في سن الـ94 وافق عبدالرحمن اليوسفي، أحد أبرز سياسِيِّي المغرب في العصر الحديث على البَوح، مقدِّما عُصارة حياتِه ومُشرِعا الباب أمام تفاصيل مرحلة دقيقة من تاريخ المملكة، ضمن دفَّتي كتابه "أحاديث فيما جرى.. شذرات من سيرتي كما رويتُها لبودرقة"، المزمع تقديمه يوم الخميس 8 مارس/آذار 2018، تزامناً مع عيد ميلاد مُعارض الحسن الثاني وقائد تجربة التَّناوب الأولى.
ترقُّب كبير يَطبعُ ما ستحمِله سيرة الرجل الذي تعرَّض للاعتقال والسّجن والنفي لسنوات طوال، قبل أن يَصدُر حكمٌ بالعفو عنه ويعود للبلاد، في أكتوبر/تشرين الأول 1980، إلا أن نتائج انتخابات 1993 دفعته للاستقالة من وظائفه السياسية والسفر إلى فرنسا مرة أخرى، قبل أن يُعيَّن وزيراً أولاً (رئيس حكومة)، في فبراير/شباط 1998، وهو الحدث الوطني الذي أخذ أبعاداً دولية وتفاعلت معه دول كبرى.
الجزء الأول من مذكرات اليوسفي، التي جاءت في 240 صفحة، موزعة على 5 فصول، ابتدأ بنشأته الأولى، وحديث عن الحركة الوطنية والمعارضة، فيما تطرَّق الفصل الرابع لقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ثم رئاسة الحكومة، وجمع الجزءان الثاني والثالث ملاحق تكشف الضوء عن مواقف وأحداث خاصة بصاحب السيرة.
أما كاتب "أحاديث فيما جرى" فيحكي في مقدمة المذكرات، عن محاولاته المتكررة لإقناع اليوسفي بتدوين سيرته الذاتية، خاصة أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية وفي مقاومة الاستعمار الفرنسي، إلا أن اليوسفي كان يُقابل إلحاح امبارك بودرقة بصمتٍ أو بابتسامة عريضة حاملة لكل المعاني والتأويلات، خاصة أنه السياسي الذي يصفه أصدقاؤه بكونه "يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم".
اختطاف بنبركة واغتياله!
يؤكد السياسي والمحامي عبدالرحمن اليوسفي ضمن شذراته، أن أشرس معارضي العاهل الراحل الحسن الثاني تم اختطافه واغتياله، لافتاً إلى أنه في نفس الوقت الذي استقبل فيه الملك الحسن الثاني ممثلي الأحزاب السياسية والنقابات، وسلَّمهم مذكرة بشأن الخطة السياسية في أفق تشكيل حكومة وحدة وطنية، وفتح نافذة الحوار مع ممثلي الحركة الوطنية، كان الجنرال أوفقير وزير الداخلية يعقد "لقاءاتٍ سرية مع عناصر عصابة من القتلة وبعض المطلوبين للعدالة، من أجل التخطيط لاختطاف واغتيال المهدي بنبركة".
يسترسل اليوسفي في شهادته، عائداً إلى يوم اختطاف بنبركة، في الـ29 من أكتوبر/تشرين الأول 1965، من العاصمة باريس، وهي الواقعة التي ظلَّت تشغل الرأي العام الوطني والدولي؛ إذ لا يزال مصير المعارض الشاب مجهولاً إلى الآن.
اليوسفي قال إن كلَّ الوثائق الرسمية للأجهزة التابعة للدولة الفرنسية تؤكد تورُّط الجنرال أوفقير ومساعده ميلود التونزي، اللذين حكمت عليهما المحكمة الجنائية في باريس بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.
السياسي المغربي الهادئ، أكد أن عناصر الموساد (الجهاز الأمني الإسرائيلي) أسهمت بشكل أو بآخر في اختطاف بنبركة، وأن العديد من الصحف الدولية تناولت تورُّط مؤسسة الاستخبارات الأميركية في القضية.
رحلة التناوب
تحدَّث عبد الرحمن اليوسفي عن مرحلة تعيينه وزيراً أولاً، إذ استقبله الحسن الثاني يوم 4 فبراير/شباط 1998، مثنياً عليه بالقول: "أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك، وأعرف جيداً أنَّك منذ الاستقلال لا تركض وراء المناصب؛ بل تنفر منها باستمرار، ولكننا مُقبِلون على مرحلة تتطلب بذلَ الكثيرِ من الجهد والعطاء…"
الحسن الثاني وَعَدَ الوزير الأول المعيَّن اليوسفي، بأن يضمن له الأغلبيةَ لمدة 4 سنوات، كما مَنَحَه حقَّ اختيار فريقه الحكومي، داعياً إيَّاه إلى الإبقاء على وزير الداخلية المثير للجدل إدريس البصري، مع تولِّي عبداللطيف الفيلالي وزارة الشؤون الخارجية، بسبب خبرتهما في ملف الأقاليم الجنوبية المغربية، غداة قرار مجلس الأمن بإجراء استفتاء في الصحراء قبل نهاية 1998، وهو ما قبِل به اليوسفي.
قَسَم الحسن الثاني
خلال نفس اللقاء الذي جمع الملك بوزيره الأول، الذي يستعد لتشكيل الحكومة، اقترح الحسنُ الثاني أن يلتزما معاً أمام القرآن الكريم "على أن يعملا معاً لمصلحة البلاد، وأن يُقدِّما الدَّعمَ لبعضهما البعض".
اليوسفي يصف هذه العبارات التي قالها الملك وردَّدها هو وراءه، بكونها "بمثابة عهدٍ التزما به لخدمة البلاد والعباد، بكل تفانٍ وإخلاص، لفائدة حاضر ومستقبل المغرب".
صاحِب المذكرات أكَّد أن الملك الحسن الثاني قُبيل وفاته، كان قد قرَّر بصفة لا رجعة فيها "تدشين عهد جديد، بإعطاء "التناوب" مضموناً مؤسساتياً، متجاوباً مع رغبة الرأي العام الوطني في رؤية بوادر التغيير بشكل ملموس".
وفاة الملك
يتذكر السياسي المغرب مرحلة مرض ووفاة الحسن الثاني بكثير من الألم، إذ تكفَّل ولي العهد آنذاك، محمد بن الحسن، ليخبره أن "صاحب الجلالة انتقل إلى رحمة الله، آمراً إياه بأن يُتلى القرآن في وسائل الإعلام الرسمية، فيما كان الملك الجديد يُحضِّر لكلمة يتوجه بها للشعب المغربي".
"لقد كان يوماً من الصعب تحمُّله، خصوصاً في تلك الساعات الطوال التي كانت مملوءةً بالأمل، ومشحونةً بنوع من الألم حول هذا المصاب الجلل، كان شعوراً مشتركاً بالمأساة والحزن، وكانت تلك اللحظات تتطلب التجلد والصبر والرضا بقضاء الله"، يقول اليوسفي.
اللقاء مع محمد السادس
عهد جديد إذن جعل اليوسفي يتعامل مع الملك الجديد، الذي وجده "صابراً على فقد والده رغم الألم العميق الذي كان يعتصر فؤاده"، بحسب صاحب السيرة، الذي أضاف: "كان يشعر بالمسؤولية الكبرى التي أصبحت ملقاةً على عاتقه".
يعود اليوسفي بذاكرته إلى الوراء، إلى أولِ مرة يتعرَّف فيه على الملك الجديد، تحديداً يوم الأول من مايو/أيار 1992، عندما دعاه الراحل الحسن الثاني لحضور أول اجتماع لأحزاب الكتلة، وقدَّمه إلى ولي العهد آنذاك وشقيقه الأمير رشيد.
الاستقالة
لأول مرة يشعر عبدالرحمان اليوسفي بالارتياح لنتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2002، وهي أول انتخابات في عهد محمد السادس، وأول انتخاب تشريعي تُشرف عليه حكومة التناوب.
بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات التي تصدَّرها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقى اليوسفي الملك، عارضاً عليه تقديم استقالته، خطوة اتُّخذت بداية أكتوبر/تشرين الأول 2002، ليستقبله الملك بمراكش ويثني على مجهوداته، سواء في عهد والده أو خلال العهد الجديد.
يقول اليوسفي عن الملك: "استمرَّ حبلُ التواصل بيننا ولا يزال حتى كتابة هذه المذكرات"، حتى عندما قدَّمت استقالة الاعتزال نهائياً من الحزب والنشاط السياسي، بعث لي جلالته برسالة شخصية، عبَّر فيها عن مشاعره تجاه ما أسديته لبلادي طيلة مساري السياسي".