هكذا أعدت اكتشاف متعة الأكل ببطء والحياة الهادئة في فلورنسا

لأول مرة في حياتها، لم يكن لديها عمل، ولا راتب ولا سكن خاص بها. شعرت بالإنهاك والاكتئاب من وظيفتها، والاغتراب عن الأصدقاء والعائلة، شعرت وكأنها قطعة من حطام سفينة ارتمت في ميازيب عصر النهضة.

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/02 الساعة 17:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/10 الساعة 21:07 بتوقيت غرينتش

"لم يكن صوت الأذان متوقَّعاً على الإطلاق".. بهذه الكلمات، تبدأ الكاتبة كامين محمدي وصفها، فبحسب قولها فإن ذلك كان آخر ما قد تسمعه في معقل الحضارة الغربية.

كامين وهي كاتبة وصحفية ومذيعة متخصصة بالشأن الإيراني، تتابع وصفها، حيث اخترق الصوت صمت الغرفة التي تعود إلى القرون الوسطى، ونقَلها على الفور إلى طفولتها، إلى إيران، تقول: "أعادني إلى أيام تخللها النداء الذي كان يرتفع فوق أسطح المنازل، وينساب عبر ملعب المدرسة، ويمر فوقنا كلما لعبنا أو درسنا. لقد كان مألوفاً للغاية، ومع ذلك كان مفاجئاً، حتى إنه اخترق قلبي".

كانت في غرفة بقصر فيكيو (Palazzo Vecchio) مبنى بلدية فلورنسا، تحضر جلسة تأمُّل دعاها إليها جارٌ لها. كانت قد وصلت إلى فلورنسا قبل شهر واحد فقط، ولم يكن معها سوى حقيبة سفر، ومقترح لكتاب، وعنوان شقة صديق.

لأول مرة في حياتها، لم يكن لديها عمل، ولا راتب ولا سكن خاص بها. شعرت بالإنهاك والاكتئاب من وظيفتها، والاغتراب عن الأصدقاء والعائلة، شعرت وكأنها قطعة من حطام سفينة ارتمت في ميازيب عصر النهضة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها إلى مدينة مجهولة في حالة من الارتباك غير المحدود.

المرة السابقة كانت في عام 1979، عندما هربت من الثورة بإيران، قاصدةً شواطئ بريطانيا الآمنة. "لقد كنت في التاسعة من عمري، وبقي الرعب الذي رافقنا حينما وقفنا أمام ضابط الهجرة في هيثرو، يتردد صداه بصدري في كل مرة أعبر فيها الحدود".

الشعور بالاغتراب!

تلك الطفلة اللاجئة، واسعة العينين، المرتبكة، الخائفة الخجلة، لا تزال في مكان ما بداخلها. "لقد أصبحت الآن رمزاً لبريطانيا الحديثة: اللاجئة التي تربَّت وتلقت تعليمها في المملكة المتحدة، ذات اللهجة الإنكليزية الرائقة التي لا يبدو فيها أي أثر للكنة الإيرانية، التي رمقها الناس بسببها بنظرات غريبة، وأحياناً معادية، آلمتني، ودفعتني للشعور بالاغتراب".

كل هذه المشاعر كانت مخبَّأة بداخلي. لم أدرك وجودها حتى تلك الليلة من شهر فبراير/شباط؛ عندما تردَّد صوت الأذان في قصر فيكيو"، مخترقاً طبقات الحماية المتعددة التي كانت تحرسها.

أحنت رأسها وتركت الدموع تتدفق.

تقول: "بعد ذلك، مشيت إلى المنزل مع جاري، وهو فنان طويل القامة، يُدعى جيوسيبي. كان قد قرع باب بيتي في وقت سابق من تلك الليلة الباردة واقترح عليَّ حضور جلسة التأمل معه. توقفنا لتأمُّل جسر فيكيو. بدا جزء صغير من الهلال فوق الجسر.

قال جيوسيبي: (آه! هذا هو قمركم، أليس كذلك يا كامين؟)، لم يتحدث عن الدموع، التي لا بد أنه رآني أذرفها في أثناء الجلسة، كانت هذه طريقته في مواساتي. كان هلال الإسلام محدّباً فوق أحد أعظم أعمال الهندسة المعمارية الغربية، وفي تلك اللحظة، شعرت بأن جانبيَّ يلتقيان ويستقران معاً، وللمرة الأولى منذ عام 1979، يتعايشان بسرور".

عندما اقتنعتْ بالبقاء!

هذه هي اللحظة التي أقنعتها بالبقاء. في تلك الليلة أصبح كل شيء واضحاً. هنا في فلورنسا، شعرتْ وكأنها في موطنها. وحتى من دون أي اتصالات أو لغة مشتركة، تمكنت من إقامة صداقات جديدة بكل مكان، كما كان الإيطاليون الذين يقطنون شارعي اجتماعيِّين وودودين للغاية.

وفي غضون أيام، استطاعت معرفة أسماء جيرانها ومعظم أصحاب المتاجر والعاملين في المقاهي بالشارع، وهو أمر استعصى عليها فعله خلال السنوات الأربع التي قضتها في لندن. مع مرور الأسابيع، تلاشى التحفظ البريطاني الذي اعتادته.

 وبدأت في التوقف والدردشة (في الغالب، من خلال الإيماءات والهمهمات) في زاوية الشارع.

تقول: "لقد ذكّرني ذلك بالكيفية التي تجمّعنا بها عندما كنا أطفالاً بزوايا الشوارع، في سنة المظاهرات والاضطرابات التي أدت إلى الثورة الإيرانية، لتبادل أي خبر مُخربط نجحنا في استخلاصه من محادثات آبائنا الخافتة".

على الرغم مما آلت إليه الثورة في وقت لاحق، تتذكر جلسات تبادل الأخبار هذه بإثارة، "هذا الشعور بأنني في غمرة الأحداث". وهو الشعور نفسه الذي انتابها هنا أيضاً.

في كل مرة، كان جيوسيبي يخبرها فيها بكل جدية عن أخبار الشارع. "لم يكن الأمر كما كان من قبلُ في أثناء عملي محررةً بمجلة، كنت أعرف حينها أحدث أخبار المشاهير غير القابلة للنشر أو الأخبار العالمية قبل أن تنشر".

لكن هذا كان بمثابة مشاركة إنسانية صغيرة محلية. وفي غضون شهر، شعرتْ بالاندماج في نسيج الشارع الذي عاشت فيه، وكأنها صارت جزءاً من لوحات الفنانين، والخبازين، وبائعي الخضراوات، والسائقين والسباكين. تقول: "كنت أنا الكاتبة التي تحمل معها جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها والمفتوح دائماً على طاولة المقهى".

كانت الزيارات إلى سوق الفواكه والخضراوات المحلي بمثابة وحي واكتشاف آخر؛ إذ اكتشفت هناك، سيمفونية من الألوان والضوضاء والفوضى التي اخترقت حزنها.

تتابع بقولها: "بعد النغمات أحادية اللون التي غمرت حياتي بلندن، شعرت وكأنني قد هبطت في موقع لتصوير الأفلام السينمائية بالألوان الطبيعية. ونهلتُ من تلك الألوان، والروائح، والثرثرات الصاخبة، والحديث المتبادل بين أصحاب الأكشاك بالإيطالية الشبيهة بالألحان.

كان الطعام محلياً، واندمجتُ على الفور في المتعة الحسية للشعور بملمس ومظهر ورائحة المنتجات الطازجة. كان الأمر مختلفاً في حياتي المندفعة بلندن، فقد كنت أتناول أطعمة (صحية) جاهزة على مكتبي، مكونة من شرائح الطعام المُعدة للشخص الواحد والموضوعة في توابيت البوليسترين، ومحاطة بالبلاستيك".

لقد أعادتها تلك التجربة مرة أخرى إلى إيران، عندما كانت ترافق والدتها إلى السوق، وإلى ذلك الشعور بالإثارة عند إيجاد الفستق الطازج في شهر سبتمبر/أيلول، واكتشاف أول ظهور للفراولة بالصيف، وكيف اعتادت الجلوس في فناء جدتها المطلّ على بركة ضحلة من المياه التي خففت من حرارة النهار، وكيف ساعدتها مع عماتها على تنظيف كميات كبيرة من الأعشاب.

تقول: "تذكرت جمع أوراق البقدونس والكزبرة والشبت والثوم المعمر والنعناع، والتقاطها من سيقانها وإلقائها في مصفاة كبيرة، بينما كنا ننهمك في محادثات النساء. لقد اعتادوا تقطيع الخيار الفارسي الصغير بالطول، ورش كل نصف بالمِلح، ثم منحنا إياه لتناوله كوجبة خفيفة. والبندورة الناضجة التي كنا نتناولها مثل التفاح، مع بضع رشات من الملح لإبراز حلاوتها".

وتضيف أنه في المرة الأولى التي أحضرتْ فيها البندورة الفلورنسية من السوق، شعرت "وكأن أشعة الشمس المشرقة انفجرت بفمي بعد سنوات عديدة، ووقعت مرة أخرى في حب المتعة البسيطة، الممثلة في تناول منتجات لذيذة مليئة بأشعة الشمس".

لما اكتشفتْ متعة الأكل بروِّية والحياة بهدوء كذلك، جذبتها ألفة مدينة فلورنسا. كانت القباب والأبراج الرفيعة تزين الأفق مثل قباب المساجد ومآذنها المصاحبة. وكانت الحواري الخلفية التي تفوح منها رائحة المجارير المختلطة بنفحة من رائحة الكولونيا التي خلّفها رجل مارٌّ بالطريق- تذكرها بحواري مدينتها "عبادان" المعزولة عن الشمس بجدرانها الطويلة، والمحتفظة برائحة رجالها المتسكعين في الطرقات.


وبدت القصور بحصونها المنيعة ظاهرياً وحدائقها الداخلية، وساحاتها والمناطق المقسمة بين الرجال والنساء، في نظرها، شديدة الشبه بالبيوت الإيرانية التقليدية التي أظهرت للعالم وجهاً متحفظاً بسيطاً واحتفظت بكنوزها من النساء والحدائق والنوافير.

قامت بتتبع مرشدين سياحيين يشرحون للأفواج المصاحبة لهم التأثير الكلاسيكي لعمارة برونليسكي. إلا أنهم لم يعترفوا -ولو لمرة- بما شهدته في كل مكان: أثر العمارة الإسلامية والشرق الأوسط. وتابعت قائلة إنها "تعمقت في البحث واكتشفت أن قبة برونليسكي الشهيرة تشبه كبرى قباب العالم غير المدعمة في القرن الرابع عشر، وهي قبة أحد الأضرحة الإيلخانية في إيران، والتي استخدمت الهيكل المزدوج نفسه للقبة والحجر الداخلي الذي استعمله برونليسكي. أغوتني فكرة أن المعماري الإيطالي المبجل كان مطلعاً على عجائب بلادي".
سريعاً ما رادوها الشعور بأن إيطاليا أقل شبهاً بشمال أوروبا، حيث نشأت، وأكثر شبهاً بالبلاد القديمة التي وُلدت فيها. انطبع بداخلها فهم فطري للشخصية الإيطالية بدفئها ودراميتها وميلها إلى الفوضى والضوضاء، ووجدت أنه من السهل إقامة الصداقات هنا. "وجدتُ نفسي منخرطة في حياة فلورنسا المليئة بالمجاملات المفصلة والرقيقة والتي تشبه مجاملاتنا، والحب الذي شعرت به أولاً تجاه البندورة الإيطالية امتد ليشمل المدينة كلها بسكانها، وأخيراً شمل هذا الحب أيضاً ذاتي مزدوجة الجنسية البريطانية-الإيرانية".

واختتمت القصة قائلة "اختفى اكتئابي، وشفى جسدي العليل ذاته، وأخيراً وجدت شخصاً رائعاً لأحبه. يعود الفضل لكل هذا للخصائص العلاجية لحِمية البحر المتوسط الغذائية والترياق الرائع المسمى زيت الزيتون التوسكاني. لكني أعتقد أن جذور هذه السعادة التي غمرتني تكمن في التقبل النهائي لجانبي شخصيتي الغربي والشرقي اللذين نمَّتهما هذه المدينة واعترفت بهما، وهو ما غير حياتي حقاً".

تحميل المزيد