طوال عقود من الزمن، ظلَّ رؤساء مصر يستعينون بمشاريع البنية التحتية العملاقة لبث الشعور بالإنجازات الوطنية والقوة الاقتصادية في نفوس شعبهم؛ حالهم في ذلك حال الفراعنة من قبلهم.
مع ذلك، لم تشهد مصر زعيماً معاصراً زعم إطلاق كل هذا العدد من المشاريع في مثل هذه الفترة الوجيزة كرئيسها الحالي عبدالفتاح السيسي، وإن كان أثر تلك المشاريع على أرض الواقع في غاية الضآلة، وفق ما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.
كان الجنرال السابق عبدالفتاح السيسي قد أقرَّ، منذ صعوده إلى السلطة في أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر عام 2013، عدداً من المشاريع، من بينها مشروع توسعة قناة السويس، ومشروع العاصمة الجديدة بالقرب من القاهرة، ودشَّن خطة لاستصلاح أكثر من مليون فدان من الأراضي الصحراوية الجرداء.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام 2017، وافق السيسي على صفقة مع شركة مملوكة للحكومة الروسية لبناء مفاعل نووي بتكلفة 21 مليار دولار أميركي.
رقم مبالغ فيه
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، المزمع إقامتها في مارس/آذار 2018، ها هو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يلتمس التأييد من الشعب، متفاخراً بدوره في تدشين عدد من المشاريع العملاقة تحت إشراف القوات المسلحة المصرية، فقد بدأ الرئيس المصري حملته الرئاسية الثانية في يناير/كانون الثاني عام 2018، بأن زعم بأن الحكومة المصرية قد تمكنت من إنجاز ما يصل إلى 11 ألف "مشروع وطني" خلال فترة حكمه القصيرة.
صحيح أنه قد اتضح لاحقاً أن هذا الرقم مبالغ فيه، لكن حتى مبادرات البنية التحتية البارزة التي أقرّها السيسي في عهده لم تفلح كثيراً في التخفيف من حدة استياء الشعب من الوضع الاقتصادي، الذي كان مصدراً رئيسياً للاضطرابات السياسية إبان الربيع العربي منذ 7 سنوات مضت.
تداعيات وخيمة على الاقتصاد
في هذا الصدد، قال روبرت سبرينغبورغ، الخبير بالشؤون المصرية في كلية الملك بلندن: "تلك الأموال ليست أموالاً مخصصة للاستثمار، بل أموال سياسية. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر سوف تكون له تداعيات وخيمة للغاية على الاقتصاد المصري على المدى البعيد؛ إذ إنه ليس سوى إهدار لموارد البلاد، وهي في أمسّ الحاجة إليها في الوقت الراهن".
ومن الجدير بالذكر أن تبنِّي السيسي لتلك المشاريع العملاقة المشكوك في نتيجتها لن يكلفه خسارة الانتخابات القادمة أبداً؛ لأن قوات الأمن المصرية قد تخلصت من جميع خصومه الفعليين، إما بالسجن، أو بالمنع من المشاركة في الانتخابات.
لكن حتى المسؤولين الحكوميين المشاركين في تلك المبادرات يرون أنها موضوعة خصيصاً لتضفي مظهراً، وليس واقعاً، لتعافي الاقتصاد المصري في أعقاب الاضطرابات التي خلّفتها الثورة المصرية في عام 2011، ونجحت في إنهاء حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الذي دام لثلاثة عقود.
كانت حكومة السيسي قد كشفت النقاب عن مشروع "قناة السويس الجديدة"، الذي بلغت تكلفته 8 مليارات دولار أميركي، للمرة الأولى في عام 2015، مشيدةً به باعتباره رمزاً للنهوض الوطني و"هبة مصر للعالم كله".
وبهذه المناسبة، أقام السيسي حفل افتتاح فخم على ضفاف القناة الجديدة، حضره كبار الشخصيات في صفوف امتدت بطول شاطئ القناة، التي جرى توسيعها بحيث تسمح للسفن بالمرور في اتجاهين، ما من شأنه أن يقلّص أوقات الانتظار إلى حدٍّ كبير، وحلّقت فيه الطائرات المقاتلة فوق الحضور، وحضره السيسي على متن اليخت الملكي "المحروسة"، مرتدياً الزي الرسمي للقوات المسلحة المصرية كاملاً ونظارات شمسية سوداء.
توسعة قناة السويس: عوائد مناقضة للوعود
بيد أن عوائد المشروع لم تأتِ مطابقةً للدعاية الضخمة التي حظي بها. ففي عام 2015، صرَّح رئيس هيئة قناة السويس، الفريق مهاب مميش، أن توسعة قناة السويس سوف ترفع عائدات القناة إلى الضعف، من 5 مليارات دولار أميركي سنوياً إلى أكثر من 13 مليار دولار أميركي بحلول عام 2023. لكن الدخل الناتج من القناة لم يشهد أي تغيير يُذكر عن المستويات التي حققها في عام 2015 حتى هذه اللحظة.
كذلك، فقد توقعت دراسة أجرتها الحكومة المصرية داخلياً، لم ترَ النور قط، بأن تحقق القناة عائداً متواضعاً دون شك على الاستثمار بمعدل يبلغ 4.8% للأفراد المصريين الذين اشتروا شهادات لتمويل المشروع، وفقاً لأحمد درويش، رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس الأسبق؛ وهو ما جاء مناقضاً للمزاعم التي أعلنت عنها هيئة قناة السويس.
وأضاف رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس الأسبق، أحمد درويش قائلاً: "كانت هناك أسباب عديدة لهذا المشروع. الأمر لا يتعلق بزيادة الإيرادات فقط، بل إن هذا المشروع قد جاء في وقت كان فيه الرئيس بحاجة إلى إعادة روح الثقة إلى نفوس الشعب المصري من جديد، ومن هنا كانت لفكرة "نعم، نستطيع" أهمية بالغة".
3 مشاريع في اليوم!
إلا أن فشل مشروع القناة في تحقيق أهدافه المعلنة لم يمنع السيسي من اختيار تلك المشاريع العملاقة، باعتبارها أبرز معالم فترته الرئاسية: فقد نشر حساب الرئيس المصري الرسمي على موقع تويتر الشهر الماضي، يناير/كانون الثاني عام 2018، تغريدةً أعلن فيها أن عدد المشاريع التي أنجزها الرئيس السيسي قد بلغ 11 ألف مشروع، مما يعني أنه قد أنجز ما يزيد على ثلاثة مشاريع في اليوم الواحد منذ توليه الرئاسة.
أصبحت هذه التغريدة مثار سخرية المستخدمين المصريين على موقع تويتر، بعد أن أجروا الحسبة بأنفسهم: فثلاثة مشاريع في اليوم الواحد خلال أربعة أعوام، وهي مدة الفترة الرئاسية للرئيس السيسي، تساوي 4,380 مشروعاً فقط! مع ذلك، لم يأخذ حساب الرئيس الرسمي على موقع تويتر على عاتقه تصحيح التغريدة، ولم يستجب مكتبه لكل من ناشده الإدلاء بتعليق حول الأمر.
مشروع العاصمة الإدارية: غارق بالتأخير
على الصعيد الآخر، فإن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع البارز الثاني للرئيس السيسي، غارق بدوره في التأخيرات بعد انسحاب الشركة الصينية التي كانت قد وقعّت مع الحكومة المصرية صفقة بناء وتشييد بتكلفة 3 مليارات دولار أميركي، بسبب خلاف على الأسعار. مع ذلك، لم يستجب المسؤولون عن المشروع على الفور للرسائل التي تطالبهم بالتعليق على ذلك. ولا يزال موقع المشروع، الذي كان من المفترض أن يصبح حافزاً للنمو الاقتصادي وحلاً عصرياً لمشكلة ازدحام شوارع القاهرة، مُحرّماً على عامة الشعب.
أما مشروع استصلاح الصحراء أو مشروع المفاعل النووي، الذي من شأنه أن يكون الأول من نوعه في مصر، فلم يؤتيا ثمارهما بعد.
الجدير بالذكر أن ارتباط السيسي بالمشاريع العملاقة يتلاءم تماماً مع النمط الفرعوني الذي لطالما تمتع به زعماء مصر، والمتمثل في بناء المشاريع البارزة الطَّموحة طوال فترة حكمهم.
تعليقاً على ذلك، قال ديفيد سيمز، وهو خبير في الاقتصاد والتخطيط الحضري مقيم في القاهرة: "هذا جزء من ترسانة الأسلحة التي تلجأ إليها السلطات الحاكمة عموماً، والسلطات الاستبدادية خصوصاً، لإضفاء الشرعية على نفسها، ورسم الأحلام الوردية لشعبها، وشَغل وسائل الإعلام المملة للغاية عادةً".
لكن السيسي ليس الوحيد: ففي الخمسينيات من القرن العشرين، أمر الرئيس جمال عبدالناصر ببناء السد العالي في أسوان؛ وهو مشروع أدى إلى تحسين الري وتوليد الكهرباء، لكنه على الصعيد الآخر أسفر عن تشريد ما يزيد على 100 ألف شخص.
وفي عام 1997، اعتمد الرئيس محمد حسني مبارك مشروع تشييد شبكة معقدة من القنوات في صعيد مصر، على أمل إنشاء أراض زراعية جديدة، وربما خلق مدينة جديدة في قلب الصحراء، لكن ذلك المشروع، الذي كان يُعرف آنذاك باسم "توشكى"، قد فشل في إنشاء ولو 10% من الأراضي الصالحة للزراعة التي كان يخطط لها الرئيس مبارك.
أما الرئيس السيسي، فقد فضّل اتباع نهج تنازلي يحابي الشركات ذات الصلة بالقوات المسلحة المصرية، في مشروع توسعة قناة السويس الأخير، ضارباً في ذلك بمشورة مستشاريه الاقتصاديين المدنيين عرض الحائط.
تعقيباً على ذلك، قال روبرت سبرينغبورغ، الخبير بالشؤون المصرية في كلية الملك بلندن: "يرمز ذلك إلى سوء إدارة البلاد على الأعمّ، وإلى توسيع النفوذ الذي يتمتع به الجيش في البلاد".
سيطرة الجيش على الاقتصاد
وتجدر الإشارة هنا إلى أن القوات المسلحة المصرية لطالما كانت مسيطرةً على حصة كبيرة من الاقتصاد المصري لعقود من الزمن؛ إذ إنها تمتلك مصانع تنتج كل شيء، من المعكرونة إلى الإسمنت، إلى جانب مجموعة من الفنادق والمتاجر الكبيرة. لكن حكومة السيسي لم تكتفِ بذلك؛ إذ سمحت للجيش بإنتاج المستحضرات الدوائية ومنحته حرية أكبر للاستثمار في مجال العقارات.
ومن جانبه، نشر صندوق النقد الدولي الشهر الماضي، يناير/كانون الثاني عام 2018، تقييماً للاقتصاد المصري ذكر فيه أنه قد بدأ يشهد تحسناً، وإن لم يعزُ جزءاً كبيراً من ذلك إلى مشروع توسعة قناة السويس. في الحقيقة، توقع التقرير أن تتراجع عائدات القناة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي خلال الأعوام الأربعة القادمة، من 2.2% العام الجاري إلى 1.9% بحلول عام 2022.
إن السيسي قد خفّض من قيمة العملة المصرية ومن الدعم الحكومي لكي تصبح مصر مؤهلةً للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار أميركي من صندوق النقد الدولي في عام 2016.
ومنذ ذلك الحين، لم يحقق النمو الذي شهده الاقتصاد الأوسع نطاقاً نتائج تُذكر في ما يتعلق بتحسين حياة أغلب المصريين: فما زالت معدلات البطالة بين الشباب أعلى من 33% وفقاً لمنظمة العمل الدولية، وما زالت معدلات التضخم ثابتة عند 17.1%، وإن كانت تشهد بعض التراجع. فضلاً عن أن الارتفاع المتواصل في أسعار الغذاء والوقود والدواء وغيرها من السلع الحيوية منذ أواخر عام 2016 وحتى الآن قد أدى إلى تناقص الشعبية التي يتمتع بها الرئيس السيسي.