اعتاد العالم وحشية نظام الرئيس السوري بشار الأسد. فبينما تدخل الحرب السورية عامها الثامن، بحلول شهر مارس/آذار المقبل، فإنَّ معاناة قاطني منطقة الغوطة الشرقية المحاصرين بالقرب من دمشق لا تقل شدة عن أي واقعةٍ شهدتها هذه الحرب المروعة منذ بدايتها.
لكن ربما ما لم يُتوقع كثيراً هو العجز المخزي الذي أبداه المجتمع الدولي، أو عدم رغبته في إيقاف تصاعد هذه الموجة الأخيرة من الموت والدمار، حسب تقرير The Guardian البريطانية. ويشير هذا الإخفاق إلى مشكلةٍ أكبر، تحمل تداعياتٍ وخيمة تتعلق بالنظام العالمي.
شهدت الأيام القليلة الماضية فوضى من التشهير والمشاحنات في مجلس الأمن الدولي، التابع للأمم المتحدة، حول اقتراحٍ بسيط بوقف إطلاق النار لتداعياتٍ إنسانية لمدة 30 يوماً في سوريا.
لم يُقصَد من مشروع القرار الذي قدمته السويد والكويت أن يكون حلاً على المدى الطويل، فلا علاقة له بعملية السلام المتعثرة في الأمم المتحدة.
بل يهدف مشروع القرار بشكلٍ عاجل إلى إيقاف مجزرة الغوطة الشرقية، التي أدت إلى مقتل حوالي 500 شخصٍ وإصابة الآلاف، جراء القصف السوري والروسي منذ نهاية الأسبوع الماضي.
موقف روسيا المتعصب أمام قرار بسيط
إلا أنَّ هذا القرار الرحيم البسيط في سياق الحرب التي أزهقت نصف مليون روح حتى الآن لم يكن مقبولاً بالنسبة للروس. إذ هدَّدت حكومة فلاديمير بوتين باستخدام حق الفيتو، مُصرةً على الحصول على "ضماناتٍ" مسبقة بأنَّ يلتزم مقاتلو فصائل المعارضة المحاصرون بأي قرارٍ لوقف إطلاق النار، حسب The Guardian البريطانية.
وكانت تلك خطوة ساخرة ومُهدرة للوقت. في هذه الحرب التي لا حد لها، لا توجد ضمانات مطلقة لأي شيء. والأهم أنَّه لا يوجد ضمان لاحترام قوات بشار الأسد لأي اتفاقية خلال الأيام التالية. ففي عام 2016، تجاهل النظام اتفاقاً مماثلاً لوقف إطلاق النار أثناء حصار حلب.
أكد تأخير روسيا لإجراء الأمم المتحدة طبيعة قيادة بوتين الخارجة على القانون باستمرار.
استخدمت موسكو حق الفيتو ضد 10 قرارات سابقة خاصة بسوريا، تعزيزاً لسياستها بدعم الأسد. وقامت بحمايته هو ورجاله المقربين من تحقيقات الأمم المتحدة في جرائم الحرب.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عرقلت روسيا تحقيقات الأمم المتحدة بشأن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية في هجماتٍ مزعومة متكررة، وهو ما يعد مخالفةً للاتفاق الذي توسط بوتين لعقده عام 2013 بهدف كبح التدخل العسكري الأميركي. محاولة روسيا الواضحة لكسب الوقت على أمل أن تتمكن قوات الأسد من اجتياح الغوطة تركها وحيدةً كلياً في موقفها.
حتى الصين التي عادةً ما كانت تتبع نهج موسكو في قضايا الأمن الدولي فضلت عدم التدخل.
ووافقت جميع الدول العشر غير دائمة العضوية بالمجلس على قرار وقف إطلاق النار، وكذلك الأعضاء الثلاثة الغربيون أصحاب العضويات الدائمة بالمجلس.
حتى إنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب صديق بوتين الحميم، قال إنَّ موقف روسيا يُعد "فضيحةً". ولكن كما أظهر بوتين فيما يخص قضية أوكرانيا وغيرها من القضايا، فإنَّ العزلة الدبلوماسية لا تثير مخاوفه.
إذا أرادوا حقاً حرمان نظام الأسد من الرعاية الروسية، فإنَّ المسؤولية تقع بوضوح على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لممارسة هذا النوع من الضغط غير المتماثل الذي يفهمه بوتين.
إذا أرادوا حقاً مساعدة الشعب السوري، فإنَّها البداية، ربما تكون فرض عقوباتٍ اقتصادية إضافية على موسكو، والبحث عن مصادر أخرى لاستيراد الطاقة غير روسيا، وإجراء تحقيقات شاملة بشأن الانتهاكات الروسية للنظام المالي الدولي.
وبينما حققت صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا مستوياتٍ قياسية عام 2017، وتوفر أنابيب الغاز الروسي الدفء للألمان، يُترَك السوريون في العراء يعانون من البرد القارس. إلا أنَّ الغرب لم يفعل شيئاً للضغط على بوتين الأسبوع الماضي، وفق The Guardian.
تخاذل ترامب مثله مثل سلفه أوباما عن إغاثة سوريا، وما حدث بالغوطة هو نتيجةٌ مباشرة لذلك. عندما رفضت الولايات المتحدة اتّخاذ أي إجراءٍ في 2013 بعدما هاجم الأسد مدينة الغوطة بغاز السارين، وتجاوز "الخط الأحمر" الذي وضعه أوباما، ترجم بوتين ذلك على أنَّه ضوءٌ أخضر له ليفعل ما يشاء. وتبع ذلك التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015، في حين اقتصر الأميركيون على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وهذا، بصورةٍ عامة، هو موقف ترامب الآن. فهو لا يهتم أبداً لموت السوريين، ولكنَّه يرغب في الحفاظ على صداقته برفيقه الروسي.
استفاقة لحكومات الاتحاد الأوروبي!
يجب أن تكون النزاعات غير المجدية التي نشبت الأسبوع الماضي حول قضية الغوطة لحظة استفاقة لحكومات الاتحاد الأوروبي. استجاب رجال السياسة الأوروبيون لما يحدث في وقتٍ متأخر، بعد أن أصبح من المستحيل تجاهل المنظمات غير الحكومية والصخب الإعلامي.
يوم الجمعة، 23 فبراير/شباط، ناشدت كلٌّ من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -اللذين يُفترض أنَّهما رمزا الإلهام في أوروبا- بوتين بصورةٍ شخصية. ولكنَّ صمت موسكو اللاحق كان ساحقاً. وقالت فيديريكا موغيرني مفوضة الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية: "يجب أن تتوقف تلك المجزرة الآن"! لكن من يسمع؟ يجب أن تُقاس أفكار ماكرون الطموحة حول أوروبا كقوة عسكرية وأمنية كبرى في العالم أمام ذلك الواقع الذي نعيشه.
تحمل الجهات الفاعلة الأخرى المشارِكة في المأساة السورية والمتورطة بصورةٍ غير مباشرة في فوضى الأمم المتحدة الأسبوع الماضي جزءاً من العار كذلك. فغالباً ما يجري التقليل من شأن مسؤولية إيران، بينما تتقدم ميليشياتها حلفاء حزب الله فيضان الأسد المُخزي. يجب بالتأكيد التصدي لمحاولات ترامب لتمزيق اتفاق 2015 النووي الإيراني مع الغرب. لكن طهران تعلم كذلك بالتأكيد أنَّ أفعالها في سوريا ومواجهاتها المتزايدة مع إسرائيل على الحدود السورية من شأنها إضعاف سلطة هؤلاء الساعين في الغرب إلى تطبيع العلاقات مع إيران. وكذلك الحال مع التوغل التركي الأخير في سوريا، وعمليات عفرين العسكرية التي زادت الأمور سوءاً.
وبوضع إخفاقات وسوء تصرف كل هذه الدول جانباً، فإنَّ الكارثة الأكبر تتمثل في الأمم المتحدة نفسها. فهي مثل الغوطة الشرقية واقعة تحت الحصار، ومصداقيتها المتضررة بالفعل على المحك، إضافةً إلى أنَّ نظام مجلس الأمن برمته ومكانته كمنتدى دولي بارز معرض للخطر، ستكون هناك المزيد من الحروب والمزيد من المجازر كمجزرة الغوطة.
مستقبل الحوكمة العالمية الجماعية يبدو حالكاً.