قبل 5 سنوات، كان طارق عبدالحق واحداً من الملاكمين الشباب الواعدين في ترينيداد وتوباغو، إذ حصل على ميدالية لفوزه في إحدى ألعاب الكومنولث وكان يأمل في الفوز بالأولمبياد.
لكنَّه وفق تقرير صحيفة The Guardian يرقد الآن جثةً هامدة في مكانٍ ما بالعراق أو سوريا، مدفوناً بين أنقاض "الخلافة الإسلامة" التي نصَّبَت نفسها ذاتياً، بجانب العشرات من أبناء بلدته، فقد شكَّلوا معاً واحدة من أكثر التنظيمات غير المُتوقَّعة والمسكوت عنها المنجذبة نحو داعش.
تقع الدولة الكاريبية الصغيرة، التي يبلغ تعداد سكانها 1.3 مليون نسمة، على بعد نحو 10 آلاف كم من الرقة، العاصمة المزعومة لداعش سابقاً، لكن في أعنف أوقات تنظيم داعش دموية، كانت ترينيداد وتوباغو تُقدِّم له أعلى عددٍ من المُجنَّدين في العالم.
تركها أكثر ما يزيد على المئة من مواطنيها للانضمام إلى داعش، بما في ذلك نحو 70 رجلاً خطَّطوا للقتال والموت. وقال مسؤولون أمنيون إنَّ عشراتٍ من الأطفال والنساء انضموا إليهم أيضاً، وكان الأطفال يلتحقون بالتنظيم سواء برغبتهم أو دون ذلك.
على سبيل المقارنة: يُعتَقَد أنَّ كلاً من كندا والولايات المتحدة، اللتين يفوق عدد سكانهما ترينيداد كثيراً، قدَّمَتا أقل من 300 مُجنَّد اتجهوا إلى الشرق.
فيما استغلَّ مُروِّجو داعش قوة هذه القصة: الارتحال من دولةٍ جزرية كاريبية شاسعة غنية بالنفط والغاز إلى جبهاتِ حربٍ صحراوية.
أجرت مجلة "دابق"، المجلة الرسمية لتنظيم داعش، التي تستهدف المُجنَّدين والمتعاطفين المحتملين، مقابلةً طويلة مع المقاتل أبي سعد الترينيدادي (الذي كان يُدعى سابقاً شاين كروفورد) في صيف عام 2016، أوضح فيها بالتفصيل انضمامه ورحلته إلى سوريا، وكيف انتهى به الأمر يُهدِّد جيرانه المسيحيين بقتلهم وإراقة دمائهم.
وسارعت حكومة ترينيداد المُتوتِّرة إلى إدخال ضوابط جديدة على السفر والتمويل من شأنها أن تزيد من صعوبة الانضمام إلى أي مشروعٍ متشدد جديد، وسوف تتبَّع تحرُّكات أي شخص يحاول العودة إليها من جديد.
لم يحدث قط أن تعرَّضت الجزر لهجوم إرهابي، أو كُشِفَ عن مؤامرةٍ مُدبَّرة فيها، أو حتى صدر أي تهديد رسمي من داعش ضد ترينيداد وتوباغو.
غير أنَّ البلد يواجه الآن خطر أن يتمكَّن المواطنون الذين درَّبَتهم داعش من العودة لتجنيد جيل جديد من الشباب، أو أن يتجه هؤلاء المُجنَّدون المُحتَمَلون إلى طرق أخرى لممارسة العنف إذا لم تُتح لهم فرصة الانضمام لداعش.
نفذت انقلاباً فاشلاً
حسب The Guardian تمتلك الجزيرة صناعة نفطية وغازية دولية مزدهرة، وبالنسبة للولايات المتحدة، فهناك مخاوف مُحتَمَلة بشأن تهديد أكثر مباشرةً. ويمكن لمواطني ترينيداد السفر عبر البحر الكاريبي دون تأشيرات دخول، وقد سُجِنَ أحد مواطنيها بالفعل لتورُّطه في مؤامرةٍ عام 2007، هدفت إلى مهاجمة مطار جون إف كينيدي الدولي في نيويورك.
بعد شهرٍ من توليه منصبه، دعا دونالد ترامب كيث رولي، رئيس وزراء ترينيداد، لمناقشة الإرهاب، فيما حذَّرَت الحكومة البريطانية مؤخراً من وقوع هجمات إرهابية مُحتَمَلة في البلاد، بالرغم من أنَّها أصدرت تحذيرات سفر مماثلة لدول مثل إسبانيا وفرنسا.
ويُشكِّل المسلمون في ترينيداد نحو واحد من بين كل 10 من سكان البلاد، وبينما تتبع الأغلبية الساحقة أشكالاً معتدلة من الإسلام، فقد توجَّهَت أقليةٌ صغيرة إلى عقيدةٍ أكثر تطرُّفاً. عام 1990، دشَّنَ تنظيم يُدعى "جماعة المسلمين" محاولة الانقلاب الإسلامية الأولى والوحيدة في نصف الكرة الغربي، واحتجز حينها رئيس الوزراء والمشرعون رهائن لعدة أيام.
في نهاية المطاف، استعاد الجيش السيطرة، لكنَّ ياسين أبو بكر، الإمام الذي قاد الانقلاب، أُطلِقَ سراحه من السجن في غضون عامين بموجب صفقة عفو، ثم استأنف عمله في الدعوة الدينية.
في خطبةٍ حضرتها صحيفة The Guardian مؤخراً، قال أبو بكر إنَّ الدول الأوروبية ليس لديها تبرير أخلاقي لانتقاد نهج داعش في قطع الرؤوس لأنَّهم استخدموا المقصلة أثناء الثورة الفرنسية.
ونفى النائب العام، فارس الراوي، حقيقة أنَّ ترينيداد تواجه مشكلةً بعينها في التجنيد الداعشي أو التطرُّف الديني.
وقال في حوارٍ صحفي: "قد يبدو العدد أكبر منه في أي مكان آخر، لكنَّني لا أوافق إطلاقاً على أنَّنا نواجه مشكلةً أكبر بالضرورة. لا أعتقد أنَّنا أكثر عرضةً للتطرُّف الديني من أي دولةٍ أخرى".
الدين كان عذراً
بالنسبة للعديد من مُجنَّدي داعش في ترينيداد، كان الدين عذراً أكثر منه دافعاً، وفقاً لما ذكره عالم الأنثروبولوجيا ديلان كيريغان، المحاضر بجامعة ويست إنديز.
وقال إنَّ الشباب، الذي انضم كثيرٌ منهم إلى التنظيم حديثاً، أُغروا في الغالب بوعودٍ مالية والشعور بأنَّهم ينتمون لمجتمعٍ ما. كان هذا جذاباً بقدر الانتماء للعصابات في بلدٍ متزايد العنف.
وقال كيريغان، الذي عمل باحثاً في التطرُّف ضمن وحدات مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة: "توفر العصابة أسرة، ونموذجاً يُحتذى به من الرجال، ونظاماً اجتماعياً، ووعداً بالحصول على ما قد يعتقد كثيرٌ من الشباب أنهم يريدونه: المال والسلطة والمرأة والاحترام" .
وأضاف: "قال لي إمامٌ ذات مرة إنَّه بدلاً من الانضمام إلى عصابةٍ محلية، يرى البعض السفر إلى الشرق الأوسط انضماماً إلى عصابة أخرى".
وقال الراوي إنَّ سلسلةً من الإجراءات الجديدة، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل، تعني أنَّه سيكون من الصعب جداً على أولئك الذين غادروا ترينيداد الرجوع إليها دون الكشف عنهم.
يقول الناس الذين يعرفون بعض متطوعي داعش إنَّ معظمهم -وبعض من يعولونهم- قد ماتوا. وكان المهاجرون الوحيدون الذين عادوا إلى الجزيرة هم مجموعة عائلية اعتقلت في مخيم تركي للاجئين، بعد أن حاولت على ما يبدو الوصول إلى الأراضي التي تحتلها داعش وفشلت. وقال فارس إنَّهم يخضعون حالياً لمراقبة دقيقة.
لكنَّه استبعد المخاوف بشأن مزيد من التطرف، مُتحجِّجاً بأنَّ العديد من الذين سافروا إلى سوريا كانوا ببساطة مجموعة من المجرمين الذين يتطلعون إلى العودة بشيءٍ إضافي يميزهم عن منافسيهم.
وقال: "يرغب كثيرٌ من الناس في السفر إلى منطقةٍ مزّقتها الحرب فقط ليقولوا إنَّهم كانوا هناك ولينالوا ذلك "الشرف". يجب أن تفصل المتشددين الحقيقيين -المُعرَّضين للموت شهداءً من أجل قضيةٍ ما- عن المجرم الحقيقي الذي ينتحل هيئة وشخصية الإرهابيين".
ربما يكون الانضمام إلى داعش قد وفَّر أيضاً طريقةً عمليةً للهروب من القانون، فقبل احتفاء داعش بشاين كروفورد في مجلة دابق، كان مجرماً صغيراً احتجزته الحكومة أكثر من مرة، إحداها للاشتباه في تخطيطه لاغتيال رئيس الوزراء آنذاك. وسافر إلى سوريا مع صديقين أُطلق سراحهما في انتظار التحقيق.
لكنَّ بعض المنتمين إلى العائلات البارزة قد جذبتهم داعش أيضاً، وكان أبرزهم الملاكم طارق عبدالحق، فعمته باميلا إلدر كانت ضمن أكبر المحامين في البلاد، وكان والده يعقوب عبدالحق مسؤولاً كبيراً في الملاكمة حتى وفاته في عام 2012.
وكان عبدالحق يقرب أيضاً لفؤاد أبو بكر، ابن ووريث زعيم انقلاب عام 1990.
وقد دُمِّرَت المدارس، والعيادات، والمطاعم، والمصانع التي انتشرت في مجمع تنظيم جماعة المسلمين في الغالب بعد اعتقال أبي بكر، لكنَّ الحكومة استبقت مسجده الكبير المفتوح، حيث يدرس الأب والابن الآن. هناك مساحة لمئات من الرجال للصلاة في الطابق الرئيسي، فيما تجتمع عشرات من النساء في شرفةٍ لسماع خطب الجمعة.
يبدو أنَّ فؤاد، الداعية ورجل السياسة، قد ورث وجهات نظره الدينية من والده، وذلك بجانب طوله الشاهق والكاريزما التي يتمتَّع بها.
في حوار مع The Guardianتحدّث عن الرجال الذين ذهبوا للقتال لدى داعش بانبهار، وانتقد قانوناً جديداً يحظر زواج الأطفال باعتباره انتهاكاً للحقوق الدينية.
ورفض تقارير تناولت وحشية داعش، ونفى صحة إحياء التنظيم الإرهابي للاستعباد الجنسي، وقارن بين "الخلافة" وإسرائيل والفاتيكان.
وقال إنَّهم "يريدون الاستقلال وتشييد دولة إسلامية، ولهم الحق في تقرير ذلك المصير، فكيف يمكنك منع هؤلاء الناس من تشييد دولة إسلامية لأنَّها ليست ذات مركز سياسي مقبول؟ هناك دولة يهودية، وهناك دولة كاثوليكية".
وقال أبو بكر إنَّه يعرف العديد من الذين سافروا إلى سوريا، وأضاف أنَّه كان عليه اختيار كلماته بعناية عند مناقشة رحلاتهم، لتجنب انتهاك قوانين ترينيداد ضد دعم الإرهاب، لكنَّه عبّر عن إعجابه بهم بوضوح.
وأضاف أنَّهم "ليسوا أشخاصاً سيئين، بل هم من أفضل من عرفتهم، فهم ينتمون لجميع مناحي الحياة، منهم رجال أعمال قرَّروا للتو أنَّ هذا هو أصح ما يمكن فعله".
ثم، في استدعاء استثنائي لأحد أعظم أبطال المقاومة السلمية، أعاد صياغة بعض جمل خطاب 1963 لمارتن لوثر كينغ، تكريماً لأولئك الذين انضموا لتنظيم داعش شديد العنف.
وتابع: "قال مارتن لوثر كينغ إنَّ من لا يأبى الموت لأجل قضية ما لا يستحق أن يعيش، وأنا أحترم كل من هو مستعد للتضحية بنفسه من أجل تحسين حياة إخوته، وهذا ما يرى هؤلاء الأفراد أنَّهم يفعلونه".