"هُجّرنا من بلدتنا عن بكرة أبينا، ولم يكن لدينا الوقت حتى لأخذ أغراضنا الشخصية، أوراقنا الثبوتية تركناها خلفنا فراراً من نار الحرب التي لم تستثن أحداً في تاورغاء"، هكذا بدأت ملاك حديثها لـ"عربي بوست" بابتسامة تحاول أن تخفي بها حجم المعاناة.
ففي مخيَّم بُنيت أكواخه من الصفيح والخشب بمنطقة قاريونس على الشاطئ الغربي لمدينة بنغازي، شرقي ليبيا، وبعيداً عن وسط المدينة ببضعة كيلومترات وجدت نفسها ملاك شعبان صحبة والديها وأشقائها العشرة وبقية سكان بلدتها تاورغاء.
حياتها قبل المخيم البائس كانت مستقرة كما تحكي "كنت مرتاحة في بيتي والحمد لله مع كل عائلتي، وكنت محبة لدراستي، ودخلت المجال الذي أحببته منذ الصغر، طب الأسنان، وصلت للسنة الثانية بتفوق، وفجأة تبدَّل كل شيء حين اندلعت الحرب، في فبراير/شباط 2011".
حياة لم تستبدلها ملاك شعبان اختياراً بحياة النزوح، إذ لم تتخيل طالبة السنة الثانية وهي تغادر مدرجات كلية طب الأسنان بجامعة مصراتة قبل اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011، بساعات قليلة أنها ستكون المرة الأخيرة، ولم يخطر ببالها مطلقاً أنها المرة الأخيرة أيضاً التي سيقلّها بها باص الجامعة 40 كيلومتراً، جنوباً إلى بيتها بتاورغاء.
ومعها أكثر من 40 ألف نازح هم سكان البلدة المنكوبة تاورغاء تشتتوا في شرقي وغربي وجنوبي ليبيا، ويعيش معظمهم أوضاعاً إنسانية صعبة في مخيمات مؤقتة، تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
ضريبة الثورة
قصة النزوح الكبير بدأت حين دخل "ثوار مصراتة" بلدة تاورغاء شمالي ليبيا من أربعة محاور، تحت غطاء جوي من طائرات الناتو، بعد أشهر من الحرب الدامية ضد قوات القذافي، التي قيل حينها إنها اتخذت من تاورغاء منطقة عسكرية لحصار وضرب مدينة مصراتة، وإن كتائب العقيد أجبرت أهالي البلدة على القتال ضمن صفوفها، أثناء أحداث ثورة فبراير/شباط من العام 2011، مما نجم عنه تهجير السكان، وهدم عدد من البيوت، وأَسْر وقتل العديد من الشباب، بحسب شهادات وتقارير حقوقية.
معاناة لم تقف عند حد التهجير كما تروي ملاك لـ"عربي بوست"، ليلة الهرب أو النزوح كما تحكي، ما زالت تفاصيلها راسخةً في الذاكرة "خرجنا من بلدتنا بملابسنا التي نرتديها فقط وسط حالة من الذعر والخوف الشديدين، اتجهنا إلى العاصمة طرابلس مع عدد من جيراننا وأقاربنا"، في العاصمة مكثت ملاك وأسرتها شهراً واحداً، إلا أن المعاناة تبعثهم إلى هناك، إذ تعرضوا كما تحكي لمضايقات وتهديدات من قبل الميليشيات المحسوبة على مدينة مصراتة، التي كانت تسيطر على طرابلس العاصمة.
"والدي كان خائفاً على إخوتي الذكور تحديداً من الاعتقال أو التصفية، فقرر أن يسافر بنا شرقاً، فقصدنا بنغازي، في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته 2011″، في العاصمة الشرقية لليبيا سيتم إسكانهم في مخيم بمنطقة قاريونس، في حالة صحية ونفسية صعبة جداً، كما تصف طالبة طب الأسنان سابقاً "تركنا منزلنا الكبير الدافئ لنتشارك غرفة صغيرة من الصفيح لا تقينا برد الشتاء ولا حر الصيف، نتكوم فيها مع والدينا، فيما يضطر أشقاؤنا الذكور إلى المبيت خارجاً في العراء، لصغر المكان وافتقاره لأي تجهيزات"، ويظلّ وضع الأسرة كما هو لأكثر من ثلاثة أشهر حتى أتتهم بعض الإعانات من متطوعين ومن جمعيات المجتمع المدني التي تتحصل على الدعم الدولي.
الحياة في المخيم لا مجال للخصوصية فيها، تتحسس ملاك بيديها الحائط الخشبي للكوخ الذي يقيمون فيه، بإمكان جيرانهم في الغرف المجاورة سماع كل شيء يدور بينهم الآن، ولكن على الأقل هم هنا أفضل بكثير من الأشهر التي قضوها في إحدى المدارس بحي السلماني وسط بنغازي، عندما وصلت الاشتباكات لهذه المنطقة في "عملية الكرامة" قبل عامين، كما تضيف ملاك "في المدرسة كان الأمر أكثر سوءاً، خاصة حين تضطر إلى النزول من الطابق الثالث إلى الطابق الأرضي في برد الشتاء القارس، فقط من أجل استخدام حمام مشترك مع مئات العائلات".
ظروف قاسية يعانيها سكان المخيمات الموزعة بين طرابلس وبنغازي ومناطق أخرى يزيد برد الشتاء وأمطاره الغزيرة من حدتها، وسط عجز السلطات المحلية وقصور المنظمات الدولية عن توفير أبسط مقومات الحياة للأسر، ومن بينها الأطفال والمسنين كما يصف بعض متطوعي منظمة الهلال الأحمر لـ"عربي بوست"، رغم ما يبذلونه من جهود، لكن أعداد النازحين تفوق قدرات المنظمة وغيرها من الجمعيات التطوعية المحلية، التي "لا إمكاناتها ولا خبرتها تسمح لها بالتعامل مع أزمة زاد أمدها عن سبع سنوات".
بصيص أمل
اجتماعات الساسة وقرارتهم لا تعول ملاك كثيراً على جدواها "مرت سبع سنوات على تهجيرنا من بلدتنا، وكل مرة نسمع وعوداً جديدة عن عودتنا ولم يتغير شيء"، آخر الوعود ما حدث، في مطلع فبراير/شباط الحالي، حين قرر أهالي تاورغاء العودة إلى ديارهم بعد وعود السلطات المحلية والحكماء والمشايخ. والد ملاك كان من بين الذين حاولوا العودة، لكنه علق هناك في "هراوة"، منطقة قرب مدينة سرت شرقي ليبيا، ولم يتمكن كغيره من الوصول إلى تاورغاء بسبب ميليشيات مصراتة التي منعتهم من التقدم، ولم يعد إلى المخيم أيضاً حيث تعيش أسرته على أمل أن يسمحوا له قريباً بدخول بلدتهم.
"أبي أيضاً لم يكن واثقاً من الأمر، لذلك تركنا وذهب بمفرده، قال إنه سيتفقد بيتنا أولاً"، ملاك شجعت والدها لأنها تعتبر العودة حقهم الطبيعي والإنساني، وكثيرون رجعوا بعد وصولهم إلى سرت بسبب قلة الإمكانات وخوفهم على أطفالهم ونسائهم، لكن والدها قرَّر مع آخرين البقاء والدفاع عن حق العودة، وإن ظلّوا في العراء بين هراوة وقرارة القطف، على بعد كيلومترات قليلة من بيوتهم المسلوبة، كما تضيف ملاك بأسف.
تضارب التصريحات
بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بدورها أبدت أسفها بشأن ما وصفته بقيام بعض العناصر المتشددة بمنع أبناء تاورغاء وأسرهم من العودة إلى منازلهم، حيث انتقدت البعثة في بيان رسمي لها ما سمته بمحاولات ابتزاز النازحين من تاورغاء مالياً، للسماح لهم بالعودة الآمنة إلى ديارهم.
وفي بيانها أضافت البعثة أن الأمم المتحدة رعت منذ نحو سنتين مشروع المصالحة بين مصراتة وتاورغاء، ورحبت بقرار حكومة الوفاق الوطني (حكومة طرابلس التي جاءت بعد الاتفاق السياسي الذي وقعته الأطراف الليبية في مدينة الصخيرات المغربي) بتنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بدعم ومتابعة من البعثة.
المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني من جهته كان قد أعلن الأول من فبراير/شباط، موعداً للعودة الكاملة لأهالي تاورغاء إلى بلدتهم بعد التنسيق مع المجلس المحلي لتاورغاء والمجلس البلدي لمصراتة، ومع اللجان والأجهزة المعنية، لكنه تحدث في الوقت ذاته عن وجود بعض الأطراف التي تسعى لنسف الاتفاق، دون أن يحددها.
وجدَّد المجلس الرئاسي في بيان أصدره، مع نهاية يناير/كانون الثاني، ترحيبه ومباركته لاتفاق المصالحة بين مصراتة وتاورغاء، مؤكداً التزامه "بتنفيذ بنود الاتفاق الموقع بينهما، الأمنية والخدمية والمالية، وتكليف لجنة مختصة لمتابعة ذلك".
الأمر الذي أكد المتحدث باسم المجلس البلدي بمصراتة أسامة بادي لـ"هاف بوست" أنه لم يحصل، بادي قال إن الإعلان عن الموعد جاء من طرف واحد "نحن في مصراتة تفاجأنا بالخبر"، موضحاً أن المجلس البلدي بمصراتة شكّل لجنة رئيسها وأعضاؤها من المتضررين بشكل مباشر من اعتداءات تاورغاء على مصراتة في 2011، اللجنة التي خاضت منذ فترة جولات حوار داخل وخارج ليبيا مع المجلس المحلي لتاورغاء، برعاية الأمم المتحدة حتى وصلت إلى اتفاق يرضي الطرفين اللذين صادقا عليه، واعتمد من قبل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني باعتبار أن الاتفاق يضم بين طياته التزامات، على الحكومة الوفاء بها لتنفيذ هذا الاتفاق.
بادي أكد لـ"هاف بوست" أن حكومة الوفاق هي من تأخرت في تنفيذ بعض هذه الالتزامات، التي شكلت لها لجنة لمتابعتها "تفاجأنا بخروج رئيس المجلس فايز السراج، وإعلانه أن الأول من فبراير/شباط هو موعد عودة أهالي تاورغاء، هذا القرار في نظرنا قفز على المراحل فهناك بعض الترتيبات كان من المفترض أن تقوم بها اللجنة قبل مباشرة عودة أهالي تاورغاء لم تحدث".
خطر العودة..
هذه الترتيبات التي لم تحدث أربكت المصراتيين، وشكلت خطراً على عودة أهالي تاورغاء، إذ إن هناك أطرافاً داخل مصراتة اعترضت على رجوع التاورغيين بهذه الطريقة حسب بادي، ما دعاهم إلى الخروج ببيان واضح وصريح طالبوا فيه المجلس الرئاسي بتأجيل موعد العودة،ظ حفاظاً على "سلامة أهالي تاورغاء، حتى تكون العودة بطريقة سلمية آمنة ونضمن لهم أن يعيشوا في منطقتهم بأمان"، وبهذا، يضيف المسؤول البلدي، تكون الدولة قد حققت بعض التزاماتها تجاه هذا الملف، خاصة فيما يتعلق بجبر الضرر وتسليم المتهمين للعدالة ومحاكمتهم، وتهيأت المنطقة لعودة الأهالي.
من جهة أخرى اعتبرت لجنة الخارجية بمجلس النواب الليبي (مستقر في شرق ليبيا ولم يعترف بعد بحكومة الوفاق) أن المجلس الرئاسي عجز عن اتخاذ أي إجراء عملي بشأن نازحي تاورغاء، معتبرة "أن ذلك يعطي دليلاً واضحاً على فشله في إدارة الأزمة في ليبيا عامة وتاورغاء بشكل خاص" بحسب بيان وجهه رئيس لجنة الخارجية بالبرلمان يوسف العقوري لعدة جهات ومسؤولين، من بينهم مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة.
وبين كل هذه الأطراف تبقى عائلة ملاك وقرابة 100 عائلة أخرى في المخيم تعاني الانقطاع المتكرر في التيار الكهربائي الضعيف، وانعدام الخدمات الصحية الأساسية باستثناء مجهودات ذاتية نجحت في إنشاء مصلى صغير، ومركز صحي متواضع يحاول القائمون عليه توفير الأدوية لمرضى الضغط والسكري، وتقديم بعض الخدمات الطبية البسيطة بدعم من المكتب الصحي ببنغازي.
وفيما يجتمع أعضاء مجلس حكماء ليبيا ولجنة المصالحة الوطنية، وعدد من المشايخ والحكماء والأعيان ببلدة هراوة غربي بنغازي، لبحث تطورات أزمة مهجري تاورغاء تحدق ملاك إلى أواني الطبخ والصحون المكدسة منذ البارحة، في حوض مطبخهم الصغير، الذي يحول أقل هطول للمطر سطحه الصفيحي إلى غربال، وهي تنتظر وشقيقاتها وصول صهريج مياه -غير صالحة للشرب- على ظهر شاحنة تابعة للشركة العامة للمياه قد تأتي رأس كل أسبوع وقد لا تأتي.