لم يكن أحد يتخيَّل أن يكون لدى زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ-أون، الذي يظهر دائماً على أن شخض حازم وعنيد- قدرة كبيرة على لعب دور دبلوماسي هام، وهو ما كشفه الاجتماع الأخير بينه وبين مسؤولين من كوريا الجنوبية.
وكيم، الذي لم يسافر قط إلى الخارج بصفته قائداً أعلى لكوريا الشمالية حتى هذا الأسبوع، وكانت لقاءاته الوثيقة بالضيوف الأجانب مقصورةً على الشخصيات البارزة من الصين وكوبا وسوريا، أو دينيس رودمان، لاعب كرة السلة الأميركي السابق- يشبه جده، الذي كان مؤلَّهاً بين شعبه، على نحو متزايد، حتى في تصفيفة شعره المميزة، وابتسامته الودودة، وخصره المُكوَّر، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الأربعاء 7 مارس/آذار 2018.
وعند وصول وفدٍ من المسؤولين الكوريين الجنوبيين لزيارة كيم، الذي يمتلك ترسانةً نووية مع أنَّ سنّه لم تتجاوز 35 عاماً بعد، والذي ظل غامضاً حتى عندما أرعبت تجارب أسلحته النووية والباليستية العالم أجمع- لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجدر بهم توقُّعه بالضبط.
اللقاء الذي كشف شخصيته
وقال مسؤولون من كوريا الجنوبية إنَّ المبعوثين الذين كانوا يبلغون من العمر ما يكفي ليكونوا في سن والد كيم، قد فوجئوا بوُدّيته وردوده "الصريحة والجريئة"، في أثناء اجتماعٍ عُقِدَ يوم الإثنين 5 مارس/آذار 2018 في بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية، وتجاوز 4 ساعات، بحسب الصحيفة الأميركية.
وكانوا قلقين من أنَّ كيم قد يُهدِّد بحدوث انفراج "هش" إذا استأنفت كوريا الجنوبية والولايات المتحدة المناورات العسكرية المشتركة الشهر المقبل (أبريل/نيسان 2018). في السابق، ردَّت كوريا الشمالية على مثل هذه التدريبات باختبارات صاروخية وتهديدات شديدة اللهجة بشن ضربةٍ نووية على أميركا.
وبحسب "نيويورك تايمز"، جاء في رسالةٍ مكتوبة بخط اليد، سلَّمها تشونغ يوي يونغ، رئيس الوفد الكوري الجنوبي، بنفسه إلى كيم: "نتمنى أن تتمكَّنوا من اتخاذ قرارٍ جريء آخر؛ حتى نستطيع التغلُّب على هذه الأزمة"، بينما التقطت القنوات، التي تديرها حكومة كوريا الشمالية، صورةً لهذه الرسالة.
وقد فاجأ كيم دبلوماسيي جارته الجنوبية، ليس فقط بقبول التدريبات العسكرية المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة باعتبارها حقيقةً واقعة؛ بل أيضاً بالإعراب عن استعداده لبدء المفاوضات مع واشنطن بشأن إنهاء برنامجه للأسلحة النووية. وأخبرهم بأنَّه سيُعلِّق كل تجاربه على الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية ريثما تجري مثل هذه المحادثات.
وبحسب الصحيفة الأميركية، كانت هذه سابقةً لافتةً للنظر لدبلوماسية كيم الدولية، إضافةً إلى كونها تحوُّلاً ملحوظاً في لهجته على الأقل، إن لم يكن في استراتيجيته ذاتها بعد؛ وذلك بعد مرور أشهرٍ فقط على إثارته المخاوف من نشوب حرب في شبه الجزيرة الكورية، بإجرائه سلسلة من اختبارات الصواريخ النووية والباليستية العابرة للقارات.
ومع أنَّ كثيراً من الناس صاروا يرونه ديكتاتوراً لا يرحم، مهووساً بالأسلحة النووية، ومولعاً بقتل مساعديه وأقاربه غير المخلصين، قدَّمَ كيم الآن جانباً مختلفاً من شخصيته باستضافته المبعوثين الكوريين الجنوبيين الذين جاءوا لمناشدته تغيير هذا المسار.
الزيارة الأولى لمقر الحزب الحاكم
ولأول مرة، دُعيَ مسؤولو كوريا الجنوبية إلى مقر حزب العمال الحاكم تحت رئاسة كيم، وجلس هو مبتسماً على رأس طاولة المفاوضات، بينما أنصت الضيوف إلى كل كلمة قالها.
كانت زوجته، ري سول جو، أول سيدة أولى في كوريا الشمالية تُقدَّم إلى الضيوف الكوريين الجنوبيين، بحسب الصحيفة الأميركية.
عندما حان وقت الوداع، بعد ليلةٍ كاملة من الكلام وتناوُل الطعام، اصطحبهم كيم إلى الخارج وودَّعهم مبتسماً ومُلوِّحاً لهم بيديه.
وينوي تشونغ رئيس مكتب الأمن الوطني، وسوه هون رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية في الجنوب، إطلاع مسؤولي إدارة ترامب بواشنطن، في وقتٍ لاحق من هذا الأسبوع، على تفاصيل لقائهما مع كيم.
وقال كيم سونغ هان، نائب وزير الخارجية السابق في كوريا الجنوبية: "لكونه زعيم دولةٍ مارقة، فالتعامل معه ليس أمراً سهلاً. إنَّه شجاع، لكنَّ لديه حساً قوياً أيضاً بالتفاصيل، إضافةً إلى كونه طموحاً ولديه رغبة في الفوز"، بحسب الصحيفة الأميركية.
بدأ تصوير كيم باعتباره دبلوماسياً محنّكاً، في كلمةٍ متلفزة ألقاها بمناسبة رأس السنة الجديدة، حين ارتدى بدلةً أنيقة غربية رمادية اللون بدلاً من سترته التقليدية، بينما كان يمد يده إلى كوريا الجنوبية لتحسين العلاقات. وكانت تلك الخطوة ناجحةً للغاية؛ إذ وضعت الأساس لزيارة كوريا الجنوبية هذا الأسبوع.
قدَّمَت وسائل الإعلام الكورية الشمالية تغطيةً مُتحمِّسةً لكيم وهو يترأس غرفة ردَّدَت جدرانها صدى المفاوضات مع كوريا الجنوبية. ومن المُقرَّر أيضاً أن يسافر إلى الحدود مع كوريا الجنوبية لحضور اجتماع قمة، في أواخر أبريل/نيسان 2018، مع الزعيم الكوري الجنوبي مون جاي-إن، بحسب الصحيفة الأميركية.
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإنه بغض النظر عما قد يسعى إليه كيم، فمن الواضح أن ثمة تغييراً في منهجه عن السنوات الست الماضية.
بعد فترةٍ وجيزةٍ من توليه السلطة عقب وفاة والده، كيم جونغ-إيل، في عام 2011، صعَّد كيم من حدة أزمة بلاده مع العالم الخارجي، بتعجيل التجارب النووية والصاروخية.
بينما تحرَّك بسرعةٍ لتشديد قبضته على الدولة البوليسية التي ورثها، متحدياً أي أمل في أن تجعل الفترة التي قضاها في الدراسة بسويسرا، في أثناء مراهقته، منه شخصاً أكثر انفتاحاً على الأساليب الخارجية.
أعدم العشرات من كبار المسؤولين، من ضمنهم عمه؛ لغرس ولاء لا جدال فيه. ويُعتقد أنَّه أمر باغتيال كيم جونغ نام، أخيه غير الشقيق المنفي والابن الأكبر لوالده، في ماليزيا العام الماضي (2017)، كما تقول الصحيفة الأميركية.
وتُوجَّه أصابع الاتهام إلى وكالة الاستخبارات التابعة له، المكتب العام للاستطلاع، على قرصنة شركة أفلام سوني في عام 2014، كردٍّ على فيلمها الساخر The Interview، الذي تقوم أحداثه على مؤامرةٍ خيالية لاغتيال كيم.
قصته قبل أن يتولى الحكم
تعدُّ دولة كوريا الشمالية محكمة بشدة، لدرجة أنَّ وكالات الاستخبارات الأجنبية لم تكن متأكدة من أن كيم هو ولي العهد الفعلي إلا قبل بضع سنوات من موت والده الكتوم العنيد، بحسب "نيويورك تايمز".
لم يرَ أيُّ غريبٍ من الخارج كيم جونغ-أون، ولم يشهد أحدٌ صوراً له كشخصٍ بالغ، إلى أن توصلت وسائل الإعلام التي تديرها حكومة كوريا الشمالية إلى صورٍ له، ثم حضوره بعد ذلك اجتماعاً للحزب في سبتمبر/أيلول من عام 2010، بالعشرينيات من عمره.
وتقول الصحيفة الأميركية، بالنسبة إلى عامة الناس، صوَّر كيم نفسه زعيماً "محبّاً للناس"، وهو ما يذكّرنا بجده ومؤسس كوريا الشمالية، كيم إيل سونغ، الذي يُقدِّسه الشعب الكوري الشمالي رسمياً باعتباره شخصية إلهية.
لكنَّه لم يجتمع حتى الآن برئيس دولةٍ آخر. وكان أشهر ضيوفه هو رودمان، لاعب كرة السلة المحترف السابق الذي طوَّرَ علاقة صداقة وطيدة مع كيم؛ بسبب ولعه بكرة السلة في أثناء زيارتَي عامي 2013 و2014، بحسب الصحيفة الأميركية.
لا تمثل موافقة كيم على محادثات نزع السلاح النووي أي ضمانةٍ على أن تبدأ كوريا الشمالية في تفكيك ترسانتها، وقال كيم إنَّه لن يتخلَّى عن الأسلحة النووية إلا إذا شعر بأنَّه لا يواجه أي تهديداتٍ عسكرية، مما يعني انهيار الجهود السابقة كافةً بسبب الأزمة ذاتها.
صعَّدت إدارة ترامب الضغوط الاقتصادية، مدعومةً بتهديدات القوة العسكرية، للتعامل مع كوريا الشمالية. قال الرئيس ترامب إنَّه منفتح على المحادثات "فقط في ظل الظروف المناسبة"، فيما أصر المسؤولون على اتخاذ الشمال أولاً الإجراءات اللازمة لإثبات حُسن النية.
تصعيد أميركي
وبحسب الصحيفة الأميركية، تكهَّنَ بعض المُحلِّلين بأنَّ لباقة كيم تخفي محاولةً دؤوبة لصد العقوبات، وتقليص الحديث عن العمل العسكري لواشنطن. ومع حظر الأمم المتحدة أهم صادرات كوريا الشمالية، ومن ضمنها الفحم والأسماك والمنسوجات، تراجعت صادراتها في الأشهر الأخيرة، مما يشكل ضربةً اقتصادية مُحتَمَلة.
ووفقاً لـ"لي سونغ يون"، وهو خبير كوري في كلية فليتشر للقانون والشؤون الدبلوماسية بجامعة تافتس الأميركية: "إما أن يكون قرار كيم جونغ-أون في العام الجديد، أن يكون رجلاً لطيفاً صادقاً؛ وإما أنَّ ابتساماته ورسائله الناعمة لسيول ليست سوى حيلة لتوفير الوقت والمال ريثما يكمل مشروعه النووي".
وعلى الرغم من أنَّ مون، زعيم كوريا الجنوبية، دعا مراراً إلى إجراء حوار مع الشمال، فقد تعثَّرَت العلاقات إلى أن استغل كيم كلمته بمناسبة رأس السنة الميلادية لإجراء حوار بين الكوريتين، وعَرَض إرسال الرياضيين والمشجعين إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيونغ تشانغ بكوريا الجنوبية. فيما أرسل كيم شقيقته الصغرى، كيم يو جونغ، للقاء مون ودعوته إلى إقامة اجتماع قمة، بحسب الصحيفة الأميركية.
جادل مسؤولون أميركيون بأنَّ حملة الضغط التي دشَّنوها هي ما أجبرت كيم على ذلك، وقالت نيكي هالي، سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة الشهر الماضي (فبراير/شباط 2018)، إنَّ "إرسال مشجعات إلى بيونغ تشانغ كان علامةً على اليأس وليس الفخر الوطني".
لكنَّ كوه يو هوان، وهو أستاذ في الدراسات الكورية الشمالية بجامعة دونغوك في سيول، قال إنَّ شيئاً آخر كان قائماً: وهو تفاخر كيم جونغ-أون بأنَّ لديه رادعاً نووياً، مما يعطيه نفوذاً أكبر بكثير في واشنطن وسيول من أي نفوذ حققه والده في السابق.
وأضاف كوه: "نستطيع ملاحظة أنَّ ثقته بنفسه تزداد بصفة مستمرةٍ بشأن ما يفعله. وإذا نظرنا إلى ما حدث في أثناء الشهرين الماضيين، فسنجد أنَّ كيم جونغ-أون هو من اتخذ زمام المبادرة في كل اللحظات الرئيسية".