مِن أضعف رئيس وزراء إلى أقوى شخصية في بريطانيا.. كيف خدمت أزمة الجواسيس مع روسيا ماي.. لكن القادم أصعب

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/15 الساعة 12:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/15 الساعة 12:36 بتوقيت غرينتش

اعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الخميس 15 مارس/آذار 2018، أن الإجراءات القاسية التي أعلنتها رئيس الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عقب أزمة الجواسيس مع روسيا، لم تكن كافية لوقف التدخل الروسي في أوروبا، مشيرةً إلى أن هناك قرارات قد تكون صادمة، يمكن أن تتخذها لندن في الفترة المقبلة، مما يؤزم الوضع بين البلدين.

وقالت الصحيفة الأميركية إن تيريزا ماي، رئيس الوزراء البريطانية، ربما تبدو واحدةً من أضعف القادة في العالم طوال السنوات الماضية، لكنها تعهدت بالحزم في المواجهة المتصاعدة مع روسيا؛ بسبب استخدام غاز الأعصاب في تسميم جاسوس كان يعمل لمصلحتها سابقاً على أراضٍ بريطانية.

وأضافت الصحيفة: "في لهجةٍ تُذكِّرنا بالحرب الباردة، طردت ماي -التي كانت تواجه انتقاداتٍ حتى وقتٍ قريب داخل بلادها بأنَّها ليست حازمةً بدرجةٍ كافية مع روسيا- 23 روسيّاً قالت إنَّهم جواسيس، متعهدةً بشن حملةٍ قوية على الروس الفاسدين والأموال التي يُدخِلونها إلى بريطانيا، وقطعت الاتصالات رفيعة المستوى بين الحكومتين البريطانية والروسية.

وبحسب الصحيفة الأميركية، صارت تيريزا ماي فجأةً أقوى القادة الغربيين في الهجوم على حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي وصفتها بأنَّها "قوةٌ خبيثة غير ملتزمةٍ بالقانون".

وترى الصحيفة أنَّ قرارها يتناقض تناقضاً حاداً مع نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يمتنع امتناعاً ملحوظاً عن انتقاد بوتين، فضلاً عن تورُّطه في اتهاماتٍ بأنَّ الكرملين حاول مساعدته في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016.

ماذا عن موقف حلفاء بريطانيا في هذه الأزمة؟


ولم يتضح مدى استعداد حلفاء بريطانيا للوقوف إلى جانبها، وقال خبراء إنَّ لهجة تيريزا الحازمة تُخفي وراءها إجراءاتٍ متساهلة نسبياً، باستثناء الطرد الذي يُعَد مادةً خصبة للعناوين الرئيسية، ووصفته تيريزا بأنَّه أكبر طردٍ لدبلوماسيين روس على مرِّ أكثر من 30 عاماً. وهذا بدوره، يعكس مكانة بريطانيا الضعيفة في العالم، ونجاح روسيا المستمر في زرع بذور الفتنة والفرقة، بحسب الصحيفة الأميركية

وقال جوناثان إيال، المدير الدولي للمعهد الملكي للخدمات المتحدة للأبحاث العسكرية والأمنية في العاصمة البريطانية لندن: "كنتُ أتوقع ردَّ فعلٍ أقوى". وأضاف أنَّ تيريزا ربما تكون قد امتنعت عن اتخاذ إجراءاتٍ أقوى؛ خوفاً من أن تَرُدَّ روسيا بقرارات طرد مماثلة و"تُغلق السفارة البريطانية في موسكو".

هناك عددٌ من الإجراءات الأكثر صرامة والتي يمكن لبريطانيا اتخاذها كذلك: كمُصادرة أي أصول مشكوك في مصدرها يمتلكها الروس الذين استثمروا ببريطانيا واستقروا فيها، وتغيير القوانين التي تسمح بإخفاء الملكية الحقيقية للأصول، ودعوة المجتمع الدولي إلى تشديد القيود الاقتصادية على روسيا.

ولمحت هيئة تنظيم البث البريطانية كذلك، إلى إمكانية سحب ترخيص قناة RT الإخبارية، الخاضعة لسيطرة الكرملين والناطقة باللغة الإنكليزية.

تريد بريطانيا دعماً من حلفائها في اتخاذ إجراءاتٍ ضد روسيا، لكنَّ العلاقات البريطانية مع هؤلاء الحلفاء أكثر تزعزعاً مما كانت عليه على مرِّ أجيال؛ نظراً إلى انفصال بريطانيا المُعلَّق عن الاتحاد الأوروبي والخلافات القائمة مع ترامب، بحسب الصحيفة الأميركية.

روسيا قد تستفيد أيضاً من التصعيد


وعلى النقيض من ذلك، يرى الكرملين أنَّ مَدَّ الأحداث يسير لمصلحته، وهناك احتمالٌ ضئيل بأن يمتلك الحلفاء الغربيون إرادةً مشتركة لزيادة العقوبات على روسيا، كما ترى الصحيفة الأميركية.

إذ قال توماس غومارت، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في العاصمة الفرنسية باريس: "لا تشعر السلطات الروسية بأنَّها معزولةٌ على الإطلاق".

وأضاف: "إنَّهم يشعرون بوجود فوضى في الغرب؛ بسبب الوضع في واشنطن، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والانتخابات الإيطالية، وصعوبة تشكيل حكومة في برلين".

وكان الكرملين نفى تورُّطه تماماً في هجوم غاز الأعصاب، وتعهَّد بالرد على أي إجراءٍ تتخذه بريطانيا، واتهم سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الأربعاء 14 مارس/آذار 2018، الحكومة البريطانية بأنَّها "تتصرف بحالةٍ من الانفعال السياسي" بدلاً من إجراء تحقيق جاد.

وتشير الصحيفة الأميركية إلى أنه بعيداً عن عالم الخطابات الرنَّانة، ليس من الواضح مدى الدعم الدولي الذي تستطيع تيريزا حشده.

فقد تواجه صعوبةً في كسب حلفاء لزيادة الضغطين الاقتصادي والأمني ​​على روسيا، الخاضعة بالفعل لعقوبات، مع أنَّها تلقَّت هذا الأسبوع تعبيراتٍ عن الدعم من جانب وكالاتٍ تابعة للأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وجهاتٍ أخرى.

وليس من الواضح لِمَ قد تدفع بضعة اغتيالات أو محاولات اغتيال حلفاء بريطانيا إلى اتخاذ إجراءاتٍ أكثر صرامةً ضد موسكو، في حين أنَّ ذلك لم يحدث عند تورُّط روسيا في قتل مدنيين بسوريا، أو إسقاط طائرة ركاب فوق أوكرانيا، أو التدخُّل في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، بحسب الصحيفة الأميركية.

فضيحة


وفي السياق نفسه، وصف مسؤولون فرنسيون استخدام غاز الأعصاب بأنَّه "فضيحة"، مؤكدين أنَّ بريطانيا حليفٌ حيوي ذو قيمٍ مشتركة، لكنَّهم لم يُلقوا اللوم على روسيا ولم يناقشوا فكرة اتخاذ إجراءٍ انتقامي ضدها.

وقال بنجامين غريفو، المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، لصحفيين بعد اجتماعٍ لمجلس الوزراء: "فور إثبات ملابسات القضية، سيحين وقت اتخاذ القرارات".

وقالت أنجيلا ميركل، التي أدَّت اليمين الدستورية لتولي منصب المستشارة الألمانية للمرة الرابعة، الأربعاء 14 مارس/آذار 2018، إنَّها تأخذ استنتاجات بريطانيا على محمل الجد، وطالبت روسيا بالتحلي بمزيدٍ من الشفافية، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

بينما جاءت بعض أشد العبارات في جلسةٍ طارئة لمجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، الأربعاء، على لسان نيكي هالي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، التي كانت أكثر صرامةً من ترامب ضد روسيا.

إذ قالت نيكي: "روسيا مسؤولةٌ عن تسميم شخصين في المملكة المتحدة باستخدام غاز أعصاب مُعَد لأغراض عسكرية"، واصفةً الحادثة بأنَّها "جريمةٌ فظيعة".

وأضافت: "لا يُسعدنا أن ننتقد روسيا باستمرار، لكن يجب عليها أن تتوقف عن دفعنا إلى ذلك".

وألقى جوناثان ألن، السفير البريطاني لدى الأمم المتحدة، باللوم في الهجوم على روسيا، ووصف سلوكها بأنَّه "عشوائي متهور"؛ مما دفع السفير الروسي لدى الأمم المتحدة إلى السخرية من هذه الاتهامات.

وقال مُحلِّلون، للصحيفة الأميركية، إنَّه على الرغم من ذلك، لن تكون هناك رغبةٌ قوية لدى أصدقاء بريطانيا في مواجهة الحكومة الروسية، التي أثبتت استعدادها لشن حربٍ إلكترونية، ونشر معلوماتٍ مضللة، وتنفيذ عمليات اغتيال، والتلاعب بصادرات الطاقة.

القلق أعلى من أي وقت مضى


وقال غومارت للصحيفة الأميركية، إنَّه من المستبعد فرض عقوباتٍ جديدة، لكنَّه أكَّد في الوقت ذاته أنَّ "مستوى القلق أعلى من أي وقتٍ مضى" في باريس وبرلين حيال السلوك الروسي، مضيفاً أنَّ جميع الحكومات الأوروبية ستمنح بريطانيا دعماً عملياً واستخباراتياً في مواجهة موسكو.

وقالت تيريزا إنَّ سيرغي سكريبالالبالغ من العمر 66 عاماً، وابنته يوليا البالغة من العمر 33 عاماً، سُمِّما يوم 4 مارس/آذار 2018، بمادة "نوفيتشوك"، التي تُعَد نوعاً قوياً للغاية من غازات الأعصاب، طوَّرها الاتحاد السوفييتي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

يُذكَر أنَّ سكريبال وابنته اللذين ما زالا في حالةٍ حرجة بالمستشفى، سُمِّما في مدينة سالسبوري البريطانية الصغيرة التي يعيش فيها سكريبال، مما عرَّض حياة مئات المارة للخطر على الأرجح.

جديرٌ بالذكر أنَّ سكريبال، الكولونيل السابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، سُجِن؛ لبيعه أسراراً إلى بريطانيا، ثم أُرسِل إلى بريطانيا عام 2010 في صفقةٍ لتبادل الجواسيس.

وقالت تيريزا إنَّ أجهزة الاستخبارات البريطانية خلصت إلى أنَّ روسيا كانت وراء الهجوم، أو أنَّها فقدت السيطرة على أسلحةٍ كيماوية، تزعم أنَّها لا تمتلكها بموجب معاهدة دولية.

وأضافت تيريزا أنَّ الحكومة وافقت على صلاحياتٍ جديدة لردع أنشطة عملاء الاستخبارات الأجنبية في بريطانيا، مؤكدةً أنَّ بلادها ليس بها مكانٌ لـ"المجرمين الخطرين والنخب الفاسدة"، وأنَّ دعوة لافروف إلى زيارة بلادها قد أُلغيت.

وأضافت أنَّه لن يحضر أي وزراء بريطانيين أو أفرادٍ من العائلة المالكة مباريات كأس العالم المقررة إقامتها في روسيا هذا الصيف، وأنَّ بريطانيا "ستشدِّد إجراءات الرقابة على الرحلات الخاصة والجمارك والشحن، وستُجمِّد أصول الدولة الروسية حيثما تتوافر لدينا أدلةٌ على استخدامها في تهديد حياة مواطني المملكة المتحدة أو المقيمين فيها أو ممتلكاتهم".

وأضافت تيريزا متحدثةً عن روسيا: "لقد تعاملوا مع مسألة استخدام غاز أعصاب عسكري في أوروبا بمزيجٍ من السخرية والاحتقار والتحدي. وأثبت ردُّهم استخفافاً تاماً بخطورة هذه الأحداث. لم يقدموا أي تفسيرٍ موثوق".

إشادة بموقفها


وبحسب الصحيفة الأميركية، حظي موقفها الصارم بإشادةٍ واسعة النطاق في بريطانيا، ووحَّد صفوف حزب المحافظين العنيد الذي ترأسه والكثير من أحزاب المعارضة كذلك في الوقت الراهن.

لكنَّ الاستثناء الأبرز هو جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال البريطاني، الذي ترك الباب مفتوحاً أمام احتمالية وقوف شخصٍ آخر وراء استخدام غاز الأعصاب غير الدولة الروسية، وأشار مساعده سيموس ميلن إلى إخفاقات الاستخبارات البريطانية في مسألة الأسلحة العراقية منذ 15 عاماً، بحسب الصحيفة الأميركية.

وقال جيمس شير، المسؤول السابق في وزارة الدفاع البريطانية والزميل المشارك بمعهد تشاتام هاوس البريطاني البحثي البارز، متحدثاً عن تيريزا: "لقد وضعتْها هذه الحادثة المُروِّعة في موقف التقت فيه المصلحة الوطنية مع مصلحتها السياسية، وهي إظهار أنَّها قائدة متحكمة".

واستدرك: "لكنَّها كذلك، لم تكن تملك خياراً آخر؛ فالروس تصوَّروا منذ فترةٍ طويلة، أنَّ بريطانيا ضعيفةٌ للغاية، وعزَّزنا هذا التصُّور بردود فعل باهتة جداً على عمليات القتل التي تحدث على أرضنا. لذا كان عليها أنَّ ترد هذه المرة".

وتساءل خبراء عن مدى جدية تنفيذ الإجراءات التي تعهَّدت بها رئيسة الوزراء، مُحذِّرين من أنَّ مواجهة روسيا ستؤذي بريطانيا، كما قالت تيريزا بنفسها أيضاً، بحسب الصحيفة الأميركية.

فمليارات الدولارات من الثروات الروسية تدفَّقت إلى بريطانيا في السنوات الأخيرة، والكثير من هذه الأموال تُمثِّل استثماراتٍ خاصة ببعض حلفاء بوتين. ومن ثمَّ، سيسفر تنفير هذه الأموال عن عواقب مؤلمة على لندن، بالإضافة إلى أي مجموعةٍ من النكسات الاقتصادية التي من المتوقع أن تصاحب قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما ترى الصحيفة الأميركية.

تعهَّدت تيريزا بطلب إقرار قانون يسمح للحكومة بالتحقيق في الأصول المُكتسبة من الفساد ومصادرتها. لكنَّ هذا القانون سارٍ بالفعل منذ العام الماضي (2017)، ولم يُستخدَم إلا قليلاً. وقالت إنَّ الحكومة ستجمع سجلاتٍ أدق عن ملكية الشركات التي تُستخدَم للتستُّر على الأصول، بيد أنَّ هذا المشروع أيضاً جارٍ منذ سنوات.

وأضافت أنَّ حكومتها ستقترح تغييراتٍ تشريعية جديدة لاستخدامها ضد حلفاء بوتين، لكنَّها لم تذكر سوى تفاصيل قليلة.

وقالت: "سنواصل استنفار جميع صلاحيات إنفاذ القانون في المملكة المتحدة؛ لمواجهة المجرمين الخطرين والنخب الفاسدة. ليس هناك مكانٌ لهؤلاء الأشخاص أو أموالهم في بلادنا".

لكنَّ شير قال إنَّ السؤال الحقيقي هو: "هل تُوضع استراتيجيةٌ جدية على المدى البعيد لمواصلة الضغط؟ فلن تتغير الأوضاع بمُجرد خطابٍ واحد أو خطابين من الخطابات الجذابة وبضعة إجراءاتٍ أخرى".

تحميل المزيد