لأكثر من 80 يوماً، ظلَّ مُحتَجَزاً، بمعزلٍ عن العالم الخارجي، في عاصمة المملكة التي تحمل اسم عائلته، بينما انتشر القلق بين أقاربه وشركائه من رجال الأعمال.
ثم، في يوم السبت 27 يناير/كانون الثاني، ظهر مجدداً الأمير الوليد بن طلال، وهو أشهر المستثمرين السعوديين وواحدٌ من أغنى أغنياء العالم، مُقدِّماً مقطع فيديو يتجوَّل فيه في الجناح الفاخر بفندق ريتز كارلتون في الرياض، ذلك الذي قال إنه كان منزلاً له على مدار الأشهر القليلة الماضية، وفق ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
ظَهَرَ بلحيةٍ رقيقة مهلهلة يتخلَّلها الشعر الأبيض، وأشار إلى حذاء رياضة التنس الخاص به، وإلى غرفة تناول الطعام، وسَلَطاته التي يتناولها، ثم رَفَعَ عبوة بيبسي دايت قبل أن يأخذ منها رشفةً.
قال في حوارٍ أجرته معه وكالة رويترز الأميركية: "أنا مرتاحٌ جداً هنا، لأنني في بلدي. أنا في مدينتي، لذا أشعر أنني في وطني". وأضاف: "لا مشكلة على الإطلاق. كل شيءٍ على ما يُرام".
وبعد ساعاتٍ قليلة، أُطلِقَ سراح الأمير الوليد وعاد إلى قصره بالرياض، وفقاً لاثنين من معاوني عائلته تحدَّثا شرط عدم الكشف عن هويتهما لأن إطلاق السراح لم يُعلَن رسمياً بعد.
لكن يُعتَقَد على نطاقٍ واسع أن حريته قد اشتراها من خلال تسليم جزءٍ من ثروته الطائلة للحكومة.
ويبدو أن إطلاق سراح الأمير الوليد يشير إلى تراجع العملية المُبهَمة التي استمرت زهاء شهرين ونصف، والتي قال مسؤولون سعوديون إن الغاية منها هي القضاء على الفساد المستشري. وبالإضافة إلى الأمير الوليد، كان 10 أمراء و4 وزراء على الأقل قد وُضِعوا قيد الاحتجاز في نوفمبر/تشرين الأول الماضي.
وأُطلِقَ سراح الكثير من المُحتَجَزين رفيعي المستوى الآن، ويبدو أن هذا جاء بعد أن بُرِّءوا أو وافقوا على تسليم أصول كبيرة من ممتلكاتهم للحكومة. ويشمل من أُطلِقَ سراحهم وليد الإبراهيم، المالك الرئيسي لشبكة إم بي سي، وهي شبكةٌ تلفزيونية فضائية، وخالد التويجري، الرئيس السابق للديوان الملكي، وفواز الحكير، صاحب شركة الحكير لأزياء التجزئة.
وبينما من المُنتَظَر أن يُرى ما إذا كانت الجهود من أجل اجتثاث جذور الفساد ستنجح أم لا، يتشكَّك الكثير من السعوديين في أن هناك هدفاً آخر كبيراً للزعيم الذي دبَّرَ حملة الاعتقالات، وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو إجراء تحوُّلٍ جذري في خريطة اللاعبين الرئيسيين في الاقتصاد السعودي، بهدفٍ واضحٍ بأن يُنصِّب نفسه في الدور القيادي فيه.
وقال ستيفن هيرتوغ، الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد، واصفاً مناورة وليّ العهد: "لقد نَجَحَت على المدى القصير، من خلال توليد بعض الأصول وتوطيد سلطته. وقد جنت شعبيةً بطريقةٍ ربما تمتص بعض الغضب إزاء إجراءات التقشُّف".
وأضاف: "لكن على المدى المتوسط والطويل، أعتقد أن الثقة بالقطاع الخاص قد تلقَّت ضربةً، ومن الصعب إعادة بنائها مرةً أخرى".
وقد اكتَنَفَت السرية العملية برمتها، بدايةٍ من الاعتقالات وحتى احتجازهم، حتى بات من غير الواضح على وجه التحديد مَن وُضِعوا قيد الاحتجاز، وبماذا يُتَّهَمون، وما نوعية الصفقات التي عليهم أن يبرموها كي يُطلَق سراحهم.
لكن الحوارات التي أُجرِيَت مع أكثر من 12 شخصاً، معظمهم تحدَّثَ شريطة عدم الكشف عن هويته لتفادي إزعاج وليّ العهد، قد أزاحت الستار عن بعض تفاصيل الاعتقالات وعن الوقت الذي قضاه المُحتَجَزون في محبسهم ذي الخمس نجوم.
بدأ الأمر بعاصفةٍ من الاتصالات الهاتفية من جانبِ الديوان الملكي.
وفي مطلع نوفمبر/تشرين الأول، دُعِيَ أمراءٌ ورجالُ أعمالٍ ووزراءٌ حكوميون لتناولِ الغداء مع الملك سلمان، أو لاجتماعاتٍ مع وليّ العهد، بينما قُيِّدَ آخرون في منازلهم واقتيدوا كالمجرمين. أُلقِيَ القبض عليهم جميعاً، واستقر معظمهم في ما صار معروفاً بأفخمِ سجنٍ في العالم.
هكذا كانوا يعاملون داخل السجن الذهبي
ويقف فندق ريتز كارلتون الرياض خلف أسوارٍ عالية وبواباتٍ مُزخرَفة، على الطريق السريع من حي السفارات. ولطالما كان الفندق يستقبل ضيوفاً مُمَيَّزين، وحينما نزل فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعائلته في مايو/أيار الماضي، خرجت الأعلام الأميركية والسعودية تُرفرِف على واجهته.
لكن الضيوف – أو النزلاء في هذه الحالة – الجدد بالفندق تلقوا استقبالاً بارداً.
حظى كلٌّ منهم بغرفةٍ خاصة، لكن كان عليهم أن يتركوا الأبواب مفتوحة، إذ يقف الحرَّاس بالخارج. كان بمقدور المُحتَجَزين أن يطلبوا خدمة الغرف وأن يشاهدوا التلفاز، لكن لا هواتف ولا إنترنت، لمنعهم من طلب المساعدة.
ظلَّت الغرف مُترَفة، لكن حبال الستائر وأبواب الحمامات الزجاجية قد أُزيلَت لمنع محاولات الانتحار. لم يكن مسموحاً لأيٍّ منهم أن يستدعي محاميه، الذين ربما يتمكَّنون من المساعدة، والكثير منهم أذعَنَ لتجريدهم من أصولهم الرئيسية.
وكان الكثير من المُحتَجَزين مُفرِطي الوزن أو يعانون مشكلاتٍ صحية، وبعضهم في السبعينيات من عمره، لذا كان هناك طبيبٌ يرصد احتياجاتهم الطبية. وبما أن ما مِن أحدٍ منهم كان قد حَزَمَ أمتعةً تكفي لإقامةٍ مُطوَّلة، جاء خيَّاطٌ وسجَّل مقاساتهم، وسرعان ما أعدَّت لهم ملابس جديدة.
وأخيراً، واجه مسؤولو الديوان الملكي المُحتَجَزين بالملفات على الأصول التي يقولون إنها مسروقة من الدولة كما ضغطوا عليهم لنقلها إلى الحكومة.
ويتزعَّم الأمير محمد بن سلمان الجهود المبذولة لتنويع مصادر اقتصاد المملكة وتخفيف تقاليدها الاجتماعية الصارمة، وقال إنه يؤمن بأن الحملة بإمكانها استعادة أكثر من 100 مليار دولار من المكاسب غير المشروعة.
ويعتقد البعض أن حملة مكافحة الفساد التي يقودها وليّ العهد قد تكون طريقةً فعَّالة لمعالجة مشكلة لطالما أزعجت المملكة.
قال برنارد هايكل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون الذي يدرس المملكة العربية السعودية: "في رأيي أعتقد أن الحملة تُعد بمثابة تقييدٍ للممارسات وطرق التصرُّف بل إنها قد تقضي عليهما تماماً، بخلافِ ما يراه عددٌ قليل من الناس".
وأطلق آخرون عليها أنها محاولةٌ للابتزاز، مشيرين إلى أن المُحتَجَزين قد حُرِموا من التواصل مع محاميهم ومُنِعوا من التفاوض بحريةٍ أو الدفاع عن أنفسهم.
قال جمال خاشقجي، وهو صحفيٌ سعوديٌ مخضرم رحل إلى منفى اختياري بالولايات المتحدة: "يبدو الأمر وكأنه لعبة احتكار مع مجموعة من الأشخاص ولكنك أنت من تتحكَّم في كل شيء، وبإمكانك تغيير القواعد، وعلى كل شخصٍ أن يبقى على الطاولة ويستكمل اللعب معك".
ويقول مُنتقِدو الأمير محمد إن ما تجنيه جهود مكافحة الفساد تلك هي التكتيكات التي تهدف إلى زيادة سيطرته على الاقتصاد مع كبح قوة خصومه وسيطرتهم.
وأحدَثَ اعتقال الأمير الوليد، أحد أحفاد مؤسس المملكة مثل الأمير محمد، صدمةً كبيرة هزَّت المجتمع التجاري الدولي الذي كان يرى أنه أحد الأشخاص الأكثر صراحة في المملكة التي تتميَّز بالخصوصية عامة، كما أُطلِقَ عليه وارن بافت الشرق الأوسط وقدَّرَت مجلة فوربس الاقتصادية الأميركية صافي ثروته بقيمة 17.4 مليار دولار.
توقَّف النقد الدولي للإجراءات القمعية ربما لأن الحكومات أرادت بناء علاقات جيدة مع الأمير محمد، الذي يمكن أن يُصبح ملكاً عمَّا قريب، ورغب رجال الأعمال في الإبقاء على خياراتهم مفتوحة.
وبالإشارة إلى قواعد الخصوصية، لم تُصرِّح الحكومة السعودية علناً من قبل عن سبب اعتقال الأمير الوليد، لكن البعض خمَّن أن هذا يعود إلى أنه قد أخذ قرضاً ملكياً بعد أن غرقت استثماراته في الأزمة المالية عام 2008 ولم يُسدِّده بالكامل.
وقال آخرون مِمَّن قابلوا الأمير الوليد إنه انتقد بشكل خاص البرنامج الإصلاحي للأمير محمد واصفاً إياه بأنه مُضلِّلٌ، ما أثار غضب الزعيم الشاب.
وفي مقابلة الأمير الوليد مع وكالة رويترز في وقتٍ مُبكِّرٍ من يوم السبت، لم يخلع نظاراته الشمسية قط وكان يشرب من كوبٍ عليه وجهه، وقال إن اعتقاله مُجرَّد "سوء فهم" سيتضح قريباً.
وقال الأمير حسب نص المقابلة: "أنا واثقٌ تماماً من أن العملية التي تجري هي عملية نظيفة ونحن نتناقش مع الحكومة بشأن العديد من الأمور التي لا يمكنني الإفصاح عنها الآن، لكنني موقن تماماً أننا في نهاية المطاف".
ولم يكن واضحاً ما إذا كان الأمير قد تحدَّث بحريةٍ أم لا، لكن بعد مرور ساعات قليلة أُطلِقَ سراحه من فندق ريتز كارلتون وعاد إلى منزله.