“فوق مدرستي كمين”!.. صراع الجيش والمسلحين على الأبنية التعليمية في سيناء

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/09 الساعة 12:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/09 الساعة 12:32 بتوقيت غرينتش

خلال الأعوام الأربعة الماضية، فقدت منطقة جنوب مدينة الشيخ زويد جميع مدارسها الأساسية والأزهرية. فمنذ النصف الثاني من 2013، بدأ قصف المدارس من قِبل الجيش المصري. ومنذ ذلك الحين، استمر استهداف المدارس بين قوات الجيش ومسلحي ولاية سيناء التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية".

"فوق مدرستي كمين للجيش، لكني لا أخاف عندما يفتشني الضابط".. بهذه العبارة تحدثت "آية" عن مدرستها، مدرسة جرادة للتعليم الأساسي، التي يتمركز على سطحها كمين الجيش المعروف بكمين جرادة على الطريق الدولي (العريش -الشيخ زويد).

تعيش "آية"، التي تدرس بالصف السادس الابتدائي، في منطقة الوادي الأخضر التابعة لمدينة الشيخ زويد، وهي قرية صغيرة لم يبقَ فيها إلا عائلات قليلة بعد أن اعتُقل كثيرون من أهلها، ونزح منهم آخرون.

الطريق إلى المدرسة وسط المدرعات


طريق الطفلة "آية" إلى المدرسة يومياً يكون وسط المدرعات والكمائن. "كنا نشعر بالرعب كثيراً عندما كانت تُطلَق النيران من فوق سطح المدرسة". تؤكد أم "آية" كلام ابنتها، قائلةً: "أحاول أن أمنع ابنتي من الذهاب إلى المدرسة معظم أيام الدراسة".



الطفلة آية لا تخشى الذهاب إلى المدرسة، لكن أمها قررت أن عدم استمرارها في التعليم أكثر أمانًا

"هدى"، زميلة "آية" وصديقتها، والتي تصغرها بعام واحد، تدرس أيضاً في مدرسة جرادة، وتقول إن قوات الجيش وضعت قانوناً لتفتيش الطالبات في أثناء دخول المدرسة.

لكنّ كلاً من "هدى" و"آية" تتفق على أن آليات الجيش والمدرعات والمدفعية المتمركزة على بوابة المدرسة لم تُشعرهن بالأمان؛ لا داخل المدرسة ولا خارجها.

القلق الذي يعتري "آية" و"هدى" مبرر للغاية. فكمائن الجيش التي تستقر بالقرب من المدارس قد تهدد حياة الطلاب والطالبات؛ ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، قتلت قوات الجيش، المتمركزة أمام مدرسة الزهور بالعريش، الطفلة ندى أبو الأقرع، التي كانت تدرس بالصف السادس الابتدائي، بُعيد إطلاق القوات النار بشكل عشوائي تجاه من اشتبهت في كونهم مسلحين.

التلاميذ ليسوا المتضررين الوحيدين، فالمدرسون يعانون كذلك. تقول أسماء، وهي معلِّمة لمادة الرياضيات بإحدى مدارس رفح الابتدائية، إنها تشعر بـ"الإذلال" كلما ذهبت إلى المدرسة التي تعمل بها 3 أيام أسبوعياً.

"كنا نستاء من كمائن الجيش، وبعدها جاء تنظيم الدولة بكمائنه، لم يبقَ لنا إلا أن نترك المدارس للجيش والمسلحين".

مسلحو تنظيم الدولة كانوا قد استوقفوا حافلة دراسية في أثناء العام الدراسي الماضي وأمروا المعلِّمات بارتداء "اللباس الشرعي" في أثناء انتقالهم من العريش إلى رفح باعتبار أن رفح تابعة لـ"الدولة الإسلامية". تقول أسماء: "أخبرونا بأنهم لن يسمحوا لنا بدخول مناطق (الدولة الإسلامية) إذا ما وضعنا عطوراً أو مساحيق تجميل!".

معلِّمون آخرون يضطرون أحياناً إلى العودة من دون الوصول إلى مدارسهم؛ بسبب إغلاق الطرق الموصلة بين العريش ورفح ساعات طويلة.

فمنذ الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في انقلاب عسكري مدعوم شعبياً، تشهد سيناء، وتحديداً شمال شبه الجزيرة، تمرداً عسكرياً من مجموعات مسلحة، تضم بعضها مقاتلين أجانب، ضد قوات الجيش والشرطة.

وأدى هذا التمرد إلى مقتل العشرات من قوات الجيش والشرطة، وكذلك المئات من المسلحين، والمدنيين كذلك، الذين اضطر الكثير منهم إلى النزوح عن منازلهم؛ بسبب الاشتباكات المستمرة.

لكن كمائن الجيش، أو المسلحين، لا تقف خارج المدارس فقط، لكنها تعتلي أسطحها أيضاً.

الفصول الدراسية: حرفياً تحت النار!


داخل المدارس لا يختلف الأمر كثيراً عن خارجها. تتحدث "هدى" عما يجري داخل مدرستها؛ حيث يتحرك جنود الجيش بين الفصول الدراسية، وكثيراً ما يقوم أفراد الكمين بإطلاق النيران من أعلى سطح المدرسة باتجاه الطريق الدولي القريب.



أخبرتنا هدى عن تعرضها للتفتيش كثيرًا من قبل الضباط والجنود الذين يتمركزون في مدرستها

"الجنود والضباط يدخلون الفصول في أثناء الحصص الدراسية ليحققوا معنا عن أماكن وجود أولياء أمورنا، ويسألوننا عمّن يقوم بزيارتنا"؛ تتابع "آية" مرتبكةً: "لا أستطيع الإجابة عن كل الأسئلة، وأحياناً ما أهرب من الذهاب إلى المدرسة؛ بسبب هذه الأسئلة".

وعلى الرغم من الوضع الصعب للتلاميذ في مدرسة جرادة، فإن الأمر يزداد سوءاً في بعض المناطق الأخرى.

ففي حي أبو طويلة (جنوب مدينة الشيخ زويد)، استخدم الجيش مدرسة أبو طويلة المشتركة ككمين عسكري ثابت، وألغت السلطات التعليم فيها، وأجبرت التلاميذ على الانتقال إلى مدارس أخرى، وهو ما أخرج عدداً كبيراً منهم من منظومة التعليم بأكملها، حيث دُمرت مدارس المنطقة الجنوبية في مدينة الشيخ زويد بالكامل.

فمنذ منتصف 2013، بدأ قصف مدارس المنطقة، حيث هُدمت مدرستا اللفيتات الابتدائية والإعدادية بعد قصف جوي للجيش المصري؛ بسبب تحصن مسلحين تابعين لتنظيم "الدولة الإسلامية" بها، واستمر استهداف مدارس المنطقة بين قوات الجيش والمسلحين، فمثلاً، قُصف المعهد الأزهري بقرية المقاطعة جنوب رفح عام 2015 مرتين؛ مرة من قِبل الجيش بعد قيام مسلحين بإطلاق النار منها تجاه القوات الحكومية، في حين قصفها مسلحو تنظيم الدولة بعد أن سيطر عليها الجيش من أجل توجيه ضربات لأهداف تابعة للتنظيم جنوبي رفح.

حتى لو لم تتهدم المدارس بالكامل، فقد صار من الصعوبة بمكانٍ إتمام الدراسة فيها. ففي حي الزهور بمدينة العريش، يقف كمين الجيش فوق مدرسة الصناعة المتقدمة. يقول محمد أيوب، أحد طلاب المدرسة، إن إدارة المدرسة أوقفت أي عقوبات تجاه المتغيبين عن الدراسة بسبب الكمائن العسكرية التي تقف في ساحة المدرسة، كما أنه صار من المعتاد أن تراسل الإدارة الطلاب بإعطائهم عطلات ليومين عقب كل اشتباك يتم بين المسلحين وقوات الجيش المتمركزة في المدرسة.

"كفاية تعليم لحد هنا"!


"الحياة أهم من التعليم".. هذا ما يقوله جميع من تحدثنا إليهم.

قرية الطايرة (جنوب رفح) شهدت اشتباكات عنيفة، ونزوح الأهالي، وبالطبع، قصف المدارس.

تقول أم سعيد وعبدا لله -وهما طالبان في مراحل الدراسة المبكرة- وتقيم بقرية الطايرة، إن تنظيم الدولة أقام كميناً سماه "كمين الحسبة" بالقرب من مدرسة أولادها". منذ ذلك الحين، بدأ الجيش بقصف المدرسة، ومن بعدها منعت طفليها عن المدرسة. تقول أم سعيد بلهجة بدوية قوية: "بدناش التعليم، خللي (اترك) المدارس للجيش ولـ(ولاية سيناء)، كفاية اللي تعلموه (أولادي)، المهم بيعرفوا يكتبوا اسمهم".



سعيد وعبدالله من قرية الطايرة جنوب رفح، عائلتهم من العائلات التي قررت البقاء، هما وجميع أطفال القرية لا يذهبون إلى المدارس

لكن، على الرغم من قلقها الشديد من ذهاب أبنائها إلى المدرسة، فإن أم سعيد لا تستطيع الانتقال إلى المدينة؛ بسبب حالتها المادية الصعبة، ولا بعيداً عن قريتها رغم ما تشهده من قصف واشتباكات شبه يومية.

فتيات البدو أكثر تضرراً بفقدانهن التعليم. الحاج محمد سالم الترابين، أحد سكان الشيخ زويد الذين نزحوا منها إلى العريش، منع بناته من تلقي التعليم في مدينة العريش؛ "بسبب الوضع الأمني"، بعد فقدانهن مدرسة حي الترابين في جنوب الشيخ زويد. لكن كثيرين من أبناء قرى رفح والشيخ زويد رفضوا لبناتهن استكمال الدراسة مرة أخرى؛ "خوفاً من الاختلاط"، بعد أن انتقلن إلى العيش في المدن.

لكن، حتى لو أراد النازحون استكمال تعليم أبنائهم، فإنهم سيواجهون صعوبات بالغة.

بسبب ضعف البنية التحتية التكنولوجية في سيناء، لا تزال العديد من مدارس شبه الجزيرة تعتمد على المستندات الورقية في تخزين ملفات الطلاب والطالبات؛ ولذلك فقد احترقت أو تلفت العديد من ملفات الطلاب في هذه المناطق بعد قصف المدارس أو تهدُّمها. هذه الملفات هي التي تضم ماضيهم التعليمي بأكمله، هذا ما حدث في المعهد الأزهري بقرية المقاطعة.

وفي بعض المدارس التي لم تُدمر، أو تحترق ملفات الطلاب فيها، لم يستطع أولياء الأمور والأهالي الوصول إلى مستندات أبنائهم؛ بسبب خطورة الوصول إليها. يقول الأهالي الذين تحدثنا إليهم إن الكثير من المدارس التي لم يستخدمها الجيش في الضربات، قام المسلحون بتلغيمها وتفخيخها، كضمان لمنع الجيش من استخدامها كنقاط انطلاق ضد المسلحين.

لكن مع غياب المدارس، يحاول سكان سيناء إيجاد بدائل لتعليم أبنائهم.

سامح حجاب، وهو معلم بإدارة الحسنة التعليمية بوسط سيناء، يقول إن سوق التعليم الموازي والدروس الخصوصية ازدهرت؛ بسبب سوء الوضع الأمني وامتناع الأهالي عن إرسال أبنائهم للمدارس.

وفي مدينة العريش، زادت أعداد مراكز الدروس الخصوصية بعد انتقال طلاب رفح والشيخ زويد من النازحين إليها. وتقوم بعض العائلات، خاصة التي تعيش على أطراف المدن، بالتدريس على طريقة "الكُتّاب"، وبالتلقين، حيث يقوم أشخاص من بين النازحين المتعلمين بجمع التلاميذ من أبناء العائلات المهجَّرة وتلقينهم دروساً مختلفة في العلوم أو اللغة أو الحساب.



محمد، يقطن غرب العريش، لا يذهب للمدرسة بسبب الكمائن، ويكتفي بالدروس الخصوصية من المنزل

المأساة لا تنتهي بصافرة نهاية اليوم


لا تتوقف المعارك بين الجيش والمسلحين بعد رحيل الطلاب عن مدارسهم. ففي العديد من المناطق تنشط المجموعات المسلحة في المساء، حيث يقوم المسلحون بزرع الألغام والعبوات المفخخة في محيط المدارس والمعاهد التعليمية، ولا ينسون في أثناء ذلك تحذير الأهالي من الاقتراب.

الأمر لا يبدو عشوائياً تماماً، فقد تحدث إلينا اثنان من المعلمين داخل إحدى المعاهد الأزهرية في العريش، واللذان رفضا الإفصاح عن هويتيهما، وقالا إن المسلحين قاموا بزرع ألغام حول المعهد الأزهري الذي يعملان به بعد معرفتهم بِنِيَّة الجيش إقامة كمين هناك؛ "بسبب مكان المعهد الاستراتيجي وارتفاع طوابقه، حيث يطلُّ على جنوب العريش ومزارعها".

بالنسبة للأساتذة والطلاب والأمهات على حد سواء، لا يبدو الوضع قابلاً للاستمرار، ولدى سؤال أم آية عن استمرار ابنتها في الدراسة، نظرت وقالت بصوت خافت: "أخطار التعليم في سيناء أكثر من فوائده"، ثم تابعت وهي تضع يدها على صدرها في خوف: "لا أستطيع المغامرة، لن أضحي بابنتي أبداً!".

تحميل المزيد