"كل الغوطة الشرقية تحت الأرض"، هكذا وصف أحد عمال الإغاثة الوضعَ، بعد أن فرَّ آلاف الناس إلى الأقبية والملاجئ المؤقتة في ضاحية دمشق، التي تسيطر عليها المعارضة، هذا الأسبوع.
تخضع الغوطة الشرقية لهجومٍ جوي وحشي من جانب قوات الحكومة السورية، أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص في الأيام الأخيرة، بينهم الكثير من الأطفال.
ومع بلوغ الحرب على ضواحي العاصمة مستوى جديداً من القوة، تتجمَّع الأسر تحت الأرض. وينتظرون لساعاتٍ طويلة انتهاء القصف، الذي لا تُظهِر وتيرته أي علامةٍ على التراجع، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
هذا الهجوم هو الأخير من جانب قوات الرئيس بشار الأسد على مناطق سيطرة المعارضة، في حربٍ ممتدة منذ سبع سنوات أدَّت إلى تمزيق البلاد.
وفي المدن والبلدات الأخرى التي كانت تسيطر عليها مجموعات المعارضة في السابق، مثل حلب وداريا، استخدمت الحكومة أسلوباً شبيهاً يشمل قصف البنية التحتية والمناطق السكنية، لفرض الاستسلام على المقاتلين وإعادة توطين المدنيين.
350 ألف مدني عالقون تحت الحصار
وتقول الحكومة السورية إنَّه لم يعد يتبقى في الغوطة الشرقية سوى القليل من المدنيين، وإنَّ أولئك المتبقين محتجزون كدروعٍ بشرية، وهو التأكيد الذي تُشكِّك فيه مجموعات حقوق الإنسان الدولية والنشطاء على الأرض.
توجد مجموعات معارضة نشطة في المنطقة، لكنَّ منظمة أنقذوا الأطفال والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تُقدِّران أنَّ نحو 350 ألف مدني عالقون تحت الحصار.
وتُظهِر لقطاتٌ من النشطاء المحليين نساءً وأطفالاً متجمِّعين في الأقبية، يلعبون ويطهون لتمرير الوقت. وينشر البعض تسجيلاتٍ صوتية لطنين الطائرات والمروحيات فوق رؤوسهم، ويُصدِرون نداءاتٍ يائسة على الشبكات الاجتماعية وتطبيق واتساب.
وفي بعض مناطق الضاحية مترامية الأطراف، ترتبط المساحات الموجودة تحت الأرض بأنفاق. وصوَّر أحد النشطاء الإعلاميين المحليين يُدعى فراس عبدالله المشهد، فيما كان يشق طريقه بين الغرف المتصلة، الأربعاء 21 فبراير/شباط 2018.
ويقول في الفيديو، بينما يحني رأسه للسير عبر المكان الضيق: "الناس يختبئون من القصف الهائل".
يعيشون في الأقبية
وقال عبدالله، الذي ظلَّ ينشر آخر تطورات الأخبار من المنطقة على مدار السنوات العديدة الماضية، إنَّ بعض النساء والأطفال ظلوا بالملاجئ لأكثر من 72 ساعة، وكانوا في حاجةٍ للغذاء والماء، ووصف الظروف بأنَّها "خطيرة".
ونقلت المجموعات الإنسانية المحلية المعلومات نفسها إلى الشركاء الدوليين: المكان الأكثر أمناً هو أن تكون تحت الأرض.
وقالت سونيا خوش، مديرة منظمة أنقذوا الأطفال في سوريا والمقيمة في العاصمة الأردنية عمّان، وتعمل مع المجموعات المحلية في الغوطة الشرقية منذ سنوات، إنَّ آلاف الأسر أمضت معظم الأسبوع الماضي في الأقبية تجنُّباً للقصف.
وأضافت: "الحقيقة هي أنَّ الناس يوجدون في هذه الأقبية والملاجئ، لكنَّ ذلك لا يمنحهم حتى الراحة النفسية بأنَّهم سيكونون في مأمنٍ من القصف. الجميع خائفٌ فحسب الآن".
وفي حين كانت أجزاءٌ من المنطقة هدفاً للقصف منذ 2012، فإنَّ التصاعد الأخير للهجمات هو الأسوأ هنا منذ سنوات.
فوق الأرض: مشاهد من الجحيم
وفوق الأرض، تحدث مشاهد من الجحيم. إذ نشر الدفاع المدني السوري (وهو مجموعة من عمال طب الطوارئ) يوم الإثنين 19 فبراير/شباط، لقطاتٍ أظهرت أناساً يركضون من أجل الاحتماء بعد سلسلة من الغارات.
يعتبر الكثيرون الأقبية هي الملاذ الوحيد في تلك البيئة العدوانية. فلم يكن أمامهم سوى فرصة ضئيلة للخروج من المنطقة، لأنَّها مُحاصَرة منذ أشهر.
وبالنسبة لشادي جاد، وهو أبٌ شاب يمكث في قبوٍ منذ بداية الأسبوع، فإنَّ ملجأه يُمثِّل نعمةً ونقمة.
إذ قال حين تواصلنا معه، الثلاثاء 20 فبراير/شباط 2018: "بصراحة، أشعر أنَّ هذا الملجأ قبر، لكنَّه السبيل الوحيد المتاح للحماية".
لكنَّ جاد، الذي يختبئ مع زوجته وثماني أسر أخرى، قال إنَّ الوجود في أماكن قريبة من الأسر الأخرى جعل المجتمع أقرب من بعضه بعضاً.
وأضاف: "نتشارك القصص، ونحاول إبقاء الخوف بعيداً عبر إلقاء بعض النكات. الملجأ يجعل العلاقات أعمق".
ونشرت مجموعة أخرى من النشطاء الإعلاميين المحليين صور أسرةٍ مُجتمعة تحت الأرض يوم الأربعاء، وهم يخبزون الخبز في فرن.
الظروف في الملاجئ
وتحذر مجموعات الإغاثة من أنَّ الظروف في الملاجي قد تتدهور سريعاً. إذ تفتقر إلى التهوية والكهرباء والمياه الجارية ومرافق دورات المياه. وقال المكتب الطبي الموحد في الغوطة -وهو مجموعة إغاثة محلية تعمل في المنطقة- إنَّ تلك الظروف قد تؤدي إلى مشكلاتٍ صحية مثل "أمراض الجهاز التنفسي، والقمل، والجرب".
وحتى قبل القصف الحالي، أشار تقريرٌ للأمم المتحدة إلى أنَّ بعض الأحياء والملاجئ أصبحت بالفعل مصدر قلقٍ على الصحة العامة.
لكن ليس أمام الناس سوى خياراتٍ قليلة.
وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إنَّه منذ 4 فبرير/شباط، حين بدأ الهجوم الحكومي قُتِل 346 مدنياً، وجُرِح 878، معظمهم في غاراتٍ جوية تستهدف المناطق السكنية. ودعا زيد بن رعد بن الحسين، المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، لإنهاء العنف، في بيانٍ يوم الأربعاء.
وقال الحسين: "هؤلاء مئات الآلاف من المدنيين الذين علقوا لما يزيد عن خمس سنوات تحت الحصار، وعانوا الحرمان من احتياجاتهم الأساسية، ويواجهون الآن قصفاً عديم الشفقة. كم من الوحشية يتطلبها الأمر قبل أن يتمكَّن المجتمع الدولي من التحدث بصوتٍ واحد، وقول كفى قتلاً للأطفال، كفى تدميراً للأسر، كفى عنفاً، واتخاذ إجراءٍ حازم مُتضافر لوضع حدٍّ لحملة الإبادة الوحشية هذه؟".
عاشت هدى الخيطي (29 عاماً) في الغوطة الشرقية كامل حياتها، وقالت إنَّ أسرتها مثلما هو الحال مع معظم الجيران قضت معظم الأسبوع في قبو. وانضمت 12 أسرة أخرى إليهم في مكانٍ واحد ضيق. وبإمكانهم سماع صوت الطائرات وهي تمر فوق رؤوسهم باستمرار.
"أرواحنا تغادر أجسادنا"
وقالت هدى عندما تواصلنا معها الأربعاء عبر مكالمة فيديو على موقع فيسبوك: "اللحظات الأكثر رعباً هي حين تسقط الصواريخ، ثُمَّ يتبع ذلك صمت. نشعر أنَّ أرواحنا تغادر أجسادنا حين تقترب الطائرات، ونشعر بالارتياح حين تذهب بعيداً".
وهم يخشون القصف في الخارج، لكن مثلما هو الحال مع جاد، قالت هدى إنَّ الملاجئ أصبحت مكاناً يلتقي فيه أفراد المجتمع معاً. ويتشاركون الطعام والأغطية والحكايات حين يكونون بانتظار تلاشي أصوات الطائرات فوق رؤوسهم.
وتقول هدى: "تعود أمي من الملجأ بالكثير من القصص، عن زواج امرأة وإنجاب أخرى".
لكنَّ هدى تشعر بالتردد لدخول القبو أحياناً، لأنَّها تخشى أن تعلق. وكثيراً ما تبقى فوق الأرض في منزل عائلتها بينما يتجه والداها وشقيقتها إلى الملجأ.
وقالت: "لا أريد الموت في قبو. رأيتُ عائلةً بأكملها تموت في قبو. كان ذلك الأسبوع الماضي".