبيعية"، وأنَّ "الفروق القارية ما هي إلا ظروف جغرافية بسيطة مقارنةً بالواقع".

وتقدم حفرية الإصبع دليلاً على أنَّ فصيلة واحدة من السكان هي التي عاشت في كل تلك المنطقة منذ حوالي 90 ألف سنة.

وقال هنري: "لا أجد سبباً للاشتباه في وجود موجة هجرة أو اثنتين أو أكثر للبشر من إفريقيا تحمل نفس العلامات الثقافية والبراهين الجسدية المُفصَّلة والتركيبات الجينية. وعلى الأغلب، وفقاً لما أرى، كان هناك تقريباً تدفقاً مستمراً من مجموعات الإنسان العاقل القادمة من إفريقيا وربما المتجهة إليها مرةً أخرى في وقتٍ مبكر حسب الدليل على وجود فصيلة الإنسان العاقل الذي اكتُشِفَ في المغرب".

هذا الدليل الذي نشرته العام الماضي مجلة Nature يشمل حفرياتٍ من كهف جبل إيغود بالمغرب. يعود تاريخ البقايا إلى حوالي 300 ألف سنة، وتمثل أقدم حفريات معروفة للجنس البشري. وعُثر على جمجمة بموقع ما في جنوب إفريقيا يُسمى فلوريسباد يعود تاريخها إلى حوالي 260 ألف سنة، ويُعتقد أيضاً أنَّها من بقايا الإنسان العاقل.

التعددية الإقليمية الإفريقية

وقال قروكت: "أعتقد أنَّ مجموعة الآثار والحفريات والدلائل الوراثية تشير إلى أنَّ فصيلة الإنسان العاقل تنحدر أصولها من مناطق في قارة إفريقيا، وهو نموذج أطلق عليه كريس سترينجر عالم الأنثروبولوجيا بمتحف التاريخ الطبيعي في لندن "التعددية الإقليمية الإفريقية".

ويبدو أنَّ التعددية الإقليمية تتجاوز القارة الإفريقية. إذ يقول هنري: "حتى الآن، على الأقل، يبدو أنَّ العظام والأحجار والجينات تشير إلى شمال إفريقيا وبلاد الشام باعتبارها المواقع الأكثر احتمالية لظهور فصيلة الإنسان العاقل بها".

وأضاف أنَّ ما يثير الاهتمام في المسألة هو فهم العلاقة بين الإنسان الحديث من الناحية التشريحية وبين الإنسان البدائي. إذ تشير الاكتشافات الحفرية الأخيرة -ومن بينها عظمة الإصبع المُكتشفة حديثاً- إلى أنَّ هذين النوعين من أسلاف البشر عاشا معاً في مناطقَ بعينها لـ20 ألف عام على الأقل. ويقول هنري إنَّ الدلائل على وجود الإنسان البدائي بأي منطقة يُعثر عليها عادةً في التلال الوعرة المُشجَّرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بينما يُعثّر على أدلة وجود الإنسان الحديث عادةً في الأراضي المنخفضة.

ويفترض هنري أنَّه "بسبب أطرافهم القصيرة المنخفضة وقاماتهم القوية، كانت حركة تنقُّل البشر البدائيين أقل كفاءة، ومعدل الأيض الأساسي أكبر، ما حدَّ من قدرتهم على استغلال المناطق التي عاشوا بها".

ولهذا ربما تكون بنيتهم التشريحية قد حدَّت من قدرتهم على التوسع إلى مناطقَ أخرى. لكنَّها لم تمنعهم من التزاوج مع الإنسان العاقل. وبسبب هذا التزاوج بين الجنسين، يحمل البشر من الأصول الأوروبية والآسيوية ومن شمال إفريقيا اليوم نسبةً صغيرة من الحمض النووي للبشر البدائيين.

ولكن السؤال الأكبر هنا هو: ماذا حدث للسكان الذين تمثلهم حفرية الإصبع المُكتشفة في منطقة الوسطى؟

قال قروكت عن ذلك: "سيقول الكثير من علماء الوراثة إنَّهم كانوا مجموعة من البشر هاجرت وأقامت هناك، لكنَّها فشلت في البقاء على قيد الحياة وماتت. لكنِّي أعتقد أنَّ هذا غير واضح بعد. التفسيرات الجينية تتطور بسرعة شديدة. ولحسم هذه الأسئلة، يجب أن تعمل العديد من التخصصات مع بعضها البعض، مثل علوم الآثار، والحفريات، والوراثة، والبيئات القديمة".

يستكمل قروكت وفريقه أبحاثهم حالياً في السعودية، ويتعاونون بشكلٍ وثيق ليس فقط مع جامعتي أوكسفورد ومعهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري، لكن أيضاً مع الهيئة السعودية العامة للسياحة والتراث الوطني، وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وهيئات أخرى من جميع أنحاء العالم.

وأضاف قروكت: "ندرس كذلك فتراتٍ زمنية أخرى عديدة. ولدينا أدلة على أنَّ البشر انتشروا عدة مرات وهاجروا إلى المنطقة العربية خلال فترات تحسن المناخ، منذ مئات آلاف السنين، لذلك نحن نُجري حالياً دراساتٍ عديدة على هذا الأمر".

 

تحميل المزيد